قانون الأحزاب السوري يكذّب عروبة البعث-شحادة الغاوي
كان حديث وزير الخارجية السوري وليد المعلم الاثنين 17-12-2018، خلال لقائه أساتذة وطلاب جامعة دمشق، تعليقاً على زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، حديثاً خطيراً وهاماً جداً يجب ألاّ يمر مروراً سريعاً دون توقف وتعليق. أهم ما قاله الوزير المعلم فكرتان اثنتان هما:
1 – إن سورية، رغم الازمة التي مرت بها وتآمر بعض الدول العربية عليها، تؤمن إيماناً عميقاً بالعروبة.
2 – إن ما جرى في العالم العربي وضمنه سورية سببه الخلل في العمل العربي الذي لا بد من تصحيحه. (عن جريدة الوطن السورية)
إن أهمية هذا الموضوع وخطورته تكمنان في أننا لأول مرة نسمع مسؤولاً سورياً رفيعاً يتحدث عن إيمان عميق بالعروبة في معرض الحديث عن أزمة وتآمر وخلل لا بد من تصحيحه! فالإيمان العميق بالعروبة لدى البعثيين كان على مدى ستين سنة شيئاً مقدساً نزيهاً خالصاً مثالياً لا يمكن ولا يجوز قرنه بأي نوع أو شكل من اشكال الخلل أو الخطأ الذي يجب تصحيحه. العروبة البعثية كانت للبعثيين تاج الفضائل، وكانت العلاج لكل الامراض والازمات الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانت هي الحل السحري لأي خلل من أي نوع، وبالتالي كانت منزهة في ذاتها عن اي أزمة أو شبهة خلل أو خطأ يجب إعادة النظر فيه لتصحيحه
.
هذه المقالة يكتبها سوري قومي أجتماعي لتناقش مضمون العروبة التي يؤمن بها البعثيون “إيماناً عميقاً”، ولتبين أن الأزمة والخطأ والخلل يكمنون تحديداً في مضمون هذه العروبة البعثية نفسها، وليست فقط مجرد أزمة وخلل وخطأ في “العمل العربي الذي لا بد من تصحيحه”. إن الخلل هو خلل علمي وعقائدي معاً يتعلّق بالمفاهيم والنظرة الى العروبة ومعناها ومضامينها، وليس مجرد خلل سياسي يتعلّق بالعمل العربي والعلاقات السياسية بين دول العالم العربي وعلاقة هذا العالم بالعوالم الاخرى والسياسات الاخرى في العالم.
هذه المقالة هي لتقول إن ما لا بد من تصحيحه هو شيء ذاتي داخلي يتعلّق بنا كسوريين وبنظرتنا الى أنفسنا والى الآخرين، قبل أن يكون شيئاً يتعلق بتآمر بعض الدول العربية علينا.
أولاً: العروبة الوهمية والعروبة الحقيقية
لقد صار معروفاً ومحسوماً أن هناك مفاهيم عديدة للعروبة ومضامينها، وأن الحديث عن الإيمان العميق بالعروبة دون تعيين وتحديد، وكأن العروبة لها مفهوم ومضمون واحد أحد، هو حديث تعمية يزيد الموضوع غموضاً والتباساً ولا يقدّم فكرة واضحة ولا موقفاً واضحاً، لا سياسياً ولا فكرياً. وأن مجرد الحديث عن أزمة وتآمر وخلل لا بد من تصحيحه، لهو أقرار صريح وفصيح بأن للعروبة والعمل العربي مفاهيم وأعتقادات ونظرات ومقاربات متعددة ومختلفة وأحياناً متعارضة، وليست العروبة مفهوماً واحداً وليس لها مضمونٌ وحيد.
فالعروبة البعثية القائمة على أساس ديني ولغوي وعنصري (عفلق، الحصري، الارسوزي) والقائلة بأمة عربية واحدة ووطن عربي واحد من المحيط الى المحيط، هي غير العروبة المصرية الناصرية القائمة على اساس إقتصادي سياسي مصري، وهي غير العروبة السعودية القائمة على أساس ديني سياسي عائلي، وهي بالتأكيد غير العروبة السورية القومية الاجتماعية القائمة على اساس علمي واقعي يرى مصلحة حقيقية للجميع في إقامة جبهة عربية واحدة.
ولا شك في أن كل من هذه العروبات تعتبر أنها هي العروبة الصحيحة وأن غيرها هي العروبة الزائفة. ولا شك في أن الحرية، حيث الحرية صراع فكري ينتج عنه دائماً غالب ومغلوب، هي الطريق والطريقة لتقرير الحق من الباطل حيث الحق أنتصار في معركة العقائد والباطل هو انخذال في هذه المعركة. وأن من أخطر وأبشع الوسائل في التاريخ هي وسيلة أستعمال السلطة- القوة في فرض العقائد فرضاً على الناس وأستعمال القانون لقمع تفكيرهم والحجز على حريتهم وحرية عقائدهم.
نقول ذلك حيث نجد أن قانون الاحزاب السوري الذي أُقِر سنة 2011 يتدخل في عقائد المواطنين ليقمعها بالقانون لدرجة أنه يمنع على السوري المولود في لبنان أو الاردن أو فلسطين وغير الحائز على جنسية الجمهورية العربية السورية، أي جنسية سايكس بيكو، من العمل السياسي والانخراط في الاحزاب السياسية السورية. ليس ذلك فقط، بل أن القانون يمنع حتى على السوري المقيم خارج أسوار الجمهورية العربية السورية من أن يكون عضواً مؤسساً ومسؤولاً لحزب سياسي سوري، ويفرض عليه إثبات إقامته ضمن أسوار جمهورية سايكس بيكو بأفادة من مختار المحلة التي يقيم فيها، حتى ولو كان هذا السوري حاملاً جنسية الجمهورية العربية السورية!! (المادة 12 من اللائحة التنفيذية للقانون).
وكأن الدولة- السلطة تشكك في وطنية وأخلاص مواطنيها النازحين أو المغتربين الذين أبعدهم الفقر والقهر والظلم من مناطقهم ومن وطنهم، ولا تثق بهم وبولائهم لوطنهم سورية، وتمنعهم من العمل الحزبي العقائدي والسياسي، إلا بعد عشر سنوات من عودتهم اليه!!
استثناء وحيد يلحظه القانون من شرط التمتع بجنسية جمهورية سايكس بيكو، وهو استثناء “أجانب الحسكة” (المادة 16 من القانون). ويقصد بأجانب الحسكة المواطنين السوريين من أصول كردية غير عربية المقيمين في سورية منذ ألاف السنين، لكن القومية العربية أعتبرتهم أجانب وحرمتهم من مواطنيتهم الكاملة ولم يحصلوا على الجنسية السورية القانونية إلا منذ اقل من خمس سنوات. فمبروك “لأجانب الحسكة”.
لذلك يعتقد الكثيرون أن قانون الاحزاب الانعزالي الجائر وضعه بعثيون لمصلحة حزبية بعثية وليس لمصلحة وطنية- قومية عامة، عربية أو سورية، وكأن هذا القانون فُصلَ لضرب الحزب السوري القومي الاجتماعي وتقسيمه على قياس سايكس بيكو، فهذا الحزب هو الحزب الوحيد في سورية كلها الذي لا يقف عند حدود سايكس بيكو الاستعمارية، ويبدو بذلك أنه الحزب الوحيد الصادق في عقيدته ومبادئه القومية. فالحزب السوري القومي الاجتماعي، حسب قانون الاحزاب البعثي، ممنوع من العمل في الشام كما هو وكما هي عقيدته القومية. وكأن هذا القانون البعثي يقول: مسموح ومطلوب من السوري المولود خارج أسوار جمهورية سايكس بيكو بأن يحب وطنه سورية وشعبه السوري ويقاتل ويستشهد من أجله في درعا ودمشق وغوطتها وفي حمص وحماه وحلب ودير الزور، ولكنه ممنوع من العمل الحزبي العقائدي والسياسي ولا يحق له ذلك!!
ثانياً: مكامن الخلل الذي لا بد من تصحيحه
1 – ما هذه العروبة التي تؤمنون بها إيماناً عميقاً والتي تميز في الحقوق بين أبناء الوطن الواحد؟ أعتبرونا عرباً ولدنا في لبنان أو العراق، فلماذا تمنعوننا من العمل العقائدي والسياسي في الشام؟ نحن مثلكم نؤمن إيماناً عميقاً بالعروبة فلماذا يحق لكم ما لا يحق لنا؟ ألسنا مثلكم عرباً وقوميتنا عربية وأمتنا عربية ووطننا هو الوطن العربي من المحيط الى المحيط؟ فلماذا يحق لكم ما لا يحق لنا؟ فالخلل يا ناس هو إذاً خللٌ موجود في عروبتكم نفسها، هذه العروبة التي تميز في الحقوق بين أبناء القومية الواحدة والامة الواحدة والوطن الواحد.
2 – ما هذه العروبة التي تؤمنون بها إيماناً عميقاً والتي تعتبر بعض السوريين في سورية “أجانب” لا ينتمون الى قوميتكم وليسوا جزئاً لا يتجزأ من أمتكم، لمجرد أنهم لا يتحدرون من العنصر العربي ولغتهم الاصلية غير عربية؟ ما هذا اللغو؟ ما هذه الجهالة الكاملة التي تعتبر ملايين الناس المنتمين الى وطننا لا ينتمون الى أمتنا؟! ينتمون الى وطنيتنا ولكن لا ينتمون الى قوميتنا؟! وغيرهم ممن هم أجانب بالفعل وليسوا مواطنين سوريين، تعتبررونهم من أمتنا وقوميتنا!! إنكم تُخرِجون ابناء وطنكم من قوميتكم وتستبدلونهم بأبناء أوطان أخرى!!
إنكم تريدون تقسيم ما جعلته الطبيعة والحياة واحداً، وتوحدون ما جعلته الطبيعة والحياة مقسماً.
لقد حان الوقت أن تتعلموا معنى الوطن والامة والقومية وتدركوا “العلاقة الحيوية غير قابلة الفصل بين الامة والوطن، وأن الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم فيه وحدة الحياة”. إن فهم الامور علمياً يُخرِج معنى الامة من الخضوع لتأويلات دينية وسلالية ولغوية مغايرة لوضع البلاد ومنافية لمصالحها الحيوية الأخيرة ومهددة لوحدتها ووحدة حقوق ومصالح أبنائها. كنا ننتظر منكم أن تجاروا سيادة الرئيس الاسد وخطابه المتقدم الذي يساوي الاكراد في المواطنية وحقوقها الكاملة مع باقي السوريين حيث قال في 20 آب سنة 2011 حرفياً
“سورية، من دون أي مكون من مكوناتها، لا يمكن أن تكون سورية التي نعرفها ولا يمكن ان تكون مستقرة، سورية لا يمكن ان تكون مستقرة إن لم يشعر كل مواطن أنه أساس وليس ضيفاً وليس طائراً مهاجراً لا يمكن ان يكون وطنياً…. ونعتبر الحالة الوطنية العامة بالنسبة للأكراد والعرب وغيرهم هي بديهية.”
وقال أيضا: “نحن نتحدث عن حضارة عمرها خمسة آلاف عام على الأقل. ربما منذ كتب التاريخ وقبل ذلك، لا نعرف. ولكن بكل تأكيد كنا موجودين قبل ذلك بكثير، فهذا الشعب موجود وفي كل مرحلة من المراحل في التاريخ كان يصبح اقوى، ومن هنا أتت الحضارة السورية بشكلها الراهن، ولا يمكن أن تسقط إلاّ إذا أتت أزمة وأنهت سورية بشكل كامل، ولا أعتقد أننا في أزمة ستنهي سورية”.
كنا ننتظر منكم الاقتداء بسيادة الرئيس وتطوير الخطاب البعثي التقليدي باتجاه المزيد من فهم وحدة حياة جميع السوريين بكل عناصرهم واصولهم العرقية واللغوية، وفهم وحدة مصالحهم ووحدة مصيرهم في وطنهم الواحد، وإدراك أن هذا بالضبط هو معنى الأمة، وأن هذا بالضبط هو معنى القومية. فالأمة هي وحدة حياة الشعب المتولدة منذ ما قبل التاريخ الجلي بفضل تفاعل عناصره مع بعضها ومع وطنها الواحد الذي يحضنها ويوحد حياتها ومصالحها ومصيرها. والقومية هي هذا الفهم وهذا الادراك، هي يقظة الامة وتنبهها لوحدة حياتها ومصالحها ومصيرها في وطنها الواحد، بغض النظر عن تعدد أصولها العرقية والدينية واللغوية.
3 – ما هي هذه العروبة التي تؤمنون بها إيماناً عميقاً والتي تعتبر أبناء الوطن السوري الواحد والمجتمع السوري الواحد أمماً وقوميات متعددة عددها عدد أصولها اللغوية أو العرقية أو الدينية؟ وتقولون إن السوري من أصل كردي وطنيته سورية لكن قوميته كردية وليست عربية؟؟ ما هذا المفهوم العنصري للقومية؟ ألا تعلمون أن القومية هي النسبة للقوم؟ ألا تعلمون أن القوم هم أبناء المجتمع الواحد الذي وحّدته الحياة ودورتها الاجتماعية الاقتصادية في الوطن الواحد؟
أولم تعرفوا بعد أن الأزمة الكردية التي وصلت لدرجة التهديد بالانفصال وتجزئة سورية وتقسيمها والارتماء في أحضان الأعداء والاستقواء بهم، سببها الرئيس هو عنصرية قوميتكم العربية وتمييزها بين عربي وكردي وحرمان الأكراد من مواطنيتهم السورية المتساوية مع بقية السوريين في الحقوق المدنية والسياسية؟ وأن المسالة الكردية وأزمتها ليست بسبب “الخلل في العمل العربي” بل بسبب الخلل في نظرتنا الى أنفسنا كسوريين واعتبارنا أنفسنا أمماً وقوميات بدل أن نكون أمة واحدة وقومية واحدة فوق أرض وطننا الواحد سورية؟
إن قانون الاحزاب الذي وضعتموه والذي زينتموه بعبارات الوحدة الوطنية وتعميق الشعور بالمواطنية، وبعبارات وشعارات جميلة مثل: “عدم قيام الحزب على أساس ديني أو مذهبي أو قبلي أو مناطقي أو على أساس التمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون” لا يتفق مع قوميتكم العربية ذات الاساس الديني والعرقي العربي نفسها، مما يبرهن أن عدم التمييز هو كلام تجميلي فقط. فلو كان عدم التمييز حقيقياً وجدّياً لكان حزبكم هو أول حزب يجدر منعه من العمل السياسي في سورية لأنه يميز بين الكردي والعربي على أساس عرقي وليس فقط على أساس لغوي. لولا هذا التمييز العرقي لاعتبرتم الأكراد الذين اكتسبوا اللغة العربية وتكلموها، عرباً مثلكم مساوين لكم في قوميتكم العربية. إن إستمراركم في إخراج السوريين الأكراد من قوميتكم العربية رغم أكتسابهم اللغة العربية وتكلمهم بها، هو دليل أنكم تميزونهم على اساس عرقي وليس فقط على اساس لغوي.
إن قانون الاحزاب الذي وضعتموه، فضلاً عن أنه يميز بين سوري مقيم منذ أكثر من خمس سنوات وسوري غير مقيم أو مقيم منذ أقل من خمس سنوات، ويسمح لهذا ويمنع ذاك من العمل السياسي في سورية، فإنه يميز بين السوريين على أساس مناطقي أيضاً. إنه يميز بين سوري من الشام من داخل أسوار سايكس بيكو وسوري من لبنان أو فلسطين مثلاً، فيسمح لهذا ويمنع ذاك من العمل السياسي في سورية. هل أصبح عندكم ابناء لبنان وفلسطين والعراق وشرقي الاردن أجانب في سورية فتمنعونهم من العمل العقائدي والسياسي والانخراط في الاحزاب السورية؟ فما معنى قوميتكم العربية إذاً وما معنى وطنكم العربي الواحد من المحيط الى المحيط، وما معنى قولكم بأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ما هي هذه الرسالة الخالدة وما علاقتها بقانون الاحزاب الانعزالي الجديد؟
بل ما هي علاقة الرسالة الخالدة بقانون وزارة الاوقاف الذي أعاد سورية الى عهد الدولة الدينية التي كانت من أهم أسباب تقسيمها وتخلفها. هل الرسالة الخالدة هي رسالة دينية وعنصرية عربية؟ وهل تتفق مع رسالة السوريين الى العالم عبر التاريخ حيث كان السوريون رواداً في الفلسفة والعلم والتشريع والقانون والفن والموسيقى والحرف والابجدية، وكانت سورية أمة معلمة وهادية للأمم ومنها أكتسب الاغريق والرومان وتعلموا، حتى أنه قيل: “لكل مواطن في العالم وطنان، وطنه الأم وسورية”.
إن هذا القانون هو القانون الثاني، بعد قانون وزارة الاوقاف، الذي يلقي بثقله على السوريين ووحدتهم ويهدد شعورهم بأنهم مجتمع واحد. إننا نرى أن السوريين قد أنتصروا في هذه الحرب الظالمة التي شنتها اليهودية الصهيونية عليهم وأتخذت من بعضهم أدوات لها، واستفادت كثيراً من تزعزع الوجدان القومي السوري وضعفه، ومن هيمنة الدين والمذهبية والتعصب الطائفي والعرقي. إننا تعتبر أن السوريين قد أنتصروا، فما بالكم تهدرون هذا الانتصار وتتمسكون بعوامل التمييز والقسمة وتصدرون القوانين الطائفية والانعزالية؟!
إن هذا القانون يكذّب قوميتكم العربية نفسها، وإن إيمانكم العميق بالعروبة لم يعد عميقاً ولم يعد مقنعاً. لا بد من إعادة النظر، إن هناك بالفعل “خللاً لا بد من تصحيحه“.
شحادة الغاوي- 8-01-2019