عودة إلى نظام سعاده الاقتصادي-حنا الشيتي*
اعتبارا من هذا العدد، تبدأ الفينيق بنشر هذه الدراسة للرفيق حنا الشيتي التي تهدف إلى شرح بنود المبدأ الرابع من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الإصلاحية.
ما يلي هو مقدمة يتبعها أربعة أقسام أخر، يختص الأول منها بشرح المشكلة الاقتصادية من وجهة نظر سعاده، ثم لبحث البنود الاقتصادية الثلاثة التالية: تنظيم الاقتصاد وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة، كل واحدٍ منهم في قسم.
القسم الأول: المقدمة
في أكثر من موضع، يذكر سعاده أن عقيدة الحزب الاجتماعية مؤسسة على مبدأه الإصلاحي الرابع، وهو القائل بـ “إلغاء الإقطاع، وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل، وصيانة مصلحة الأمة والدولة“. ومن الأمثلة على ذلك قوله في مجلة “الزوبعة” عام 1942، إن “المبدأ الإصلاحي الرابع من مبادئ الحزب السوري القومي… يتضمن العقيدة الاجتماعية للسوريين القوميين الاجتماعيين“1
. وكذلك قوله في إحدى مقابلاته الصحافية عام 1947، إنه أضاف لفظة “الاجتماعي” إلى اسم الحزب للدلالة على مذهب الحزب الاجتماعي المنصوص عليه بالمبدأ الرابع من مبادئ الحزب الإصلاحية.2
وقد يتساءل المرء كيف أن سعاده يعتبر هذا المبدأ بالذات، المختص بالإصلاح الاقتصادي، هو ما يدل على نظرة الحزب الاجتماعية، وهو ما يؤهل الحزب كي يحوي لفظة “الاجتماعي” في اسمه، وليس العقلية الأخلاقية التي يأتي بها ويعمل على تنميتها، والتي يعتبرها بالمقابل شيئاً أساسياً جداً في المجتمع 3 . بل حتى أنه يعتبر أن “نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الحياة قبل كل شيء آخر 4 “، وأن ” العقلية الأخلاقية الجديدة التي نؤسسها لحياتنا بمبادئنا، هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة، لمقاصدها، ولأعمالها ولاتجاهها“5.
الجواب على هذا نجده في كتاب “نشوء الأمم” حيث يعتبر أن “التّطوّر الاجتماعيّ هو دائماً على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ 6 “، وأن ” العوامل الاقتصادية هي تحت كل مظهر من مظاهر الاجتماع 7“. “”فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع 8“. فالمبدأ هذا هو ما سيوجد مجتمعاً جديداً في نظرته إلى القيم الاجتماعية 9. وكما أن ” النظام الاقتصادي السيئ الذي يجعل مئات وألوفاً من الفلاحين في حالةٍ من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكن لدولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء 10“. كذلك فإن النظام الاقتصادي الذي يكون فيه أناس في السماء وأناس في الجحيم، لا يتمكن من إيجاد مجتمعٍ متجانسٍ. لذا لا بد لهذا النظام من أن يجعل الناس في بحبوحة، ويؤمن لهم أيضاً العدل الاجتماعي11.
ليس الإصلاح الاقتصادي إذاً قضية ثانوية من قضايا الحزب، بل هو في صميمها، وفي أساس النظام الذي يعمل الحزب على إقامته في المجتمع. لكن الأهم من هذا كله، أنه نظام جديد، بكل ما في الكلمة من معنى، خالف فيه سعاده كلا النظامين الرأسمالي والشيوعي. يقول سعاده إنه “مع كل مظاهر التنافر بين الرأسمالية والشيوعية فالمذهبان يتفقان في اللاقومية (…) فعصبية الرأسمالي في رأسماله وعصبية الشيوعي في طبقته 12“. يذكر سعاده كيف أن الشعوب في الغرب ” كانت متخمة من الرأسمالية التي أصبحت كابوس العامل والفلاح13“. وبينما كانت بريطانيا تعيش في ظل الديموقراطية، ” كانت شعوبها متعبة، رازحة، والعاطلون عن العمل بلغوا [فيها] وحدها، ما يزيد كثيراً على المليون، في بعض الأوقات14. بالمقابل، ورغم أنه يوافق من ناحية على ” أنّ النظريات الاجتماعية الاقتصادية، من كارل ماركس وأنغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد، قد ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية15، إلا أنه من ناحية أخرى يعتبر أن “الاشتراكية لم تتمكن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة 16 . فيذكر مثلاً أنه ” في روسية، فقد أوجد العمل للسواعد البطالة، ولكن على طريقة أخرى من تنظيم المجتمع تنظيماً مادياً بحتاً، حسب النظرة الاشتراكية المتطرفة، تَحدد فيها الأفق الروحي تحديداً ضيقاً”.
رغم هذه الأهمية التي أعطاها سعاده للشأن الاقتصادي، ورغم أن حزبه كما يقول كان ” أول حزب نظر في وضع البلاد السورية الاجتماعي الاقتصادي17، فقد بقي النظام الاقتصادي الذي يأتي به من أشد شؤون فكره غموضاً. هذا، رغم أنه منذ أن أسس الحزب وحتى استشهاده، قد كتب في شتى القضايا والمشاكل الاقتصادية التي كانت تواجه الأمة. فقد كتب في التبعات الاقتصادية لتقسيم سورية، وفصل الليرة اللبنانية عن الليرة السورية الشامية، وكذلك في قضايا العمل والعمال، والمهاجرة، والنقد والبنوك، ودور الرأسمال في الاقتصاد، وما شاكل. ومع أن هذه الكتابات كانت منسجمة فيما بينها على نحو لا يدع أي مجال للشك بأنها مؤسسة على نظرة واضحة للتنظيم الاقتصادي في المجتمع وللسياسة الاقتصادية في الدولة، إلا أنها لم تكن لتُعنى بشرح المبدأ الاقتصادي نفسه شرحاً مباشراً، مما يشير إلى أن سعاده قد شرحها شفوياً، لكنها غابت بغياب العناية بتدريس عقيدة الحزب 18. الاستثناء الوحيد هو ما ورد في كتيب شرح المبادئ، وفي المحاضرة الثامنة من المحاضرات العشر. وهذه لم تكن لتفي بالغرض. فالشرح في كتيب المبادئ مقتضب جداً، والمحاضرة الثامنة المعنية بشرح نظامنا الاقتصادي، وصلتنا منقوصة نقصاَ ملحوظاً. فكما هو معروف، لقد ألقى الزعيم محاضراته العشر ارتجالاً في الندوة الثقافية حيث كان الأمين آنذاك جورج عبد المسيح يقوم بتدوين ما أمكنه منها. ولعل الخطة كانت أن يعود الزعيم إلى هذا التدوين لضبط النص وإتمام ما سهى عنه عبد المسيح. ويقال إن الزعيم قد دقق فعلاَ في المحاضرات الخمس الأول، ولم يتسنَ له المجال مع المحاضرات الأخرى لضيق وقته وكثرة الملاحقات الحكومية التي تعرّض لها آنذاك. لذا تم دفع نصوص المحاضرات الأخرى إلى النشر على ما هي عليه، خوفاً عليها من الضياع.
أما تلاميذ سعاده فلم يتمكنوا من إتمام هذا النقص، بل ترنحوا ذات اليمين وذات اليسار عند تفسير المبدأ. بعض التفسيرات افترض بكل طوباوية ساذجة أن نزاهة الدولة القومية الاجتماعية، وارتقاء مناقب وأخلاق المواطنين فيها، سوف يتكفلان برفع الإنتاج القومي وتحقيق العدالة في توزيعه، وما إلى هنالك. وبدهي أن هذا لا يخلو من خروج عقائدي، لأن الصحيح هو العكس تماماً. فكما ذكرنا فوق، أن العمل ونظامه التعاوني هما مصدر نظام الاجتماع. وبالتالي، فإن استقرار الدولة القومية، وارتقاء الأخلاق والمناقب هما حاصل النظام الاقتصادي أو موافقان له. لكن لا يمكن أن يكونا، أو يكون أي منهما، سبباً في نشوئه. على الأقل هكذا نفهم من قول سعاده: “والّذين لا يفهمون العوامل الاقتصاديّة الخطيرة العاملة تحت كلّ مظهر من مظاهر الاجتماع، وخصوصاً أولئك المناقبيّون الّذين يرون المناقب أساس كلّ شيء، يعدّون هذا التّحول الجديد، تفسّخاً من جرّاء الفساد 19. وكذلك قوله عن تخصص أهل مشغرة بدباغة الجلود، “إنّ هذا التّطوّر الاقتصاديّ قد طوّر مستوى مصالحهم وعدّل أخلاقهم“، وليس أن أخلاقهم هي التي دفعتهم للتخصص في دباغة الجلود.
لكن الترنح الأخطر كان ذاك الذي نحى بالعقيدة منحى ماركسياً – لينينياً، فمثَّل خروجاً عقائدياً فادحاً بل خطراً، وكان سبباً هاماً من الأسباب التي أدت إلى صدامات داخلية وانشقاقات في الحزب. والحقيقة أن الحزب لم يكن ليتخلص من هذه التوجهات لولا إفلاس الشيوعية نفسها وسقوطها، حيث أسكت هذا الانهيار الأصوات التي نادت بها في داخل الحزب. فأمام هذا العجز في تفسير نظامنا الاقتصادي، هناك الآن حالة أشبه ما تكون باليأس منه والتخلي عنه.
وحتى لا يقال بأني أبالغ في كلامي هذا، يكفي أن أشير إلى غياب الحزب (بكل فئاته وتنظيماته) عن المشاركة في أي من الفعاليات التي كان يمكن أن تمنحه فرصة طرح نظرتنا في القضايا والمشاكل الإقتصادية التي تواجه الأمة، واقتراح الحلول لها. ولا أعني هنا مسألة متقدمة كالتصدي للعولمة، أو حماية الرأسمال القومي والثروة القومية، أو العمل والحفاظ على أستقلال النقد واستقلالية المصرف المركزي، وما شاكل 20. لا، بل أبسط من هذه بكثير. فقد غبنا أو تغيبنا حتى عن القضايا الأساسية والابتدائية في الإصلاح الاقتصادي. نأخذ نموذج “ملتقى الحوار الاقتصادي” الذي دعت إليه وزارة الإقتصاد في الكيان الشامي سنة 2011، مع بداية الأحداث فيها. فمع أن المؤتمر كان معنياً ببحث مواضيع مثل هوية الاقتصاد القومي، ومسألة تدخُّل الدولة، ودور المصرف المركزي، وتوزيع الثروة والدخل، وما شاكل… وهذه كلها في صميم المبدأ الإصلاحي الرابع، فقد غاب الحزب كلياً عن الملتقى.
مما لا شك فيه أن سقوط الإتحاد السوفياتي عنى بالضرورة سقوط الفكرة الشيوعية كلها سقوطاً نهائياً لا قيام لها بعده. وأصبح فشلها حقيقة واضحة لا يتجاهلها إلا المتعنتون. وهنا لا بد لي من العودة إلى مقالة هامة للأمين أحمد أصفهاني بعنوان “سعاده معاصرنا” يعرض فيها للتطورات التي حدثت بعد ذلك، حيث يقول:
“… وقد دفع هذا الواقع الجديد منظري القطبية الأحادية إلى اعتبار أن التاريخ قد انتهى، وأن المعسكر الرأسمالي حقق انتصاره النهائي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وكذلك ترافقت نشوة النصر تلك مع الترويج لمبدأ العولمة المتجاوزة للهويات القومية، مع ما يتفرع عنها من التعددية داخل المجتمع الواحد، و”حق” التدخل الخارجي على كل المستويات في أي مكان من العالم.
“غير أن هذه العولمة المنفلتة من أي قيود لم تعمّر سوى عقدين من الزمن تقريباً. إذ سرعان ما برزت قوى عالمية راحت تنافس القطبية الأحادية، وفي الوقت نفسه تتحدى النموذج الرأسمالي في الاقتصاد والاجتماع (الصين مثال واضح). ولم يقتصر التحدي الذي واجهه العالم الرأسمالي على الخارج، بل سرعان ما لاحظنا بروز النزعات الشعبوية العنصرية داخل الغرب الأميركي ـ الأوروبي الذي هو قمة النموذج الرأسمالي “الناجح” منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهكذا أُجبر المنظرون الرأسماليون مرّة أخرى على إعادة النظر جذرياً في المسلمات التي ركنوا إليها بعد هزيمة المعسكر الشيوعي”21.
ورغم أننا لا نقلل مطلقاً، بل نثمّن النهضة التاريخية التي تشهدها الصين حالياً، إلا أننا لا نعتبر أن الصينين نجحوا في إيجاد نظام اقتصادي جديد، إذ أن جل النمو الباهر لاقتصادهم مرده التحول من اقتصاد قروي زراعي إلى اقتصاد صناعي تجاري حديث. صحيح أنهم نجحوا في إيجاد القوة المادية والسياسية التي تحمي حقهم الإنترنسيوني، إلا أن المشكلة الاقتصادية الداخلية تبقى مستعصية. فهم قد حلَّوا مشاكل البطالة والعمل بفعل تدخل الدولة واعتماد سياسة تصدير مرنة إلى أبعد الحدود، لكن مشكلة الفوارق الاجتماعية أخذت تظهر على نحو خطير في المجتمع، مما سيؤدي إلى تقلبات وقلائل سياسية. علماً بأن الطبقية كانت شبه معدومة في زمن الشيوعية.
في خضم هذا الإفلاس الثقافي، يبقى الفكر السوري القومي الاجتماعي المالك الوحيد لمفتاح حل القضية كلها. وأعني نظامه الاقتصادي الجديد، الذي يعود غموضه إلى أننا لم نعطه بعد ما يستحق من الدرس والتفكير. أقول هذا وأنا مدرك أنه منذ استشهاد سعاده وحتى الآن، تطورت النظم الاقتصادية، وخصوصاً النظام الرأسمالي العالمي، تطوراً هائلاً. وكما سيتبين معنا، فإن تطبيق نظام سعاده الاقتصادي هو الخطوة التي لا بد منها في سبيل التصدي للتحديات العظيمة التي يضعها أمامنا الاستعمار الاقتصادي الحديث، والتي لا مناص لنا من الانتصار عليها، كي ننال استقلالنا الحقيقي ونحافظ عليه.
ومهما يكن من أمر، فزبدة القول إن الحاجة تبقى ماسة لإيضاح نظرتنا الى النظام الاقتصادي. وهو ما أسعى بهذه الدراسة للمساهمة فيه، من خلال شرح بنود المبدأ الاقتصادي التي لم يكن ما وصلنا من شرح الزعيم في المحاضرة الثامنة وافياً، وأعني تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل، وصيانة مصلحة الأمة والدولة. أما بالنسبة إلى بند إلغاء الإقطاع، فأعتقد بأن ما ورد في تلك المحاضرة كان واضحاً ووافياً.
لكن لا بد لي من التمهيد أولاً بأن أشرح، ولو بإيجاز، وجهة نظر سعاده في أسباب المشكلة الأساسية بالنظام الاقتصادي، والتي يعتبرها مشكلة بل معضلة المجتمع الداخلية، حيث يسهل بعدها فهم بنود المبدأ والغاية من كلٍ منها.
* حنا الياس الشيتي ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة مانشستر – بريطانيا – (Chartered Management Accountant) محاسب إدارة قانوني، زميل في الكلية الملكية البريطانية لمحاسبي الإدارة (CIMA). عمل في عدد من الدول العربية بما فيها لبنان والسعودية والبحرين واليمن. له عدد من الأبحاث والمقالات في الفكر القومي الاجتماعي. |
المراجع:
[1] العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديموقراطيين عن عقيدة. الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942.
[2] جريدة “كل شيء” رقم 20 في 31 يوليو 1947
[3] المحاضرة العاشرة
[4] سعادة، المجموعة الكاملة، المجلد السابع، 1944، “إعلان وإيضاح العلاقة مع جبران مسوح”،
[5] المحاضرة العاشرة.
[6]نشوء الأمم، الفصل الخامس، الضرورة الاقتصادية
[7] نشوء الأمم، ص 66.
[8] نشوء الأمم، ص 57.
[9] مقالة “العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديموقراطيين عن عقيدة”، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942.
[10] “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 130.
[11] “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 132.
[12] مقالة “شق الطريق لتحي سورية”، نشر هذا المقال في مجلة “الجمهور” تاريخ 12 تموز 1937.
[13] مقالة “العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديموقراطيين عن عقيدة”، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942.
[14] المرجع السابق.
[15] المرجع السابق..
[16] المرجع السابق..
[17] مقالة “قضية العمال”، النهضة، بيروت، العدد 24، 10/11/1937.
[18] “المحاضرات العشر”، المحاضرة الأولى، ص 15
[19] نشوء الأمم، الفصل الخامس، ص 85.
[20] جريدة الوطن تاريخ 1 نوفمبر 2011.
[21] أحمد أصفهاني، مجلة الفينيق، العدد 30، آب 2019،”سعاده معاصرنا”.
[22]China’s 40 Years of Reform 1978 – 2018, The decadal crises, Page 39.