عودة إلى نظام سعاده الاقتصادي – حنا الشيتي
القسم الخامس والأخير: صيانة مصلحة الأمة والدولة
المقدمة
نصل هنا إلى القسم الخامس والأخير من الدراسة، ونشرح فيه البند القائل بصيانة مصلحة الأمة والدولة. ونبيّن ما نعنيه بتحقيق العدل الاقتصادي الحقوقي والعدل الاجتماعي الحقوقي، اللذين يقول سعاده بأنهما أمران ضروريان لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية. فبعرفه، وكما أن الوحدة القومية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيِّئ، كذلك هي لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيِّئ[1]. البنود الثلاثة الأولى من المبدأ الإصلاحي الرابع أرست القواعد الأساسية لإقامة العدل الاقتصادي الحقوقي، بإخضاعها ثروات الأمة العامة لمصلحة الأمة العامة، وبتنظيمها الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، حيث يكون كل أبناءِ الأمة شركاءً فيه. أما الآن، فسوف نبحث في كيفية إقامة العدل الاقتصادي والعدل الاجتماعي من الوجهة الحقوقية، في نظام سعاده.
مرّ معنا في الأقسام السابقة عددٌ من الخطوات التي يحققها نظامنا في سبيل إقامة العدل الاقتصادي الحقوقي، نذكر منها على وجه الخصوص: إلغاءَ الإقطاع، وكفَّ يد الرأسماليين المصرفيين عن التلاعب بالنظام النقدي والتحايل لإصدار النقد، ووضعَ حد للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج معاً. كذلك تبيَّن معنا أنه في هذا النظام، سوف يرتقي مستوى الحياة بالإجمال في المجتمع، بعامل تفعيل حركة الاقتصاد بإنصاف العمل، والتخلص من البطالة، وبإنشاء الهيئات والمؤسسات المعبِّرة عن مصالح مختلَف أصناف الإنتاج وأصناف المنتجين.
لكننا لم ندقق بعد في الطريقة التي سوف تُتَبع لتحصيص الثروة الناتجة عن العمل على الأفراد. صحيح أننا كنا قد ذكرنا في القسم الثالث أن التصنيف الفني سوف يرتِّب السلع ذات الصنف الواحد بحسب جودتها ومواصفاتها، ويسمح بالتالي بتمييز قيمها وِفاقاً، لكنَّ هذا يفيدنا في الطريقة التي سيُعَيَّن فيها المدخول الإجمالي لكلُ دائرةٍ من دوائر العمل، ولا إلى مداخيل الأفراد الذين اشتركوا في تحقيق الإنتاج فيها. كذلك لم ندقق في ما ذكرناه في القسم الرابع عن الطريقة التي يرمي إليها سعاده لتنظيم وضبط الرأسمال الفردي؛ وما هي تلك الحالة التي يريد نقلَ الرأسمالِ إليها من حالته الحاضرة، حيث يُعطى اتجاهاً جديداً يحرر الناس في نفوسها، إضافة إلى تأمين مقومات حياتهم المادية، كما يقول. ورغم أن ما وصلنا من سعاده عن هذه المسائل بالإجمال، قليلٌ جداً أو حتى معدومٌ بالمرة، إلا أنه لن يُستعصى علينا الاستدلال عليها بالاستناد إلى قواعد نظام فكرنا ونهجنا.
الدولة شريكٌ في الانتاج
بدايةً، تجدر الإشارة إلى أن الدولة هي شريك فعلي في الإنتاج؛ إنتاج كل دائرة من دوائر العمل. هي تقيم العلاقات الدولية، وتسعى لعقد الاتفاقات الإنترناسيونية، وتعمل على حماية الرأسمال القومي، وغير ذلك من الأعمال في سبيل تسهيل حركة العمل وتصريف الإنتاج. وكل هذا ينطوي على جهدٍ ونفقات تتطلّب تغطيتها، مما يمثل حقاً للدولة على الإنتاج القومي يخوِّلها اقتطاع حصتها منه عند التوزيع. إضافةً إلى ذلك، فللدولة مطالب محددة في أصنافٍ معينةٍ من الإنتاج، تطلبها تأميناً لتحقيق مصالح عامة عديدة، كمصالح السيادة والأمن القوميين، والصحة العامة، وحماية البيئة والعديد غيرها مما لا مجال لتعداده هنا. وهذا يخولها أيضاً حق توجيه هذه الأصناف من الإنتاج توجيها مباشراً إلى حيث ترى ذلك واجباً.
مصلحة الأمة في وحدة المجتمع
فوق ذلك كله، بل وقبل أي أمرٍ آخر، الدولة القومية هي الإرادة المعبرة عن مصلحة الأمة. لذا فهي معنيةٌ أولاً بسن القوانين التي تُوَجَّه بها حركة الاقتصاد نحو المصالح العامة للأمة على نحو لا تبرح عنها. أما مصلحة الأمة الأساسية في الإنتاج فهي أن يحافظ نظام توزيع الإنتاج على وِحدة المجتمع. إن إساءة التوزيع لا تؤدي فقط إلى معاناة الأفراد مادياً ونفسياً، بل تهدّد أيضاً وحدة جسم الأمة بنشوء الطبقات فيه. ولذلك فمطلبنا ألا يكون “أناس في السماء وأناس في الجحيم“[2]، ليس مطلباً رومانسياً، أو دعوة سياسية في موسمٍ انتخابي، وإنما مصلحة أساسية من مصالح الأمة، ألا وهي وحدة المجتمع، والتي هي كذلك المبدأ السادس من مبادئ الحزب الأساسية.
يقول سعاده إن “النظام الاقتصادي السيئ الذي يجعل مئات وألوفاً من الفلاحين في حالة من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكِّن لدولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء“. ثم يسهب شارحاً ما يعنيه: “إذا احتاجت الدولة إلى هؤلاء الألوف في حالة حرب مثلاً، وجدت أنها لا يمكنها أن تستند إليهم في الحرب، فكيف تستند إلى رجل خمدت في نفسه عوامل الحياة وشوهته الأمراض وأقعده الذل ليكون بطلاً يحارب بكل قلبه وكل نفسه من أجل وطنه وأمته اللذين يجد فيهما تحقيقاً للحياة المثلى التي يريد ويطمئن أن يحياها“[3].
العدل الاجتماعي الحقوقي بتنظيم دوائر العمل
لكن وحدة المجتمع تحتاج إلى أكثر من عدالة التوزيع في الإنتاج. فارتقاء مستوى المعيشة المادية للناس يجب أن يرافقه تحرير النفوس أيضاً كي تتمكن من طلب الحياة الكريمة الراقية بكل ما فيها من حق وخير وجمال. وهنا نصل إلى بيت القصيد في ما يعنيه سعاده بالعدل الاجتماعي الحقوقي. فنحن لو نظرنا إلى ظروف تشغيل الناس وتوظيفهم، ليس فقط في مجتمعات الدول السورية، بل في عموم المجتمعات الرأسمالية التي تعم العالم، نجد أن الرأسمالي في أي شركة أو مصنع أو مؤسسة وما شاكلها من الجمعيات، قد أمسك بزمام كل أمور الجمعية التي يمتلكها واستبد بها. فهو القوة السائدة فيها، والقصد هو قصده، وتصريف شؤونها ومصيرها منوطٌ حصراً به أو بمن يخولهم النيابة عنه. أما باقي العمال والموظفين فليس لهم سوى الطاعة، ونادراً ما يكون لهم شأنٌ يُذكر في القضايا المصيرية والقرارت الاستراتيجية للمنظمات التي يعملون فيها. مثال على ذلك ما نشاهده مراراً وتكراراً في النظم الرأسمالية، إذ يبيع مالكو شركةٌ ما كل أسهمهم لصالح شركة أخرى، غير آبهين بتبعات عملهم على حياة ومصير الموظفين فيها. ولا شك في أن عملاً كهذا يُفقد العديدُ من الموظفين وظائفهم دون أن يكون لهم فيه حول ولا قوة،ـ بينما يُصاب الباقون بصدمات ثقافية جرَّاء الأهداف ونظام العمل والسياسات التي استحدثتها الشركة الجديدة فور أن قبضت فجأةً على مقدرات الأمور.
في معرض حديثنا عن تحديد سعاده لدور كل من الأفراد والدولة في التصرف بالرأسمال، ذكرنا في القسم السابق قوله إنه سيكون من حق الدولة أن تنظِّم للأفراد وتسن القوانين لهم. ونضيف هنا قوله إن هذا التنظيم سوف يكون على نحوٍ “لا يعود الرأسمالي الفردي، من جهة حقوقية، حراً في أن يتصرف تجاه العمال وتجاه الذين يستأجرهم أو يستأجر منهم الأرض أو ما شاكل ويفعل ما تمليه مصلحته الفردية بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج والذين يجب أن يكون لهم حق في نصيب من الإنتاج“[4]. وبدهي أنه من الهام جداً لنا أن نتبيّن ولو بالخطوط العريضة ملامح هذا التنظيم الذي أراد سعاده أن يرشدنا إليه، والذي يجب أن ترتِّبه الدولة لدوائر عمل الأفراد. فهذا، بالتعاضد مع نظام تعاون العمل الذي كنا قد بحثناه في القسم الثالث، هما مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع، وفقاً لقول سعاده[5]، الذي رددناه مراراً في سياق أقسام هذه الدراسة!
من الأمثلة التي تظهر لنا مدى الترابط الوثيق بين تحقيق العدل الاجتماعي وتحقيق العدل الاقتصادي، أننا لو أبقينا الأمور على حالها كما هي الآن لبقي حقُ العمال بنيل نصيب من الانتاج حقاً وهمياً. عندها، لن يحتاج الرأسمالي لجهدٍ يُذكر كي يخسف هذا الحق، ويجعله حقاً صُورياً مزيفاً لا يشكِّل، في أفضل الأحوال، أكثر من قيمة رمزية يعود بها العامل إلى بيته مرةً كل عام، دون أن تبدِّل من أحوال معيشته شيئاً! أما وسائل الرأسمالي في هذه الحالة فكثيرة، أسهلها التلاعب بالسجلات وبالتقارير المالية، بهدف التقليل من قيمة الأرباح المعلنة للمنظمة التي يملكها. أوليس هذا ما يفعله العديد من الشركات الآن كي تتهرب من الضرائب؟ كذلك لن يُعدَم الرأسمالي من الوسائل ما يمكّنه من اتخاذ القرارات التي تحرف مسار الشركة عن مصالحها لكي تتعزز مصالحه.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أنه في المنظمات التي يتم فيها الفصل بين مالكي الأسهم والمدراء المسيطرين على أعمالها والمتحكمين بقراراتها، تصبح المصالح الفردية الخاصة لهؤلاء، ورفاهية معيشتهم، مهمة مثل مصلحة المنظمة نفسها ومصلحة المساهمين فيها. بل غالباً ما تكون لمصالح المدراء الأسبقية على مصالح المنظمة والمساهمين معاً. وفي محاولة لضبط سلوك هؤلاء المدراء وجعلهم يتماشون مع مصالح المساهمين، يتم عادة وضع تدابير متقدمة من حيث اللوائح الداخلية وهيئات المراقبة ومدونات قواعد السلوك، والتي تُسمى مجتمعة ﺑ “حوكمة الشركات” (corporate governance). صحيح أن هذه قد توفر بعض أشكال الحماية لمصالح المساهمين، لكنها لا تستطيع بأي حال إجبار المدراء على اتخاذ قرارات تكون بالضرورة من مصلحة الشركة أو المساهمين[6]. فإذا كان هذا هو حال المساهمين مع المدراء، فكيف بالحري سيكون حال الموظفين والعمال إذ يتحالف عليهم المساهمون بالرأسمال مع المدراء؟
من المحاولات الجادة للتغلب على مثل هذه التحديات، ما أبلغني به أحد الرفقاء عن اشتراكه مع رفقاءٍ آخرين، يعملون حالياً على تأسيس تعاونية اقتصادية، تُستخدم فيها تقنيات صناعية وفنية عالية، ويكون لها فروع في الوطن وعبر الحدود. أما فكرتها الأساسية فهي أن يكون نظامها الداخلي قومياً اجتماعياً، يُطبَّق فيه مبدأ تقسيم الثروة من الإنتاج وفاقاً لتقسيم العمل. والخطة هي أنه بدلاً من المرتبات، التي ستقتصر على الحد الأدنى من الأجور الذي تفرضه الدولة المضيفة، يُمنح موظفو الشركة عدداً من أسهمها، تُقدر في البدء على نحوٍ تعادل قيمتها قيمة مرتبات ما يقابلها من الكفاءات في سوق العمل. هذا، على أن تُعدّل هذه الحصص لاحقاً بناءً على الخبرة المكتسبة.
لا مشاحة في أن ما يقْدِم عليه هؤلاء الرفقاء، عدا عن كونه خطوة مقدامة يُشكَرون عليها إذ يغامرون فيها بالجهد والمال في سبيل فكرة نؤمن بها كلنا؛ هو أيضاً نقلةٌ نوعية على ما كنا ذكرناه فوق. والسبب هو أن منح الموظفين أسهماً سيعطيهم أيضاً – إضافةً إلى منحهم حق الاشتراك في اقتسام صافي الثروة الناتجة – حقوقاً سياسية لا نجدها في أي جمعية أو منظمة أخرى. ونظراً للتزايد المُطرَد في عدد الأسهم المتوقَع امتلاكها من قبل الموظفين، فمما لا شك فيه أن الحقوق هذه ستكون ذات شأنٍ في تقرير مجرى حياة التعاونية ومصيرها.
رغم كل هذه الإيجابيات، بل رغم أننا نعتقد أن هذه الخطوة هي أقصى ما يمكن تحقيقه في ظل نظام رأسمالي له قوانينه المرعية الإجراء المحابية لمصالح الرأسماليين، ولطريقة انتخاب أعضاء مجالس إدارة الشركات وتحديد صلاحياتهم، ستبقى هناك تحديات جمة. أما الانتصار على هذه فيقتضي احتفاظ الأعضاء في التعاونية بالأخلاق والمناقب العالية، والحرص على غربلة العناصر الفاسدة بينهم، ومنح بعضهم بعضاً الثقة والأمانة مطلقتين. ولا نقول إن الجمعيات والمنظمات في النظام القومي الاجتماعي ستشترط أيضاً مثل هذا المستوى الراقي من الأخلاق، إذ أنها سوف تعمل في ظل ضمانة وضبط الدولة القومية الاجتماعية، والتنظيم الجديد الذي ستقدمه لدوائر العمل. لكن مع التحفظ طبعاً أن “كل نظام يحتاج إلى الأخلاق. بل إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى” [7]، كما يقول سعاده.
عجز الديمقراطية التمثيلية عن تحقيق العدل الاجتماعي الحقوقي
الحقيقة أن المعضلة الأساسية التي سوف تلاحقنا دائماً تكمن في إيجاد الهيئة الإدارية المعبِّرة عن المصلحة العامة للمجموع الذي تديره، سواءً كنا بصدد التعاونية التي أمامنا هنا أم بصدد الجمعيات والمنظمات التي سوف تعمل في ظل الدولة القومية الاجتماعية. والسبب أن طريقة الانتخاب المتَّبعة حالياً في النظم الرأسمالية لانبثاق مجالس إدارات المنظمات ومدرائها التنفيذيين، ترث من الديمقراطية التمثيلية كلَّ السلبيات التي كان قد حذَّرَنا منها سعاده. بل المرجَّح أن يزداد الأمر سوءاً فيما لو مُنِح الموظفون حقوقاً سياسية، دون أن تتبدل طريقة انبثاق الهيئات الإدارية؛ لأن البلبلة والتنافر الناتجين عن الموظفين سوف يضافان إلى البلبلة والتنافر الموجودين حالياً في جموع المساهمين بالرأسمال.
وفي ما يلي شرحٌ لأسباب عدم صلاحية طريقة الانتخاب هذه، ونوجزها بثلاثة:
1. عدم تمكينها جسم المنظمات من إصدار هيئات إدارية تعبِّر كل منها عن المصلحة العامة للمنظمة المعنية بها؛
2. عدم تمكُّنها من نبذ المنافقين والمداهنين من الأعضاء، ومنعهم من الوصول إلى مجالس إدارتها ومراكز القوة فيها؛
3. عجزها عن حماية مجالس الإدارة نفسها من ورطة استبداد تجمهر الموظفين بها أو من سيطرة القوى الخارجية عليها.
في مقالته الهامة جداً، والمعنونة “الرأي العام”، يشرح سعاده نظرته إلى هذا المفهوم، ومن جملة ما يقول: “إنه مهما تضاربت الآراء حول هذه الظاهرة الروحية العظيمة الأثر في السياسة والاجتماع، تبقى الحقيقة الراهنة … أن الرأي العام قوة اجتماعية سياسية خطيرة الشأن، … [ وأنه ] موجودٌ دائماً في كل مجتمع متمدن. … [ لكن ] متى تضاربت الاتجاهات الأساسية في أمة من الأمم، واختلفت العقائد والعوامل الثقافية، ولد هذا التضارب وهذا الاختلاف رأياً عاماً مبَلبلاً متفسخاً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة أو مصلحة عامة، وزعزعا الوجدان القومي الصحيح ومنعا تولد ما يسمى في العلوم السياسية << الإرادة العامة >>”. ثم يضيف بأن هذا هو “حال الرأي العام في هذا الوطن السيئ الطالع“[8].
بدهي أنه إذا كان هذا هو حال “الرأي العام” في الأمة الآن، فهكذا أيضاً سوف يكون حاله مع بدء تطبيق النظام القومي الاجتماعي، بل هكذا سوف يبقى حتى زمنٍ ليس بقليل بعده؛ إذ لا يمكن التعويل على أن الوحدة الاجتماعية والنظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن ستعمَّان المجتمع متزامنتين مع يوم انتصار الحركة القومية الاجتماعية. وبالتالي، فإن هذا لا ريب سينعكس على “الرأي العام” الداخلي لكل منظمة من المنظمات، حيث سيختلف الأعضاء فيما بينهم على فَهم الأوضاع التي يواجهونها، ويتضاربون في ما يريدون من كل منها، وبالتالي يتبلبل الرأي العام فيهم، ويجهضون أية إرادة عامة محتملة كان يمكن لهم أن يولِّدوها. هذا بالإضافة إلى عامل آخر هام ودائم من شأنه إضعاف توليد الإرادة العامة الموحدة في المنظمات، ألا وهو ما ذكرناه في القسم الثالث من الدراسة عن تمييز سعاده بين صنفين أساسيين من المصالح، يجب عدم الخلط بينهما مطلقاً، هما: المصالح الشكلية الخصوصية للأفراد، والمصالح العامة المشتركة. وأنه كثيراً ما تكون المصلحة الشخصية هي الدافع للعمل على المصلحة المشتركة، حيث يجب في الحالة هذه التمييز بين كونها مصلحةً مركّبةً وثانوية بالنّسبة إلى الشّخص المعني، رغم بقائها مصلحةً عامةً وأولية للعموم. في هذا الصدد يفيدنا أن نذكر قول سعاده بأن “الشّركة وسيلة مصالح خصوصيّة متماثلة”، وبأن مصلحتها ” تقوم على أساس المصلحة الشّخصيّة البحت، وكلّ اعتباراتها العامّة مقرّرة بالمصلحة الشّكليّة لكلّ شخص فهي خصوصيّة قبل كلّ شيء، لأنّ غرضها خصوصيّ، معيّن ومحدّد“[9].
صحيح أن حالة التفكك هذه نشاهدها الآن في جموع المساهمين بالشركات في النظم الرأسمالية، بل إن التفكك هذا هو ما يمكِّن القوى المسيطرة فيها من الإستئثار بمجالس إداراتها، والتسلط بالتالي على قراراتها، بمجرد ما أن تمتلك نسبة قليلة من الأسهم. والمعروف أن هذه القوى تحرص دائماً على امتلاك أسهم بأقل نسبة تمكنها من السيطرة على الشركة والاستبداد بها؛ وفي الغالب لا تزيد عن 25%. والحقيقة أن هذا ما ينقذ عمل الشركات من التشتت، بل وينقذ النظام الرأسمالي كلُّه. لكن موازين القوى هذه سوف تتغير حتماً، وعلى نحو لا يمكن توقع نتائج تذبذباته، فيما لو منحنا الموظفين حقوق الانتخاب والترشح لمجالس الإدارات؛ خصوصاً أن الأسهم التي سوف يحصل الموظفون عليها لا يمكن الاستهانة بنسبتها، أو توقع تأرجح تكتلاتها. أضف إلى ذلك ما كنا بحثناه في القسم الثالث، بأنه وِفقاً لنظام تأسيس الاقتصاد على أساس الإنتاج، وتفادياً لتعطيل طاقة العمل، سيكون التحاق نسبة لا بأس بها من العمال والموظفين بالمؤسسات التي يعملون فيها التحاقاً مؤقتاً، حيث يفرزون بعدها إلى مؤسسة أخرى تكون الحاجة فيها إلى خدماتهم أشد. وهذا يعني مبدأياً تبدل الأفراد بعينهم مع كل دورة انتخابية.
في أحوال من هذا النوع، سوف يكون من السهل جداً على المنافقين والمداهنين التسلُّل للحصول على مقعد أو أكثر في مجالس إدارة المنظمات التي يعملون فيها. فيظهرون حرصهم وغيرتهم على مصالحها وقضاياها، لكنهم في الحقيقة لا يضمرون إلا مصالحهم الخصوصية حتى ولو تضاربت مع ما يعلنونه. والشواهد الراهنة على ذلك كثيرة، حيث نرى العديد من ممثلي نقابات الموظفين يسعون لا للمطالبة بحقوق زملائهم الموظفين الذين انتخبوهم، أو الدفاع عن قضاياهم، ولكن للحصول على امتيازات شخصية، ولتحقيق أغراض خصوصية لهم. وهناك أقوال عديدة لسعاده يحذر فيها من أمثال هؤلاء.
ولا نحتاج الكثير لندرك، بناءً على ما ذكرناه فوق، أن ما ستنتجه الديمقراطية التمثيلية من مجالس إدارية ومدراء تنفيذيين سيكون على شاكلة هذه المجاميع المبلبلة والمفككة والمتضاربة الموجودة في المنظمات. وبدهي أن مجالس من هذا النوع تبقى عديمة الفعالية. وكما يذكِّرنا سعاده بأنه “من الدروس الفيزيائية الأولية أن كل قوتين متدافعتين أو متجاذبتين وتتوفر الأسباب لإيجاد توازن بينهما تبطل فاعليتهما“[10]، كذلك نقرأ له في مقالة أخرى قوله بأنه “لا موجب لوجود مجلس من الأفراد، المتنافرين في الأذواق والمشارب والمتباينين في النظرات السياسية الخصوصية، والذين لا يمثلون الشعب تمثيلاً صحيحاً“[11]. واضحٌ طبعاً أن كلام سعاده هنا هو في سياق الحديث عن مجالس النواب، لكنَّ المبدأ يبقى صحيحاً حتى عندما نطبَّقه على مجالس الإدارة في دوائر العمل. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذا سوف يحدث في كل جمعية عاملة في المجتمع، عَلِمنا هول الورطة بل المصيبة التي سيقع فيها النظام الاقتصادي كله.
ما يزيد الطين بلة أن من مستلزمات الديمقراطية التمثيلية ضرورة اجراء عملية التصويت دورياً لاستفتاء الثقة بالهيئة الإدارية القائمة أو لانتخاب هيئة جديدة. وهذا سيفٌ ذو حدَّين، لكن الحد السلبي فيه أمضى. صحيح أن عملية التصويت الدورية تسمح من ناحية بالتخلص من الإدارات الفاشلة أو الطاغية، لكنها بالمقابل قد تطيح بالصالحة أيضاً. وهذا يعني أنه حتى ولو بقدرة قادر، تمكنت هذه الجموع المشوشة من إفراز إدارة صالحة، إلا أنها سرعان ما سوف تفقدها إذ تُدعى في الدورة التالية للإنتخاب مرةً أخرى. ولما كانت إدارة فاشلة قادرة، في دورة واحدة، على تحطيم كل ما بنته الإدارات السابقة، فنحن إذن بالديمقراطية التمثيلية أمام نظامٍ سيئ يحكم على المنظمات العاملة فيه بالموت المحتم. والأدهى أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن تطبيق الديمقراطية التمثيلية قد يحبط الأفراد الرأسماليين عن المبادأة والمبادرة إلى إنشاء مشاريع جديدة؛ إذ ما نفع بذل المال والجهد والتفكير للتفنن والاستنباط، إن لم يكن لديهم ضمانة الاحتفاظ بالقدرة على تنفيذ مخططاتهم، واستمرارهم في القيادة لتحقيق أهدافهم من المشروع الذي عزموا على إنشائه.
لمحة موجزة حول فكرة التعبير عن الإرادة العامة
لعل القارئ قد تنبَّه إلى أن ما نرمي إليه في بحثنا لمؤسسة الديمقراطية في دوائر العمل هو أن نتَّتبع ما يسمِّيه سعاده “فكرة التعبير عن الإرادة العامة” بدلاً من”فكرة تمثيل الإرادة العامة“. وهذا إلى حدٍ بعيدٍ صحيح. أولم يقل بأن هذه هي الطريقة التي ستُتَبع في الأعمال الأساسية لحياتنا الجديدة[12]، والتي تهديها عبقرية النبوغ السوري إلى العالم؟[13] وهذا يوحي بأن اتِّباعها لن يكون فقط في تنظيم الدولة، بل هي فكرة فلسفية تُطبق في مناحٍ شتَّى؟ ورغم أن كلا الفكرتين تستندان بالضرورة على ثقة الشعب، إلا أننا نجد الثانية وقد أستندت إلى إرادة الشعب كما هو في واقع الحال. بينما نجد الأولى لا ترضى بكل واقعٍ مفروض، لأن اجتماع العامة على أمرٍ قد لا يعني بالضرورة أنه الحق، ﻓ “الباطل لا يظهر بلباس الباطل بل بلباس الحق“[14]. لذلك فهي تعكف على توليد الإرادة التي يجب أن تكون! بحسب قاموس محيط المحيط، “المعبِّر يفسِّر ماهو مستور“[15]. وعليه، فالتعبير عن الإرادة هو تفسير إرادة مستورة أو كامنة وغير فاعلة. وبالتالي، فهي إرادة غير موجودة بالفعل، ولكنها موجودة بالقوة! ولهذا يقول سعاده إن “التمثيل هو دائماً أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد“[16]. ومع أنّ التسلسل المنطقي للبحث يرغّبنا في الاسترسال بالشرح، نظراً لاختلاف التفسيرات حول هذه الفكرة الجديدة، فإنّنا نخشى أن يقودنا هذا إلى الابتعاد كثيراً عن النّطاق المحدّد لهذه الدراسة. لذلك سنقصر الكلام على ما نحتاج معرفته في بحثنا هنا، والذي هو تحديداً العلاقة بين القيادة والمجموع، أو سمِّها إن شئت بين الرأس والجسم.
ولا أخال أني أبالغ في قولي إنه لو نظرنا إلى هذه العلاقة في حالة الحزب، خلال فترة إدارة سعاده المباشرة له، لوجدناها علاقة تفاعلية بامتياز. من ناحية أولى نجد أن الإجماع على القيادة، من الوجهة الحقوقية على الأقل، إجماع فاعل وليس مطاوعاً، أي أنه إجماع سلبي لا يخضع لكل أمر تفرضه القيادة، بل مقيد بشروط التعاقد الفردي الذي تقيمه القيادة مع كل واحد من الأعضاء. صحيح أن “تغيير العقيدة أو الأهداف أو الـمبادىء العقائدية أو النظامية في الـحزب، [هي] الأسباب الوحيدة التي يـمكن أن يُطلَب بالاستناد إليها انسحاب أحد الأعضاء“[17]، كما يقول سعاده، إلا أنه بالمقابل يعلن أن القيادة العليا ملزمة أيضاً بهذه الشروط، إذ يقول أن “كل عقيدة عظيمة تضع على أتباعها المهمة الأساسية الطبيعية الأولى التي هي، انتصار حقيقتها وتحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل. وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد أتباعها“[18]”. وكذلك، نجده أيضاً قد اعتبر قبولَ القوميين بالخروج العقائدي لقيادة نعمة ثابت، يكوِّن مسألة من المسائل الخطيرة في الحزب. وهذا يعني أن التعاقد لا يلزم الأعضاء فقط بتقديم الثقة والطاعة، ولكنه أيضاً يفرض على القيادة الالتزام بالغاية من التعاقد وخطته. والأمانة على العقيدة والأهداف والمبادئ هي أول ما يقسم عليه علناً كلُ مسؤولٍ في الحزب بمن فيهم الزعيم.
ولكن من ناحية ثانية، نجد أن القيادة أيضاً تتخذ مواقف سلبيةً من مجموع الأعضاء، وتحرص على ألاَّ تقع في ورطة استبدادهم. لذلك تصرُّ على أن تختار هي بنفسها من الأعضاء من تراهم أمناء على نظام فكرها ونهجها، ليكونوا اللبنات التي تبني منها ذاتها على نحوٍ تحافظ فيه على بقاء وثبات خصائصها واستمرار نهجها. يقول سعاده “إن المدينة السّورية ظلّت محافظة على الفرق بين السيّاسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد تقدّمها”[19]. وهو باستحداثه نظام رتبة الأمانة في تكوين الدولة، أو الإدارة، يأخذ هذا المبدأ إلى أبعاده القصوى، ويطبِّقه بامتياز.
تطبيق الديمقراطية التعبيرية في دوائر العمل
أرجو معذرة القارئ على هذه الإطالة، إلا أنها كانت ضرورية لإزالة أية أوهامٍ قد تلتبس على البعض أنه بالانتخاب، وبإشراك العمال والموظفين إشراكاً فعلياً في إدارة مؤسسات أعمالهم، ينشأ عملٌ رائع، وهي الطريقة الأمثل لإقامة العدل الاجتماعي الحقوقي وتحرير النفوس. يقول سعاده عن “نشوء الأمم” إنه كتاب علمي تجنَّب فيه التأويلات الفلسفية، ما وجد إلى ذلك سبيلاً. وهو فعلاً قلَّما فعل ذلك؛ ومع هذا لم يستطع هنا تجنَّب إبداء رأيه فقال إنَّه “لخيال بديع في نظر [غيره]، وخيال سخيف في [ رأيه ] أن يكون كلّ فرد من أفراد المدينة المعترف بهم [شريكاً] فعليّاً في إدارة الدّولة“[20]. وهذا يدلَّنا على مدى تشديده بألاّ نسير نحو هذا السراب! ولجبران خليل جبران قصة مشهورة عن العين التي أخبرت رفيقاتها أنها رأت جبلاً! لكنهن، إذ لم تُتحْ المواهب الخاصة لأيٍّ منهنَّ الشعور بالجبل، فلم تسمع أو تلمس أو تشم أيٌ منهنَّ الجبل، قررَّن بالإجماع أن لا وجود له، وأن العينَ على ضلال! وبالقياس، أعتقد واثقاً أن الأمر ينطبق أيضاً على إدارة الجمعيات باختلاف أنواعها.
أعتقد أنه بإمكاننا الآن إدراك أن الديمقراطية التمثيلية ليست هي االطريقة التي ستمنع الرأسمالي من التصرف وفق ما تمليه مصلحته الفردية، بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج. فكل واحدٍ من هؤلاء مدفوع بمصلحته الشكلية الخصوصية، التي وإن تماثلت مع آخرين، تبقى في أفضل الأحوال فئوية، تناسب بعضاً وتناقض بعضاً آخر. وهذا يعني أنه إذا ما جعلنا من بين هؤلاء ممثلين في مجالس الإدارات، فلا ريب أنهم سوف يعطِّلون هذه المجالس بالتضارب الداخلي الذي سيحدثونه، جرَّاء ترويجهم للسياسات المتناقضة. وبدهي أنه لا الدولة، ولا أية مؤسسةٍ من مؤسساتها أو قاضٍ من قضاتها، يمكنه التقرير أو التصرُّف في أي أمر من الأمور نيابة عن أية جمعية أو دائرة من دوائر العمل. فكيف السبيل إذن؟
ذكرنا فوق أن الشركة، أو دائرة العمل، هي وسيلة مصالح خصوصيّة متماثلة. فإذا كانت مصلحة المساهمين الإثراء، فإن مصلحة العمال ومؤجِّري الأرض كذلك هي الحصول على بدلٍ يؤمِّنون به مقوِّمات حياتهم؛ أي أن الغرض في النتيجة واحد لجميع الشركاء. أما الوسيلة، والتي هي إنتاج أو تسويق شكل أو أكثر من أشكال الإنتاج، وبالتالي هي بالضرورة مصلحة معيَّنة من مصالح المجتمع، تكون المصلحة المشتركة التي تشملهم جميعاً، والتي يحقق فيها كلُ شريكٍ مصلحته الخاصة، بالمداورة. والحقيقة أن هذا هو أساس العلاقة كلها فيما بينهم، لكونها العامل الفاصل والمقرر لاشتراك أيٍ منهم في العمل، ومداه. لذلك يصبح من الضروري أن تحل المصلحة المشتركة هذه، ليس فقط فوق مصلحة الرأسمالي، بل فوق أية مصلحة فردية أو جزئية أخرى لأي شريكٍ من الشركاء. أما تحقيق هذا المبدأ، فله وجهتان: إحداهما ذاتية تقوم على تعهد الشركاء بالإلتزام به عند التعاقد، والثانية تستند إلى ضبط الدولة القومية.
ولا يسعنا هنا سوى أن نقصر الحديث على العمل المنظَّم المستقلِّ عن الأفراد، أي المنظمات تحديداً. وهي، كما نفهم من تعريف سعاده لها، الجمعيات التي تشكِّل الإدارات وتسجِّل الحقوق والواجبات[21]. وهذا يقتضي بطبيعة الحال، وجود دستور يعيّنها وفقاً لغاية وخطة عمل تكونان موضحتين فيه وضوحاً لا لبس فيه. والحقيقة أن هذا يحدث حالياً، إذ أن مؤسسي المشاريع يعدُّون فعلاً وعلى نحوٍ مفصل وموثَّق مثل هذه الخطة؛ إذ غالباً ما تشكِّل المستنَد الذي يتم على أساسه الحصول على التمويل من المصارف وصناديق الاستثمار. ومع أن هؤلاء الممولين قد لا يكونون بالضرورة شركاء في المشروع، فإن المؤسسين يتعهدون لهم بالتنفيذ وفقاً لما جاء في الخطة. وبالمقابل، فنحن لا نجد أي التزام من هذا القبيل يُقدَّم للعمال والموظفين، باستثناء قِيم محددة من الرواتب والأجور والفوائد الصحية والاجتماعية، والتي قلما تزيد كثيراً عما تفرضه الدولة. وبدهي إذن وجوب إعطاء وجهة جديدة لهذا الإلتزام، ليصبح بين المؤسسين أصحاب الدعوة إلى المشروع من جهة، وبين كل فرد من الأفراد المقبلين عليها من جهة أخرى؛ حيث يتعهّد المؤسسون، وقد باتوا الآن الهيئة الإدارية للمشروع، بالأمانة في تحقيق الغاية منه وتنفيذ خطة العمل المرسومة، بتقديم النظام الآن والوسائل الموافقة. بينما يلتزم المقبلون، الذين هم العمال والموظفون ومؤجِّرو الأراضي والعقارات، بتقديم الواجب المطلوب منهم، أي الطاعة لتقديم العمل الذي هم مؤهلون له. في هذه العلاقة التفاعلية، تحصل الإدارة على قوة الإنتاج التي تطلبها من الأفراد، لقاء حصول كل واحدٍ منهم على حقه النسبي منها، والمتفق عليه؛ أي النسبة التي يكون لها فيها الحرية في التصرُّف.
نقطة الضعف في حركة العمل هذه تكمن في ما ذكرناه من أن الإعتبارات العامّة لدوائر العمل هذه مقرّرة كلها بالمصلحة الشّكليّة الخصوصيّة لكلّ عضوٍ فيها، قبل كلّ شيء. لهذا يصبح من الضروري الاستناد إلى تدخُّل الدولة لتصحيح هذا الخلل ووضع المصلحة المشتركة للشركاء فوق مصالحهم الفردية. وعلى هذا نفهم قول سعاده في شرحه لهذا البند: “التوجيه من الدولة وسن القوانين إلى أقصى حد ينمي حيوية الشعب ويعطي الخير العام، مهما تذمر بعض الخصوصيين لما يحرمون منه، هو أمر لا مفر منه، وهو أمر لا يمكن الاستغناء عن تقريره في حالة إنشاء الدولة القومية التي نريد إنشاءها“[22].
بهذا التوجُّه لا يعود الرأسمالي، أو الإدارة حسبما يتفق، حرةً بالتصرف بالقوة المتمثلة بالموارد والجهود التي يأتمنها شركاؤها على قيادتها. بل تصبح هذه ملزمة ببنود الدستور الذي تتعاقد عليه مع كل شريك، سواءً كان عاملاً أو موظفاً أو مؤجِّراً لأرض، أو ما شاكل.
ومن خلال ضبط مصالح وإرادات الشركاء ومصلحة وإرادة الهيئة الإدارية في العلاقة التفاعلية التي ذكرناها فوق، والتوفيق بين عناصرها من حرية وواجب ونظام وقوة، وتوجيه حركة العمل وجهة مصلحة المؤسسة أو الدائرة التي تجمعهم جميعاً، تولد روح المؤسسة أو ما يسمى ﺑ [e’spirit de corp]، التي تواظب على حفز الأعضاء أكثر فأكثر إلى الدفاع عن مصالحها والعمل على نجاحها، لأن كل واحد منهم يدرك تماماً أنه بقيامه بواجبه، بل وبالتفاني فيه، إنما يحقق أيضاً مصلحته التي فيها الخير والتقدم لحياته، وحياة عائلته!
أكتفي بهذا القدر، إذ أن هذا القسم قد فاق ما هو مقررٌ له، على أن يكون لنا عودة أخرى، نبحث فيها على نحوٍ أوفى خصائص تطبيق الفكرة التعبيرية في المنظمات الاقتصادية، وليس فقط في منظمة الدولة. حسبنا هنا أننا لفتنا الانتباه إلى هذا الأمر.
الخلاصة
أعتقد أننا لو عدنا الآن إلى ما كنا ذكرناه في القسم الأول من هذه الدراسة عن السبب الذي دفع سعاده لإضافة لفظة “الاجتماعي” إلى اسم الحزب، وإلى قوله بأن المبدأ الإصلاحي الرابع يتضمن عقيدة الحزب الاجتماعية، سنجد القارىء وقد أحاط بالأسباب التي مكَّنت سعاده من هذه الخطوة. فنحن بهذا المبدأ لسنا أمام مجرد سياسة مالية أو نقدية أو حتى اقتصادية سوف تنتهجها حكومات الدولة القومية الاجتماعية المتعاقبة، بل أمام نظامٍ يفعل عميقاً في المجتمع إذ يضعه على أساس جديد ويعطيه وجهة جديدة ويولد فيه زخماً حيوياً فَيّاضاً يمكن الأمة من انتزاع مكانتها بين الأمم في تنازع البقاء وصراع التقدم. نحن أمام نظام سوف يبيد طبقية الإقطاعي، وكذلك طبقية الرأسمالي بشتى أشكالها وأنواعها، ويعيد بناء المجتمع في وحدةٍ متينة، بِدءاً من إعادة تنظيم وحدات العمل، مروراً برصِّ صفوف المنتجين، ثم تمكين أشكال الإنتاج القومي من اتخاذ موقفٍ موحدٍ في تفاعلها مع إنتاجات الأمم الأخرى. بِعرف سعاده، ” إن الاقتصاد يجب أن يعني الازدهار وليس البقاء على الاستمرار في الحياة. إن الاقتصاد يجب أن يعني توفير إمكانيات التقدم والتمتع ورفع مستوى المصالح المادية والفنية والنفسية للشعب الواحد[23]. واعتقادي أن القارئ يجاريني القول إن نظام سعاده، الذي بيَّنَّا خطوطه العريضة في هذه الدراسة، قادر على تحقيق تلك الغاية بهذا التنظيم، وبضبط موارد الأمة لتعمل في سبيل خيرها وعزها.
عسى أن تفي هذه الدراسة بالغرض منها، فتعوِّض بعضاً مما فاتنا من شرح سعاده للمبدأ الإصلاحي الرابع، وتوضِّح الخصائص الأساسية لنظامه. لكني أطمح إلى أن تكون فاتحةً لدراسات وأبحاث أخرى تدقق في تفاصيلها، وتبني عليها، كي تخرج بالحلول الناجعة للتحديات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الأمة في وقتنا الحاضر.
ولتحيا سورية وليحيا سعاده.
المراجع:
[1] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 124.
[2] المصدر السابق، ص 127.
[3] المصدر السابق، ص 125.
[4] المصدر السابق، ص 125.
[5] نشوء الأمم، الفصل الخامس: المجتمع وتطوره، ص 75.
[6] H. Sheety, A Materialistic – Spiritual Approach To Organization Theory, Manchester Business School Library, 2005, P 77.
[7] المحاضرات العشر، المحاضرة العاشرة، ص149.
[8] الآثار الكاملة، الجزء الثالث، 1937، “الرأي العام”، ص 222. منقول عن جريدة النهضة العدد 27، في 13 نوفمبر 1937.
[9] نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 143.
[10] الآثار الكاملة، الجزء الثالث، 1937، “الرأي العام”، ص 223. منقول عن جريدة النهضة العدد 27، في 13 نوفمبر 1937.
[11] الآثار الكاملة، الجزء الرابع، 1938، “عودة أخرى إلى النظام البرلماني”، ص 170. منقول عن جريدة النهضة العدد 120، في 19 مارس 1938.
[12] الأعمال الكاملة – المجلد الرابع – الزعيم في سانتياغو، إصدار مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 38.
[13] المصدر السابق.
[14] المعلم بطرس البستاني، محيط المحيط، مكتبة لبنان، طبعة 1987، ص 571، أعلى العامود الثالث.
[15] الأعمال الكاملة – المجلد السابع – الحق والحرية – مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 391.
[16] الأعمال الكاملة – المجلد الرابع – الزعيم في سانتياغو، إصدار مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 38.
[17] الأعمال الكاملة – المجلد العاشر – الرسائل، إلى يوسف الغريب 15/1/1942، إصدار مؤسسة سعاده للثقافة 2005، صفحة 224.
[18] المحاضرات العشر، المحاضرة الأولى، ص 23.
[19] نشوء الأمم، الفصل السادس نشوء الدولة وتطورها، الدولة المدنية والأمبراطورية البحرية، ص 114.
[20] المصدر السابق.
[21] نشوء الأمم، الفصل السادس نشوء الدولة وتطورها ، إدارة الدولة، ص 103.
[22] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 127.
[23] المصدر السابق، ص 124.