1

قراءة في”عيون مالحة” للروائي قاسم الساحلي ـ د فاتن المر

د فاتن المر

كيف يحيا الوطن؟ يقف ثائر في وجه الظلمات ويصارع حتى ينقل الشعلة إلى ثائر من جيل جديد

كيف يحيا الأدب؟ يأتي أدباء يحملون رسالة التجديد ويصارعون حتى تنجلي ظلمات الأقبية ويخرج الأدب إلى فجر جديد.

كم تنين يصارع قاسم الساحلي، الأديب الثائر، في مجموعته القصصية الموسومة بعنوان “عيون مالحة”؟

يتمرد أولاً على الحدود بين الأجناس الأدبية. يقول الشاعر الفرنسي Henri Michaux إن الأجناس الأدبية أعداء لا يخطئون أهدافهم. لكن الساحلي يجترح طريقة لمواجهتهم ويصنع أدباً له سماته الخاصة سائراً بما يسمى في الأدب الحديث بالخرق أي التعالي فوق السائد la transgression إلى حده الأقصى، وحدُّه الأقصى سلاسة تبعدهم التمييز عن قارئه. يتخطى القارئ التصنيف ولا يرى ضرورة في وضع ما يقرأه في خانة الشعر أو القصة، فما يقرأه لا ينتمي، بلغته المبتكرة إلا لما يسمى الشكل الأعلى. يمضي حيناً في خط مستقيم يمتد إلى الأمام مستعملاً ترسيم القصة من الوضع الأولي إلى الحدث المفاجئ حتى الوضع النهائي كما في “ليس بعيداً” التي نتابع فيها بشوق قصة الكوخ حيث تباع المخدرات ويرتفع منسوب التوتر مع اقتراب البطل الشاب من الكوخ ومواجهة عرض تاجر المخدرات. هل سيرضخ؟ يسير بنا خط القصة إلى انفراج الحل بعد أن يبلغ التوتر أقصاه. وأحياناً، يدور النص حول نفسه بشكل دائري مثل الشعر، يصرح حيناً بالمعنى ويقول الحقائق مباشرة كالنثر، ويوحي كالشعر معتمداً البلاغة والغموض أحياناً أخرى، متلاعباً بالمألوف، مغالٍ في الانعطاف، سابراً أعماق الاستعارة، متوجهاً إلى فهم من نوع آخر، يجبر القارئ على تفقد المعنى في أعماقه هو، على مساءلة حساسيته وثقافته عله يكتنه بعض ما أراده الشاعر. ويتزاوج الجنسان الأدبيان بين مسار القصة والعدول الأقصى الذي يميز الشعر لينتجا أدباً مجدداً جاداً، من أدب الحياة..

التنين الثاني الذي يصارعه قاسم الساحلي هو تنين الشر الذي ينهش الحياة الاجتماعية.. بين قطبي الرمز والواقع يتجلى لدى الكاتب وعي اجتماعي وثورة على الظلم تستجمع صوراً ينسجها الوجدان راية ترفرف في وجه الفقر والإجحاف والاستكبار. قد يتسلح بالسخرية في مواجهة جنون لا تليق به إلا الضحكة المشوبة بالغضب والمرارة، كما في قصة الانتحاري الظلامي اللاهث خلف الحوريات ووصيفاتهن الذي يفاجأ بخطأ إداري أحاله إلى عروس دميمة، أو قصة الجمل الذي يجبر على تناول وجبة الهمبرغر: “وسجلوه ناطقاً رسمياً باسم دور الأزياء والسينما، والمعارض الفنية، وشركات الهواتف الذكية، …وباسم منظمات حقوق الحيوانات المشردة، وممثلاً فخرياً للجوائز العالمية، وراعياً للسلام في كل المدن المنكوبة، وصار اسمه علامة تجارية في الحانات والملاهي الليلية، وأندية المراهنة العالمية، ومباريات مصارعة الثيران، وسباقات البعير..”

لكن الصورة التي يرسمها ليست قاتمة، إذ يبتكر شخصيات إشكالية تواجه الظلمات، تسبح عكس التيار، لا تبخل بالتضحيات والعطاء. ويحمّل في أكثر الأحيان، الطفل مهمة الإنقاذ. الطفل هو البطل الذي يواجه المارد الجائر يهزمه حينا كما في قصة الطفل الذي دمر الكوخ، والطفل الذي يخدع التاجر بروايته، أو ينكفئ أمام جبروته فيأتي الأدب ليحول استشهاده إلى شهادة حياة كما في قصة الطفلة التي قتلتها رصاصة طائشة فأزهرت التينة التي ارتوت بدمائها. فالطفل منذ أقدم الحضارات رمز للبداية، ورمز للتجدد، لهذا السبب اقترن رمز الطفل بالأرض والماء وهما ابتداء الحياة وتجددها. الطفل هو المخلص والمخلص طفل.

كما يصارع الساحلي التنين الذي يسعى إلى التهام الهوية.

يبني الراوي هويته من رموز طفولته، من رغيف يجمع بين رحيق الأرض ورحيق الأمومة. يكتب: “عندما كان خبزنا ذا حروف، كنا ننظر إلى يديّ أمي بعين التقديس، وإلى عينيها الغائمتين بالدخان بروح الحب واليقين.. ونرى في ثيابها المرشوشة بالطحين وجه الأرض بعد باكورة ثلج في كانون.” وقد يتساءل القارئ عن السبب الذي يدفع كاتباً شاباً إلى استذكار الماضي على طريقة البطل الرومنطيقي غير المنسجم مع حاضره والباحث عن ملاذ في صور الطفولة المنصرمة. هو حنين من يعيش في عالم يتحول بسرعة فائقة آخذاً في دورانه معالم ظنناها دائمة، هو حنين حاضر الوجبات الجاهزة إلى ماضي الوعاء الذي يتصاعد منه بخار الطعام الذي تعده الأم. من تلك الطفولة الجميلة في فيء والدين محبين، كما من تجارب الظلم المبكرة نشأ ليصبح ما هو عليه، شاعراً مهمته طرح الأسئلة الصعبة. يقول الراوي عن الشخصية المروية بعد مواجهته سادية أستاذه الكسول وتلقيه الضربات على كفيه الطريتين: “أغمضت عينيّ وحين فتحتهما، وجدت وجه معلمي قد صار أسود، فعرفت حينذاك أن الأرض اجتازت مدارها في دورانها وهي تستعد لليل فيه الكثير من الأشباح والكوابيس.. لكن في آخره شمس جديدة تحب اللعب والدوران، على مرآتها ثمة طفل بيده كرة وعلى رمشيه بقايا غبار وطحين، وتعرش على شفتيه أسئلة صعبة كحور الخريف..” يستحضر الكاتب بعض الأشياء من الماضي فتغدو معالم يستدل بها في طريق تكوين هويته: الصحن الذي يحمل نقش روميو وجوليات، القنديل، أشياء لا تكتفي بحفظ الذاكرة الفردية، بل تساهم في تشكيل الذاكرة الجمعية، وبالتالي الهوية المهددة بالتلاشي على وقع غزوات ثقافية يومية ومغرضة، كما أن مجموع هذه الأدوات تضمه جدران المنزل الذي يرى فيه المفكر غستون باشلار رمزاً للشخصية، صورة لما يسميه طوبوغرافيا الذات العميقة.

كما يستحضر رموز أساطير حديثة بناها مقاومون اجترحوا ما يشبه المعجزات، فيكتسي الحذاء الذي يرتديه المقاوم هالة من القدسية، وتطل علينا عهد التميمي وهي ت

توقيع كتاب “عيون مالحة” 18 آذار 2019 في الهرمل

صفع الفزاعة التي تلتهم عيون العصافير الصغيرة بينما ينام حراس المدينة “منذ ستين وأكثر”. ويطل أحمد جرار من عليائه ليتلو علينا صلاة الفجر: “حي على الرصاص.. أحمد قام، حقاً قام..”

هكذا يصل الراوي إلى نقطة الالتقاء بين الماضي والحاضر، هكذا تتشكل هويته في قراءة ناقدة ومحبة للموروث الاجتماعي كما الديني، فيرى الله في جمال مخلوقاته وفي ميلهم إلى العطاء.

 ينتمي الساحلي إلى مجموعة من الشعراء الشباب الذين يعدوننا بنهضة أدبية تمسح الغبار عن سنين طويلة من القحط. لهم أقول:

تظهرون وقد أنهكنا التعب، تبدؤون من حيث نكاد نتوقف، كأننا عاشق الكتب الخائب الذي صوره النص الأول من المجموعة، وهو يكتشف أن الزمن لم يعد زمنه وأن لم يبق له إلا الاستسلام والتقاعد. كأن قاسم الساحلي يتقدم من الستينيّ الحزين ويساعده على النهوض ويوقظ الحياة في كتبه. أنصتوا معي: أسمع دبيب حياة جديدة في الشرايين المتعبة.