عودة إلى نظام سعاده الاقتصادي-حنا الشيتي
القسم الرابع: إنصاف العمل والرأسمال القومي
في القسم الثاني من هذا البحث تحدثنا عن حق العمل، وذكرنا أنه ليس حق حصول العمال على وظيفة. بل إن هذا، بعرف سعاده، لا يكون إلا حقاً وهمياً إن لم يكن قد حصلنا قبله على حق العمل. فللعمل مطالبٌ في موارد الأمة وثرواتها لا يجري بدونها، ولا بد لنا من الاستجابة لها وتقديم ما تقتضيه. المصلحة من العمل هي مصلحة قومية عامة. يقول سعاده إنه “ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني”. وبالتالي فإن “ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية”[1]. وعلى أساس هذا المبدأ الفلسفي المطلق بُني بند إنصاف العمل، أي إيفاؤه ما أُجحِف من حقوقه.
ولعل أول ما يتبادر إلى ذهننا هنا هو الأرض ومواردها الطبيعية، والتي يبقى تسخيرها للمصلحة العامة أمراً مفروغاً منه لا جدال فيه. بل إن بند إلغاء الإقطاع في المبدأ الإصلاحي الرابع، مشتقٌ أيضاً من مبدأ وجوب إخضاع ثروة الأمة العامة لمصلحة الأمة العامة. ونحن وإن كنا قد أسقطنا من بحثنا شرح هذا البند فليس لقلة أهميته، بل لوضوح شرح سعاده له. ففي محاضرته تلك، يقول سعاده إن الحزب لا يمكن أن يسكت عن حالة تكون فيها مساحات شاسعة من الأرض بعهدة “بكوات” إقطاعيين يتصرفون بها أو يهملونها كما شاؤوا؛ فحالة كهذه لها أبعادٌ ليست فقط اقتصادية عامة، إذ تُحال حياة ألوف من الفلاحين إلى عيشة زرية في حالة من الرق يرثى لها، بل أيضاً في أنها تهدد السيادة القومية. أما في مقالة “البترول سلاح أنترنسيوني” فنجد أن ضبط استخدام موارد الأمة ليس فقط لأجل صيانة مصالحها الاقتصادية، بل لأن هذه الموارد كثيراً ما تُرقَّى لتكون سلاحاً هاماً في معترك الأمم، إن لم نحسن استخدامه فلا أمل لنا في أن نربح “”الجولات المقبلة في حرب الموت والحياة مع الغزاة الصهيونيين“.
لكن أقوى هذه الموارد والثروات على الإطلاق، بل الأقوى منها كلها مجتمعة، هو الرأسمال المعبَّر عنه بالكتلة النقدية المتداولة في المجتمع. والسبب في هذا هو القوة الشرائية للعملة! هذا التعبير الذي كثيراً ما نسمعه ونردده، لكن قلما نفكر في حقيقة ما يعني رغم أنه يشير إلى قوة عظيمة تجعلنا – لأجل الحصول عليها – نُسقط طوعاً حقنا في ما نملك، ونلتزم القيام بواجب لا مصلحةً لنا فيه! أما حاجة العمل لهذه القوة – القوة الشرائية، فهي مطلقةٌ شاملة لكل نوع من أنواعه ولا يجري بدونها؛ بل هي الروح المفعّلة لحركة كل عمل اجتماعي. وإذا كان حق العمل يعني حقه في تأمين مطالبه من الموارد وتسخيرها له، فأول ما يعنيه هذا الحق هو تسخير الرأسمال لخدمة مطالبه، أي مطالب العمل.
ما يعرفه جيداً خبراء المال بل ورجال الإدارة عموماً أنهم يحتاجون السيولة النقدية لمؤسساتهم الاقتصادية مثل حاجتهم للرأسمال لشراء الآلات والمعدات الثقيلة والعقارات وما شاكل. بل إن حاجتهم للسيولة أشد، لأنها الوقود المحرك لكل نشاط من أنشطة العمل كبيراً كان أم صغيراً. فهم يحتاجونها دوماً، وعلى نحوٍ متواترٍ لا ينفك، لشراء المواد الخام ودفع رواتب الموظفين والإنفاق على الخدمات، وتمويل البيع بالدين، وإلى ما هنالك. زد على هذا، أنه حتى المهمات والمأموريات البسيطة لا يمكن تنفيذها بدون المال، حيث يخصص لهذا الغرض ما يسمى بصندوق النثرية (petty cash). أما تسمية الجزء من الرأسمال الذي يُرصد لتمويل أعمال المؤسسة بالرأسمال العامل (working capital)، فليس إلا الدلالة لنا على العلاقة الوثيقة والحيوية بين العمل والرأسمال.
فإذا كانت حاجة كل جمعية إلى الرأسمال أساسية، فبدهي أن تكون حاجة حركة العمل في كل المجتمع للرأسمال حاجة عامة وأساسية أيضاً. مع هذا، فإننا نجد هذا المورد الرئيسي والهام، والمُقدَّر له أن يزداد نمواً وسيطرة، بعهدة أفراد رأسماليين يتصرفون به وفقاً لرغباتهم ومصالحهم الفردية، وبصرف النظر عن مصلحة الأمة والدولة. فإذا كان الحزب لا يمكنه السكوت على الحالة الإقطاعية التي تسمح للأفراد بإساءة استخدام مساحات شاسعة من الأرض، فهو أيضاً لا يمكنه السكوت على حالة مثيلةٍ لها في التصرف بالرأسمال. يقول سعاده إن “الرسمال الذي هو ضمان استمرار الإنتاج وزيادته هو، بالتالي، وبما أنه حاصل الإنتاج، ملك قومي عام مبدئياً وإن كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج“[2].
لكن هذا القول يجب ألاّ يحملنا على إعطائه تفسيرات غريبة عن نظام فكرنا ونهجنا. فللرأسمال خصوصية تفرض علينا أن نحتاط لها فلا نعالج الاستبداد به مثلما نعالج الاستبداد الإقطاعي، ونعمل على إلغائه. يقول سعاده إنه “لا يمكن أن نعني إلغاء الرسمال بالمرة“، وإن ” الأمة الناهضة لا يمكن أن تفكر أبداً بمسألة جنونية كإلغاء الرسمال مثلاً “[3]. لذا نجد سعاده قد حرص على شرح معنى قوله فوق شرحاً وافياً ودقيقاً إذ تابع قائلاً بأننا ” لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية كملكية عملية ولا إلى أخذ الرسمال من أيدي الأفراد رأساً ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن يعني أن الأفراد الذين يتصرفون الآن بالرسمال تصرفاً فردياً يتصرفون به تحت إشراف الدولة لضبطه وتوفيقه لأنهم مبدئياً مؤتمنون عليه ائتماناً من قِبَل المجتمع يبقي لهم قوة الاستنباط والتفنن لإنتاج ما يشعرون بأنفسهم الكفاية لإنتاجه، ويتصرفون بحرية ضمن شروط تضعها الدولة. ولكن يكون من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسن القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل“ [4].
ورغم هذا التحديد الواضح لدور الأفراد ولدور الدولة في التصرف بالرأسمال، فقد كان غريباً جداً أن نجد القيادات الحزبية في زمن الانحراف العقائدي خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، قد حوَّرت هذا المعنى وحولته إلى فكرة غريبة بالمرة عن عقيدتنا ومبادئها الفلسفية. لا، ليس صحيحاً قول رئيس الحزب آنذاك، الأمين إنعام رعد، أن سعاده، واستناداً إلى ما اقتبسناه عنه فوق، كان يدعو إلى إلغاء الملكيات الفردية التي يزيد حجمها على حجم دكاكين الحِرَف والمؤسسات الصغيرة، والتي يتعدى ربحها نسبة الربح الفردي، أو أنه كان يدعو إلى إلغاء حق الوراثة [5]، وأنه وإن أجاز للأفراد التصرف بالرأسمال في مرحلة ما، فهذا لا يُعَدُّ إلا “استثناءٌ للقاعدة يمكن إلغاؤه في أية لحظة“[6]!
فها هو سعاده في مقالته “قضية حصر الثروة”، يدعو متمولي الأمة وأغنياءها إلى “أن يقلعوا عن حصر ثروتهم في الصناديق الحديدية، وليخرجوها إلى نور الشمس لتشغيلها واستثمارها بواسطة إنشاء مصرف تعاوني Cooperative برسمال قومي، وإنشاء مؤسسات اقتصادية قومية منظمة ترفع زراعة البلاد وتجارتها وصناعتها، وتعود أيضاً على أصحاب هذه المؤسسات بالفائدة الكبرى والربح الطائل“. كذلك هو يدعو المصارف الوطنية، وقد كانت صغيرة وضعيفة، كي ” تتحد لتأسيس مصرف سوري كبير كمصرف “بنك مصر” مثلاً، [فتكون] الفائدة التي تجنيها البلاد في شتى نواحي اقتصاداتها، فائدة كبيرة تعود على أبنائها بالرخاء والانتعاش“ [7].
جُلَّ ما تحققه مثل هذه الدعوات التي كان يقول بها الأمين رعد ومَن وافقه، لو قدّر لها أن تُطبَّق، هو أنها تؤدي إلى هروب الرأسمال إلى خارج الدولة وإبادته! أجل إبادته، لأن التهريب لن يشمل فقط ثروة الرأسمال التي تكون موجودة حين استلام الحزب للسلطة، بل أيضاً كل حفنة رأسمال يمكن لها أن تتكون لاحقاً. عملٌ كهذا يكون بلا شك مناقضاً لفكر سعاده، وينطبق عليه القول الذي ذكرناه فوق بأنه عملٌ جنوني.
إذن هناك تحديد واضح وحاسم للأدوار التي سوف يقوم بها كل طرفٍ من الطرفين. الدولة سوف تمنع الاستبداد بالرسمال من قبل فرد ضد مصلحة المجموع، ليس بمصادرته بل بتنظيمه وضبطه. وأول خاصة من خصائص التنظيم هي تعيين اتجاهه وغايته. لكنها لن تصادر حق التصرف بالرأسمال الذي يبقى من حق الأفراد حيث أنهم مَنْ سيتصرف به “بحرية، (لكن) ضمن شروط تضعها الدولة”. وهكذا لن يُباد الرأسمال وإنما يتحول من حالة إلى حالة.
أما قول سعاده بأننا لا نرمي إلى ” أخذ الرسمال من أيدي الأفراد رأسًا“، فيشير إلى أن هناك طرقاً مداورة لأخذ الرأسمال من الأفراد غير تلك التي تأخذه منهم رأساً أو مباشرةً. وهذا ما سنبحثه في الفقرة التالية.
نمو الثروة القومية وإنصاف العمل
تجدر الإشارة إلى أن الفكرة الجوهرية لمقالة سعاده “حصر الثروة” التي ذكرناها فوق، هي معالجة الإجحاف الذي يلحق بحق العمل عندما يقفل الناس على أموالهم داخل صناديقهم الخاصة عوضاً عن دفعها إلى عجلة العمل والإنتاج، وبدلاً من أن ينشئوا المؤسسات الاقتصادية القومية التي تعود عليهم وعلى الأمة بالخير. وبدهي أن قدرة الأموال على إطلاق المشاريع ليست قوة كامنة في ذاتها، فهي من هذه الوجهة ليست إلا أوراقاً، أو بالأحرى قيديات في سجلات المصارف. أما القوة الفعلية فهي في ما يملكه المجتمع من ثروة قومية (National Wealth) [أنظر الشرح في 8]. رغم هذا تبقى العلاقة وثيقة جداً بين كمية الكتلة النقدية المتداولة وبين الثروة القومية. ويمكننا بشكلٍ عام القول، بأنه لا بد من إبقاء النسبة بين الاثنتين ثابتة للمحافظة على مستوى الأسعار، وعلى زخم حركة العمل والإنتاج. فزيادة نسبة كمية الأوراق النقدية مثلاً، ستؤدَّي إلى تضخم الأسعار. بينما يؤدي إنقاصها، كما يحدث إن تعوَّد الناس على حصر ثرواتهم في الصناديق، إلى ركود اقتصادي وخفض في الإنتاج نتيجة التشنجات التي تحدث، فتجحف العمل حقه في الحصول على الرأسمال، وتتعطل حركته.
والحقيقة أن زيادة أو إنقاص كمية النقد المتداولة في المجتمع ليست العامل الوحيد في إنقاص النسبة بينها وبين الثروة القومية، إذ أن هذه الأخيرة قابلة أيضاً للتغيُّر. فالحروب والكوارث الطبيعية مثلاً تؤدي إلى دمار أو إنقاص الثروة، مما يزيد من نسبة الأوراق النقدية المتداولة، فتفقد هذه من قوتها الشرائية وينجم عنها تباعاً ظواهر التضخم المالي عينها. أما في حالات السلم والازدهار الاقتصادي فتجنح الثروة القومية إلى النمو بعامل ما تحققه المؤسسات الاقتصادية من أرباح أو ما يوفره الأفراد من مداخيلهم. لذلك في مثل هذه الحالات لا بد للدولة، وتحديداً المصرف المركزي فيها، من زيادة كمية النقد المتداولة للحفاظ على ثبات الأسعار. ولقد بقيت هذه الخاصة مجهولة على الحكومات حتى النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي، حين قدّم العالِم البريطاني الاقتصادي جون كينز[9] نظريته الاقتصادية، مشيراً على الحكومتين البريطانية والأميركية بزيادة السيولة في عجلة اقتصاد بلادهما. ولن ندخل هنا في مناقشة أو تقييم نظرية كينز، فنبتعد عن مسار بحثنا. يكفينا القول إن مشورته أنقذت الوضع الاقتصادي المنهار في بلاده وفي الولايات المتحدة. قبل ذلك، كثيراً ما كان جهل حاجة الاقتصاد إلى زيادة كمية الأوراق النقدية يؤدي إلى تشنجات خطيرة في حركة الاقتصاد مثلما حدث في حالة الكساد الاقتصادي الكبير عام 1930، والذي يُعد أسوأ تراجع اقتصادي في تاريخ العالم الصناعي.
في كتاب “نشوء الأمم”، وفي معرض بحثه في الثقافة التجارية، يذكر سعاده أن إتجار الفينيقيين مع الأمم وتموينها بما تحتاج إليه كان يعطي الرسمال “ربحاً ينمي الثروة القومية“[10]. وهذه اللفتة هامة جداً لأن نوع هذا الربح – ولنسمِه الربح القومي – هو غير نوع الأرباح الأخرى التي يحققها الأفراد في تجاراتهم الداخلية. والربح القومي هذا هو قيمة عينيَّة تتمثل في تفوُّق قيمة البضائع التي كان الفينيقي يعود بها إلى وطنه على قيمة البضائع التي كان قد خرج بها، دون أن يكون هناك أي كمية من نقد العملة المحلية تغطي الفارق بين القيمتين.
إنها أشبه ما تكون بثروة قومية قد أقفل أصحابها على أوراق النقد التي تمثِّلها في صناديقهم الحديدية؛ بل حتى كأنهم قد أحرقوا هذه الأوراق. وبناءً على ما بحثناه فوق، فإن هذا، إذا حدث اليوم، سيؤدي إلى إجحافٍ بحق العمل، يقتضي لإنصافه زيادة كمية النقد المتداولة بما يناسب قيمة الربح! وبدهي أن هذه الزيادة هي زيادة حقيقية في الرسمال، وسوف تشكِّل بحبوبةً يشعر بها كل أبناء المجتمع؛ وليس فقط من اشترك منهم في التجارة الخارجية، والذين تبقى أرباحهم الفردية التي حققوها شيئاً مستقلاً عن الربح القومي.
لكن هذا كان يمكن أن يحدث اليوم فعلاً، لولا النظام الاقتصادي السيِّئ. فمن الوجهة المبدأية، لا بد لكل دولة من معادلة ميزانها التجاري مع الدول الأخرى. وهذا يعني أن ما تحصَّله دولة ما من عملة أجنبية لقاء ما تصدَّره من بضائع لا بد لها من إعادة رد تلك العملة إلى دولها المعنية باستيراد بضائعٍ منها بما يوازي قيمة العملة التي جنتها منها. فالربح القومي ليس كربح الأفراد، يحدث بأن يحصَّل بلدٌ ما من الدولارات مثلاً أكثر مما ينفق. لا، بل يحدث في أن تتفوق قيمة البضائع التي يستوردها على قيمة البضائع التي يصدَّرها، رغم أن قيمة الدولارات التي صدَّر واستورد بها هي واحدة. نظرياً إذاً، كل ربح قومي ناتج عن التجارة الخارجية هو عامل منمِّي للثروة القومية تقتضي حكمة إنصاف العمل إضافة كمية مناسبة إلى النقد المتداول، أي زيادة الرسمال وتنميته! لكن ما يعكِّر صفو تحقق هذه الوجهة المبدأية، على فرض أن الأمور الأخرى تبقى متساوية، هو ما كنا ذكرناه في القسم الثاني، أن البضائع المستوردة كثيراً ما تؤدي إلى زيادة في البطالة إذ تحل مكان اليد العاملة المحلية. في حالة من هذا النوع لا يعود الربح القومي عاملاً على إنماء الثروة القومية، لكن جُلَّ ما يساهم به هو تعويض النقص في الإنتاج جرَّاء إزدياد معدلات البطالة.
أما في حالة تمكَّن النظامُ الاقتصادي من حل مشكلة البطالة، وتحقيق العمالة التامة، فسوف يكون الربح القومي الناتج عن التجارة الخارجية، آنئذٍ، عاملاً منمِّياً للثروة القومية، تقتضي مصلحة إنصاف العمل بموجبه زيادة الرسمال القومي بكمية من النقد مناسبة لقيمة النمو في الثروة. بل حتى أن هذه الخطوة تكون فرضَ واجبٍ لا بد منه، لأن السيولة النقدية المتداولة لا تعود كافيةً لتصريف كل الإنتاج، وتفعيل كل حركة العمل؛ وبالتالي في هذه الحالة، لا يعود النظام الاقتصادي قادراً على تحقيق العمالة التامة. ومن هنا نفهم العلاقة الوثيقة بين بند “تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج“، والقائل بأن “ كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق“، وبين بند “إنصاف العمل”. فبدون هذا لا يستوي ذاك، وبدون ذاك لا حاجة لنا لهذا.
بنمو الثروة القومية إذن، سواءً بعامل التجارة الخارجية أم بالعوامل الداخلية الأخرى، ينمو أيضاً الرسمال القومي على نحوٍ مستقلٍ عن نمو الرسمال الفردي، ومرافقٍ له. وبدهي أن هذا الرسمال هو من حق العمل حصراً. حتى الدولة لا يجوز لها أن تصرفه على شؤونها الخاصة أو تستهلكه، كما قال كينز مثلاً. كلما ارتقى التفاعل، ازداد العمل المداور، وازدادت الحاجة إلى الرسمال، حيث من الهام أن يكون مكونه الأساسي رأسمالاً قومياً لا فردياً. هذا رغم أنه من الوجهة العملية يكون هذا الرأسمال بعهدة “أفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج“، لقاء فائدة يدفعونها للمصارف التي استدانوها منها.
الرأسمال والنظام المصرفي
تجدر الإشارة إلى أن السبب الذي دفع سعاده لوضع هذا البند الإصلاحي لم يكن لأجل معالجة معاناةٍ كان آنئذٍ يعانيها أي من اقتصادات الدول السورية. بل كان استشرافاً لما سيحدث في المجتمع السوري في المستقبل، وعلى ضوء درسه لمعاناة المجتمعات الصناعية من هذه المشكلة آنذاك. فها هو، في محاضرته الثامنة، يقول صراحة بأننا ” نتكلَّم عن حق العمل وكثير من العمال. ونحن لم ندخل الطور الرسمالي الصحيح والصناعات الكبرى. إن أساس الاقتصاد لا يزال ضمن الحالة الزراعية“. و”إن سورية لم تحول حتى الآن إلى بلاد صناعية يتركز فيها رسمال ضخم ويزداد تضخمه مع الوقت“. فإذا كان هذا هو الحال في العام 1948 زمن إلقاء المحاضرة، فكيف بالحري كان الوضع في العام 1932 أي زمن وضعه للمبدأ الإصلاحي، عندما كانت البلاد كلها ما زالت إما تحت الإنتداب الفرنسي أو الإنتداب البريطاني.
أجل، لقد نما الرأسمال القومي في معظم دول الأمة نمواً كبيراً منذ ذلك الوقت، ومع هذا لم تتقدم حال المواطنين فيها كثيراً. بل على العكس من ذلك، إذ أننا ما زلنا نشهد في بقاع كثيرة منها حالات مزرية من شظف العيش والجهل وسوء الرعاية الصحية والبؤس. وإذا كانت الحروب والاستعمار وسوء النظم السياسية هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن هذا الويل، فسوء النظام المصرفي لا يقل سوءاً عنها، بل هو وسيلتها في التهام خيرات الشعب ونهب ثرواته. وللأسف، وكما توقع سعاده وحذّر، لقد نما الرأسمال على النحو الذي تابع فيه تواطؤه مع الرأسمال الأجنبي[11]. أما في النظام المصرفي بمعظم دول الأمة، فقد تابعت المصارف المحلية تطورها على النحو الذي لم تكن فيه سوى واجهة للمصارف الأجنبية[12]. ولا شك أن المصارف المحلية والأجنبية، بعد كل هذه العقود الطويلة من التمرس على اللصوصية، قد استفحل شأنها فطورت شتى الأساليب والوسائل لتموِّه بها ممارساتها وتحمي نفسها. مع ذلك، تبقى وسيلتها الأساسية واحدة، ألا وهي قوة خلق العملة. ورغم أنه لا سلطة شرعية لها بذلك، وأن مالكي هذه المصارف هم بضعة أفرادٍ فقط، إلا أنه بالتلاعب على القانون والمواربة به، تصبح هذه المصارف مثل الدولة قادرةً على إصدار العملة. بل إن ما تصدره هذه يساوي أضعاف ما تصدره الدولة، لكن دون حسيب أو رقيب، أو بالأحرى تحت أعين المصرف المركزي. وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من الرأسمال القومي الذي يظهر في سجلات المصارف، على أنه دين للمصارف على المؤسسات والأفراد، هو ليس ملكاً لها، ولا هي قد إئتمنت عليه، ولا بد من استرجاعه وإخضاعه لضبط الدولة.
ولن ندخل هنا في شرح تفاصيل لعبة التزوير هذه والتي تمارسها المصارف لخلق العملة، فهي بأية حال أضحت معروفة لأصحاب الاختصاص وطلبة علم الاقتصاد والمال. يكفي أن نذكر أن ما يسمى بالإحتياطي الإلزامي الذي يفرضه القانون على المصارف ويلزمها بموجبه إيداع نسبة مئوية من التزاماتها لدى المصرف المركزي (في لبنان 13%)، ليس إلا لذر الرماد في العيون، إذ أنه لا يلغي الطبيعة اللصوصية لهذه اللعبة، ولا يعيق أو يحد من قدرة المصارف على ممارستها، ولا يحمي المجتمع من تبعاتها السلبية. ولقد حدا هذا الأمر العديد من الدول إلى إلغائه بالمرة مثل كندا التي كانت السباقة باتخاذ هذه الخطوة، ثم تبعتها دول أخرى مثل سويسرا ونيوزيلندا وبلجيكا وأستراليا والسويد والدنمارك وبريطانيا والمكسيك. أما في الاتحاد الأوروبي فهي 2% للعقود الإئتمانية التي يقل أمدها عن سنتين وصفر لما يزيد عن ذلك[13].
لذلك ليس غريباً في نظام مصرفي سيِّء أن نجد الرأسمالي صاحب المصرف، وقد فاقت قوته أضعاف أضعاف قوة الرأسمالي صاحب المصنع. وأصبحت حرية الثاني في التصرف بالعمل والإنتاج رهن مشيئة الأول. والأرجح أنه في النظام المصرفي السيء سرعان ما يقع كلا الصنفين من الرأسماليين ومعهما الرأسمال القومي كله فريسة الرأسمال الأجنبي. فمثلما أدى اتباع الإنسان لنظام اقتصادي سيء بعد الثورة الصناعية إلى إبادة النظام الاقطاعي وإقامة نظام طبقي جديد مكانه يتبوأه الرأسماليون التقليديون، أي أرباب الجمعيات الصناعية والتجارية، كذلك نجد أن مجتمعات الدول التي تتبع نظاماً مصرفياً سيئاً، خصوصاً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد أفرزت طبقة جديدة من الرأسماليين المصرفيين فوق كل طبقات المجتمع الأخرى وتسلطت عليها جميعاً بما فيها طبقة الرأسماليين الصناعيين التقليديين أنفسهم. وفي أغلب الحالات، يفقد هذا الصنف من الرأسماليين أي شأن يذكر في الاقتصاد والسياسة، إذ تصبح مقدرات الدولة كلها بعهدة طبقة الرأسماليين المصرفيين، التي كثيراً ما تكون متحالفة مع الرأسمال الأجنبي، بل حتى صنيعته.
ولعل الصراع الذي دار بين الرأسمالي الصناعي هنري فورد، وهو صاحب مصنع السيارات المعروفة باسمه، واليهود، هو أبهى مثالٍ للصراع الخفي الذي دار بين طبقتي الرأسمالية: الرأسمالية الصناعية والرأسمالية المصرفية. هذا المهندس الفذ أحدث ثورة في صناعة السيارات، ليس فقط في ناحية التقدم التكنولوجي، بل أيضاً في تطوير نظام التشغيل والعمل على نحو أصبح بمقدور عامة الناس شراؤها. مع ذلك وجد نفسه في صراعٍ مريرٍ وعلى مدى عشر سنوات مع اليهود، وهم أصحاب المصارف في “وول ستريت” حيث عمل بلا هوادة لفضح أفعالهم، وأفعال المصرف الاحتياطي المركزي الأميركي (Federal Reserve Bank)، وهو ليس إلا مؤسسة خاصة بهم، لا حكومية كما يوحي أسمه ويعتقد معظم الناس. ويذهب عالم الاقتصاد الروسي كاتاسونوف إلى القول إنه ينصح من يريد معرفة ما هو الاقتصاد الرأسمالي بقراءة هنري فورد بدل أن يقرأ كارل ماركس[14].
بناءً على ما تقدم، يصبح من الهام جداً عند بحثنا موضوع إنصاف العمل أن نميِّز بين الإجحاف الحاصل جرَّاء النظام المصرفي السيء، وذاك الحاصل بعامل تفاعل الإنتاج القومي مع إنتاجات الأمم الأخرى، وبصرف النظر عن النظام المصرفي المتبَّع. وغني عن القول إنه لا بد لنا من التصدي لكليهما، حتى لا يكون جُلَّ ما نفعله هو إلغاء أحدهما لقاء تثبيت الآخر.
ولن يسعنا هنا الحديث عن الرأسمالية المصرفية، لا المحلية ولا العالمية. فلهذه شؤون وشجون تعود رحلة سيطرتها على أوروبا أولاً ثم أميركا ثم العالم بأسره، قروناً عديدة إلى الوراء، والحديث عن قصتها تطول! لذا سنكتفي بما قدَّمناه هنا، ونبقى ضمن النطاق الذي حددناه لهذه الدراسة، ألا وهو شرح المبدأ الإصلاحي الرابع، على أمل أن نعود إلى ذلك الموضوع في المستقبل.
المراجع:
[1] سعاده، “المحاضرات العشر”، المحاضرة الثامنة، ص 121.
[2] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 125.
[3] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 127.
[4] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 127.
[5] إنعام رعد، “محاولة في إيضاح قواعد الاقتصاد القومي الاجتماعي”، منشورات عمدة الإذاعة، الطبعة الأولى، نيسان 1976، ص 25-29.
[6] نفس المرجع ص 8.
[7] سعاده، الآثار الكاملة، قضية حصر الثروة، الجزء الرابع، ص 130. ملاحظة: إن هذه المقالة منشورة بخطأ مطبعي تحت عنوان “حصر الثورة”. كذلك هي ليست منشورة في المجموعة الكاملة.
[8] رغم أن الأبحاث الاقتصادية قد اعتمدت في كل الفترة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على إحصائيات إجمالي الناتج المحلي أو القومي (GDP)، في دراساتها وتقاريرها، إلا أن معهد السياسة العامة بجامعة كامبريدج قد أصدر مؤخراً تقريرًا يهدف إلى توفير أداة بديلة لهذا المقياس، ألا وهي: الثروة القومية. وتعليقًا على التقرير، قالت الأستاذة ديان كويل وهي المشرفة على إعداده، إنه “لا يمكن قياس تقدم القرن الحادي والعشرين بإحصائيات القرن العشرين. ويُعد التمييز بين المقياسين أمرًا مهمًا. فإجمالي الناتج المحلي هو مقياس (وهو مقياس خام إلى حد ما) لقياس مقدار النشاط الاقتصادي الذي حدث في غضون عام. أما الثروة القومية، من ناحية أخرى ، فهي مقياس لمقدار الاستعداد الذي يمتلكه بلد ما والذي يمكن تحويله إلى إنتاج ذي مغزى. أنظر:
- Kurt Cagle,Rethinking GDP And Wealth In The 21st Century,
- https://www.forbes.com/sites/cognitiveworld/2019/08/15/rethinking-gdp-and-wealth-in-the-21st-century/#43e0cca44b82
- Cambridge research project proposes new economic indicators for 21st century progress, Written on 25 Jul 2019
- University of Cambridge, Bennett Institute for Public Policy, Measuring Wealth, Delivering Prosperity, 2019, www.bennettinstitute.cam.ac.uk
[9] جون ماينارد كينز(1883-1946)، عالم اقتصادي انكليزي، وصاحب نظرية تقوم على عدة مرتكزات أهمها أن الركود الاقتصادي يحصل إذا ما تجاوز الادخار الاستثمار.
[10] نشوء الأمم، الفصل الخامس، المجتمع وتطوره، تطور الثقافة العمرانية، ص 83.
[11] المحاضرات العشر، المحاضرة الثامنة، ص 122.
[12] سعاده، الآثار الكاملة، الجزء الرابع، قضية حصر الثروة، ص 130.
[13] فالنتين كاتاسونوف، ترجمة د. ابراهيم استنبولي، استعباد العالم، نهب على الطريقة اليهودية، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2018، ص 476.
[14] نفس المرجع ص 609.
[15] M. Baigent & R. Leigh, The Temple and the Lodge, Arcade Publishing, 1989, 2011, page 18.