طبائع التسلط
السلطة لا تعني التسلط مع أنهما من جذر لغوي واحد. جاء في “المعجم الوسيط” (الجزء الأول، صفحة 460): “تسلّطَ: تحكّمَ وتمكّنَ وسيطرَ”. والسلطة هي مظهر اجتماعي ضروري لديمومة الحياة الإنسانية ورقيها. ولا فلاح لأي مجتمع إلا بوجود سلطة تنبثق عن الإرادة الحرّة للجماعة وتعمل على حماية كل أفرادها وتعزيز رفاهيتهم، يستوي في ذلك العائلة بوصفها أصغر نواة اجتماعية وصولاً إلى الأمة ـ المتحد التي تعتبر التمظهر الإنساني الأكمل. والسلطة في هذه الحالة هي التعبير الأمثل عن إرادة عامة مشروطة بوجود آليات وغايات تحكم كيفية ممارسة السلطة.
تُعطى السلطة، بالانتخاب أو التعيين إجمالاً، إلى شخص أو أشخاص وفقاً لطبيعة النواة الاجتماعية. قد يكون الأب أو الأم هو صاحب السلطة في العائلة المصغرة. والسلطة هنا ناشئة عن دور الأبوين في تربية أبنائهما ورعايتهم، ومحكومة بغاية واضحة هي إعدادهم لمستقبل أفضل. وفي حال وجود خلل في آلية نشوء العائلة أو في الغاية المرتجاة منها، فإن سلطة الأبوين تفقد معناها ومبرر وجودها.
ما ينطبق على العائلة المصغرة ينطبق على الوحدات الاجتماعية الأكبر، جمعياتٍ ومنظماتٍ وأحزاباً ودولاً. السلطة هنا تنشأ بموجب تعاقدات دستورية تحدد الحقوق والواجبات. والأهم من ذلك أنها توضح بما لا يقبل اللبس الغاية الأسمى من نشوء هذه المؤسسات، والتي على أساسها أقبل الناس على التعاقد في ما بينهم من أجل تحقيقها. وطالما أن السلطة القائمة ملتزمة بالآليات الدستورية من جهة وبالعمل من أجل الغاية من جهة أخرى، فإن القائمين على السلطة يحظون بالشرعية الاجتماعية التي “مكّنتهم” من إدارة هذه المؤسسة أو تلك.
ونحن نريد في هذه المقالة أن نتبيّن الظروف التي ترافق عملية الانتقال من طور “السلطة” بوصفها آلية عمل لتحقيق الغاية إلى طور “التسلط” بوصفه غاية بحد ذاته على حساب مصالح الجماعة التي كانت هي في الأساس مصدر السلطات. إن دراسة “طبائع التسلط” تقترب من دراسة “طبائع الاستبداد”، ولكننا سنكتفي ببعض مظاهرها الراهنة والمشتركة. أما من يريد المزيد من الاطلاع، فنحيله إلى كتابات مفصلة لكل من عبد الرحمن الكواكبي والدكتور خليل سعاده، فعندهما دراسات كاملة في هذا الشأن.
أول ما يركز عليه “التسلطيون” هو إيجاد غطاء إيديولوجي قادر على التأثير في الرأي العام. وغالباً ما يرتبط ذلك بقضايا الأمة الأساسية مثل مواجهة العدو الخارجي أو الإصلاح الداخلي أو محاربة الفساد وما شابه من شعارات برّاقة. وبقدر ما تمس تلك القضايا مشاعر الناس وآمالهم بقدر ما يكون صوت “التسلط” مرتفعاً كي يغطي على: أولاً، الخرق الفاضح لآلية نشوء السلطة وتداولها. وثانياً، الغاية الأسمى من قيام هذه السلطة. وهكذا، في ظل الهيمنة السلطوية الجديدة، سيظل الغطاء الإيديولوجي قيد الاستعمال طالما أنه قادر على التلاعب بالقاعدة الشعبية.
من طبائع التسلط أيضاً أن “الثورة تأكل أبناءها”! إذ لا شك في أن بعض الذين شاركوا في عملية الوصول إلى السلطة هم صادقون مع أنفسهم، وراغبون في تحقيق الأهداف التي روّجوا لها إبان تحركهم. غير أن الصورة من الداخل غيرها من الخارج، فسرعان ما يختلف رفقاء السلاح وتندلع الخلافات بينهم، وصولاً إلى تمكن أحد الأطراف من القضاء على الآخرين المخالفين، لينفرد بالسلطة، واضعاً آليات جديدة وأهدافاً مختلفة تتناسب مع الوقائع الجديدة على الأرض. وعادة ما تشهد هذه المرحلة أعمال عنف وتصفيات داخلية الهدف منها إسكات الأصوات المعترضة.
وتترافق هذه الحالة مع أربعة مظاهر متلازمة من طبائع التسلط: المظهر الأول يتمثل في الاعتماد أكثر فأكثر على دائرة ضيقة من الموالين، من أبناء العائلة أو البلدة أو الطائفة… إلخ. والمظهر الثاني يقوم على تعديل الآليات الدستورية من حيث أنها السبيل إلى نشوء السلطة، فلا تعود قادرة بطبيعتها الهجينة على إنتاج سلطة مختلفة إلا تلك التي يريدها “التسلطيون”. والمظهر الثالث يكمن في الاستقواء بقوى خارجية حليفة تشكل ضمانة لبقاء الهيمنة في حال بروز معارضة داخلية فاعلة. والمظهر الرابع هو تحوّل سياسة العنف إلى منهج وحيد في مواجهة كل من يرفع صوتاً احتجاجياً.
كل الطبائع التي أشرنا إليها في الفقرات أعلاه قد لا تكفي لوحدها كي تثبّت أقدام التسلط إن لم تعززها ظاهرة الفساد والإفساد. فمهما كانت قوة الترويج الإيديولوجي، وعلى الرغم من التلاعب بالآليات الدستورية حسب الحاجة، وبغض النظر عن قدرات الدائرة الضيقة من “التسلطيين” والذين يدعمونهم من الخارج… فإن دوام التسلط يتطلب فتح أبواب الفساد كوسيلة لا بد منها للحفاظ على الولاء التام. وهكذا تكون قد اكتملت رحلة الانتقال من “السلطة” التي هي أداة حكم وتمكين ورعاية وتحقيق أهداف عامة إلى “التسلط” الذي ينافي وحدة المجتمع ويناقض أسس التعاقد الحر… ويعيد المتحد (صغيره وكبيره) إلى حالة العبودية المخالفة للطبيعة البشرية الفطرية.
“السلطة” و”التسلط” يعودان إلى جذر لغوي واحد، لكنهما مختلفان في المنهج وفي الغاية. ففي حين يوجد دائماً احتمال أن تتجه السلطة إلى هاوية التسلط إذا توافرت لها عوامل معينة، فإنه من المستحيل قطعياً أن يتراجع التسلط مستعيداً سمو السلطة الحقيقية الناجمة عن إرادة عامة حرة. إن للتسلط مساراً حتمياً واحداً: الكارثة أو السقوط!!
لندن، في 4 كانون الأول 2018