عمى الألوان، عَمَهُ البصيرة
عمى الألوان هو “عدم القدرة على التمييز بين بعض الألوان أو كلها التي يمكن أن يميزها الآخرون. هو مرض وراثي في غالب الأحيان، لكن ممكن أن يحصل بسبب خلل في العين أو العصب البصري أو الدماغ.” (ويكيبيديا)
عمى الألوان علّة طبية لا قدرة للمرء على التحكم فيها. ولكن هناك آفة اجتماعية أدهى بكثير من عمى الألوان. إنها عَمَهُ البصيرة، أي “عمى العقل والفطنة” حسب قاموس المعاني. أما سبب معالجتنا لهذا الموضوع في مجلة تُعنى بالفكر القومي الاجتماعي، فلأننا، بين الفينة والأخرى، نقع على تصرفات من أشخاص يُفترض فيهم ان ينطلقوا في تفكيرهم ونهجهم وقراراتهم من صلب المنهج القومي الاجتماعي، فإذ بهم أبعد ما يكونون عن ذلك.
وقبل الدخول في عَمَهِ البصيرة، بودنا التركيز على بعض النواحي الأساس في الفكر القومي الاجتماعي: إن العقل والفكر والمبادئ والعقائد والأديان كلها لخدمة الإنسان وليس العكس. إن المبادئ، هي نقاط انطلاق الفكر، وليس نقاط لجمه. إنها بداية وليست نهاية. والعقل القومي الاجتماعي منفتح على جميع الأفكار والاحتمالات. ولمن يرغب في الاستزادة حول هذه النقطة عليه، بخاتمة كتاب “الصراع الفكري في الادب السوري”، لسعاده.
النقطة الثانية هي ان للأخلاق في الفكر القومي الاجتماعي ركائز أساس أهمها “الوجدان القومي” (مقدمة نشوء الأمم)، و”الصدق”، (المحاضرة العاشرة) ، و”الحب”، (راجع ما كتبه سعاده في فصل الموسيقى، قصة فاجعة حب.)
النقطة الثالثة، هي أنك في جميع تصرفاتك تنطلق من اثنين: عقلك واخلاقك، ولا يجب أن يكون هناك تناقض بين الاثنين. أبدا. إن الموقف الأخلاقي هو موقف عقلي بامتياز. ليست الأخلاق في الفكر القومي الاجتماعي شيئا غيبيا، ولا دينيا. إنها فعل عقلي يستند إلى الأسس التي سبق ذكرها. بالتالي، فليس في المنهج القومي الاجتماعي مثلا من يقبل بعبارة، “اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم”، بل هناك “الكلمة تعنى مدلولها.” أي هناك أخلاق قائمة على الصدق ومواقف قائمة على الأخلاق.
عَمَهُ البصيرة نوعان: أحدهما، كعمى الألوان، سببه عطل في العقل أو الفطنة، وهذا لا حرج على صاحبه. إنه مسكين يستحق الشفقة. فهو يرى ويسمع ولكنه يعجز عن استيعاب ما يرى ويسمع. ولكن هناك نوعا آخر من عَمَهِ البصيرة حيث يتعمّد المرء إنكار ما يرى ويسمع لغاية في نفسه. فيحاول إلباس ما في نفسه لسواه، أو يجيز لنفسه ما يمنعه عن سواه. هذه اسمها مُرائية، وكانت من أعظم العلل التي رآها يسوع الناصري في الفريسيين.
يرى الناس بأم أعينهم ثلاثة أبنية متصدعة مهدمة، قاطنوها إما منقطعون عن التواصل فيما بينهم، او أن تواصلهم لا يعدو كونه شجارا وقتالا. فينكر هذا أعمى بصيرةٍ، أم مرائي نفسٍ، ناعيا على الناس بصرهم وبصيرتهم منزلا بهم اشد التهم والشتائم.
يرى الناس فسادا وإفسادا وسرقة وقتلا. القتلة والسارقون والفاسدون والمفسدون معروفون بالأسماء والمواقف والتواريخ. عَمِهُ البصيرة المرائي لا يرى سوى من يدل على القتلة واللصوص فيصب جام غضبه عليهم. إنه يُرغي ويُزبد طالبا إنزال اشد العقوبات، لا، ليس بالمجرمين، بل بمن يطلب وقفهم ومحاسبتهم.
المرائي فصيح في دفاعه عن الفساد، إنه عالي الصوت، عالي النبرة، يتكلم دون توقف. إنه مثل حاسوب ضُرب جهاز تحكمه! ما أن تضغط على زر التشغيل فيه حتى يبدأ بتفريغ كل ما في بطنه من مخزون. كلمات وحروف تنهال بسرعة هائلة بلا ضابط، ولا رابط ولا منطق ولا حساب. إنه يجتّر ما يفرّغ بلا انقطاع.
عَمِهُ البصيرة من المرائيين يخاف الحقيقة بالغريزة وليس بالعقل. إنه يدرك أنها تشكل خطرا عليه، على وجوده، على ولاءاته، على سيرته، على ضِعَتِه دون أن يدري لماذا. إنه يعيش كذبة كبيرة ولا يقدر ان يراها تنكشف للناس. هذه الكذبة هي علّة وجوده. مختصر الكذبة أن “الدنيا في خير فلا تعكروا صفو خاطرنا بنقيقكم.” أما التبدد، والتشرد، والانحراف والصنمية واللصوصية، فما هي سوى وهم لا وجود له.
عُمُهُ البصيرة أشكال وألوان، تراهم في شتى المناسبات، ابتساماتهم صفراء، كلماتهم صفراء يقولون الشيء ونقيضه في عبارة واحدة. بعضهم مثل صناديق البريد، يرسلون كل ما يتلقون بلا تفكير، بلا موقف. إنهم لزجون لا يمكن أخذ كلمة منهم إذ لا رباط على كلامهم. إنهم يعيشون الحياة في الهامش، في ظل الاحداث، ولكنهم لا يفعلون فيها.
آخر خطوط دفاع عَمِهِ البصيرة اتهام من يشيرون إلى الحقيقة بأنهم اشخاص حقودين عملاء خونة يجب قتلهم وسحلهم.
كيف تتعامل مع عَمِهِ البصيرة؟
حاول ان تضع مرآة أمامه علّه يرى ما في نفسه من مرائية. فإن لم يكسر المرآة، كان ثمة أمل. ولكن الأرجح انه سيكسرها.