صفقتان مصيريتان
في الحقيقة هناك مؤشرات واضحة إلى وجود ثلاث صفقات: الصفقة السورية، والصفقة الفلسطينية، والصفقة الخليجية. وقد إرتأينا التركيز على الصفقتين الأوليين لأنهما تتقاطعان في مفاصل عدة، ولأنهما دخلتا حيز التنفيذ العملي أو على الأقل هما على وشك الإنخراط في خطوات التمهيد للتسوية. في حين أن الصفقة الثالثة ما تزال في مراحلها الأولى المعقدة ولم تنضج بعد، على رغم نيرانها المستعرة عسكرياً في اليمن، والمحتدمة سياسياً بين السعودية وإيران، والمتوترة ديبلوماسياً واقتصادياً بين قطر والدول الخليجية التي تقاطع الدوحة. يضاف إلى ذلك عدم بروز طرف دولي فاعل يأخذ زمام المبادرة في معالجة أزمات الخليج
.
الصفقات الثلاث، في حال إقرارها والالتزام بترتيباتها، المقصود منها إعادة إنشاء نظام إقليمي جديد في الهلال السوري الخصيب والعالم العربي بعد سنوات على “ربيع عربي” قلب الأوضاع رأساً على عقب، ودمّر البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عدد من الدول. وهذا يعني أن المجتمعات والمنظمات الأهلية في تلك الدول أنهكت واستنزفت بما يتيح لقوى خارجية تنفيذ المشاريع المثيرة للجدل، وبحد أدنى من الاعتراضات المحلية.
نعود إلى الصفقتين السورية والفلسطينية اللتين وصفناهما بالمصيريتين لأن ما قد ينتج عنهما سيحدد بالفعل مستقبل الهلال السوري الخصيب على مدى عقود عدة. وهما تتقاطعان في ملفات لا يمكن فصل أي واحد منها عن الآخر، علماً بأن إدارة الصفقة الأولى بيد روسيا في حين تحتكر الولايات المتحدة الأميركية إدارة الصفقة الثانية. والطرفان مجبران على التنسيق لأن المجال السوري القومي لا يسمح بعزل الملفات أو بترها بطريقة عشوائية متسرعة. ونعتقد بأن التفاهم موجود بين موسكو وواشنطن، ولو على مستوى المبدئيات العامة.
في البداية، دعونا نكشح عن أعيننا دخان الأحداث المتسارعة من لقاءات وزيارات ومؤتمرات واستقالات ومناوشات ومعارك وفرض شروط… إلخ. فكل ما نراه اليوم هو من مستلزمات تجهيز الأرضية المناسبة لطرح بنود الصفقة أولاً، ومن ثم إقناع الأطراف المحلية بها أو إرغامها عليها. وكنا في مقال سابق قد تحدثنا عن دخول الأزمة السورية مرحلتي التفكيك والفرز تمهيداً للحسم. وقد أظهرت القيادة الروسية خلال الأيام القليلة الماضية ما ينبيء بأن اجتماعات الآستانة وجنيف وسوتشي ستحمل تباشير الحسم الذي هو شرط مسبق لإنجاز الصفقة السورية.
ومن غير المعقول أن تمضي روسيا قدماً في هذا المشروع الضخم من دون توافق إقليمي ودولي، خصوصاً من قِبل الولايات المتحدة الأميركية الموجودة ميدانياً في سوريا والعراق. ويجب أن نبقي في أذهاننا الوقائع المستجدة على الأرض خلال سنوات الأزمة، وأهمها سقوط حدود سايكس ـ بيكو التي صمدت مائة سنة تقريباً، وتورط العديد من دول الإقليم في الساحة السورية القومية. وهذا يعني أن واشنطن ستكون الغائب الحاضر في كل المؤتمرات المخصصة لصياغة الصفقة السورية العتيدة.
وهذا ما ينقلنا إلى الصفقة الفلسطينية التي تديرها واشنطن حتى هذه اللحظة، بل ويحتكرها أشخاص محددون من أقرباء الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ومع أنه لم يصدر رسمياً أي توضيح لطبيعة هذه الصفقة التي وُصفت بـ”صفقة القرن”، فإن التسريبات الإعلامية الموثوقة إجمالاً تكشف لنا عن صيغة حل لا يرقى بأي شكل من الأشكال إلى الحد الأدنى من ثوابت العمل الوطني الفلسطيني. والمعضلة العويصة في هذه الصفقة الغامضة أنها تؤثر مباشرة على دول أخرى. ولا بأس هنا من إعادة التذكير بمؤتمر مدريد للسلام سنة 1991 الذي حاول إيجاد تسوية “عربية ـ إسرائيلية” شاملة في حين كانت قناة سرية في أوسلو تخطط لحل “فلسطيني ـ إسرائيلي” منفرد. وقد أثبتت السنوات أن الفصل بين المسارات لم يؤدِ إلى أية نتيجة نظراً إلى الترابط العضوي بين الملفات القومية. وأبرز مثال على ذلك خطة توطين “اللاجئين الفلسطينيين” في أماكن تواجدهم الحالية، مع كل ما يعنيه ذلك من تضعضع للتوازنات السكانية في مجتمعات فسيفسائية متنافرة.
لسنا نعرف على وجه الدقة مدى اطلاع موسكو على بنود “صفقة القرن” الفلسطينية، وما إذا كانت القيادة الروسية تنسّق مع المفاوضين الأميركيين على غرار التنسيق القائم حالياً بين الطرفين، ولو بصورة جزئية، بشأن “الصفقة السورية”. غير أنه يحق لنا التحسب لهذه المسألة الخطرة جداً على المصير السوري القومي. إذ من غير المعقول فرض نوع من الفصل التعسفي بين الصفقتين اللتين تتناولان، بشكل أو بآخر، قضية واحدة هي قضية الوطن السوري بكل كياناته. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الصفقتين السورية والفلسطينية متناغمتان على المدى البعيد، وأن هناك تفاهماً غير معلن بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية على أن تطلق يد الأولى في الحل السوري مقابل حرية الثانية في الحل الفلسطيني. وفي مثل هذه الحالة، سيكون الثمن الذي يدفعه شعبنا السوري باهظاً للغاية!