1

صبيةٌ أم أهلٌ للمسؤولية؟

فادي خوري

يتذكر كثيرون منا أيام الدراسة الابتدائية حين كان يتغيب أو يتأخر أستاذ الصف بسبب زكام أصابه أو حادث تعرّض له. وقبل أن ترسل إدارة المدرسة من يُبلغ الطلاب عن التأخير أو الغياب، كانت تسود غرفة الصف حالة من الفوضى العارمة، فتتطاير الطائرات والصواريخ الورقية، ويعلو الصراخ بكلمات غير مفهومة وما كان مفهوماً منها لا يصلح لكتابته هنا، ويبدأ اللكش واللبط والخبط والنكز. تستمر الحالة تلك إلى أن يدخل الصف موفدٌ من الإدارة لينقل خبر الغياب أو التأخير فترتفع مجدداً صرخات الابتهاج وأهازيج النصر، وأكثر المبتهجين غالباً من يكون أولئك الذين لم يتمموا وظائفهم المدرسية أو من لم يحفظ قصيدة الاستظهار… “غنمي، غنمي ما أجملها”. ويكاد الاغتباط العظيم يبلغ ذروته حين يقوم موفد الإدارة بإناطة مسؤولية الحفاظ على النظام والهدوء بأحد زملاء الصف ريثما تنتهي الحصة فتبدأ الحصة التالية بمدرس آخر، فغالباً ما يكون هذا الطالب من “المستوطى حيطهم”. ولا أخفي أنه كان البعض منّا يتمنى لو كان مدرس الحصة التالية مصاباً بعدوى الزكام نفسه.

هذا في أيام المرحلة الابتدائية، والحقيقة أن الحالات نفسها استمرت في المرحلة الثانوية ولكن بدرجات متفاوتة. فالصبية الصغار يفرحون عندما ينفلتون من سيطرة فارضي النظام، فغياب السلطة يُطلق لهم العنان ليقولوا ما يشاؤون ويفعلوا ما يرومون دون رقيب ولا حسيب. أما “الكبار”، كطلاّب الجامعات مثلاً ممّن تحلّوا بروح المسؤولية، فيوظف واحدهم فترة غياب المحاضر أو المُدرّس لاستشارة زميله في المقعد المجاور حول مسألة استعصى عليه حلّها، أو ينكبّ على تصفح كتاب أو مقالة ذات علاقة بحقل علومه. ولا يكون من الغرابة في أن يتنطّح أحد الطلاب فيعتلي منصّة المحاضر ويطرح فكرة على زملائه يقوم بتنظيم حوار حولها، فيتفاعل الحاضرون من خلال قيمة فعلية بدأها مَنْ تميّز بصفات قيادية من بين طلاب الصف.

في المراحل المتقدمة من حياة كل منّا، وبغضّ النظر عن نوع المؤسسة أو المحيط الاجتماعي الذي نتفاعل من ضمنه، غياب “السلطة” لا يعني بالضرورة انتشار الفوضى تبعاً لمبدأ “كل مين إيدو إلو”. المثل الذي استهللت به مقالي ينطبق على الصبية الصغار ذوي السلوك العفوي والتصرفات غير المنضبطة. هؤلاء يتقاذفون بالكلام النابي والصواريخ الورقية ويتضاربون ويعاكس الواحد منهم الآخر. غياب المسؤول عند أصحاب الخلفيات البدائية يعني لهم، أول ما يعنيه، الحرية الفوضوية أو فوضى الحرية. ولعل الأسوأ في هذه الحالة هو أن كل واحد منهم يعتقد أنه هو الأكثر صخباً والأكثر حذاقة وبالتالي فهو الأذكى والأكثر جذباً للاهتمام. مستغلو غياب النظام والانضباط يتحولون إلى قادة ولكن فقط على أنفسهم، لأن من حولهم وعلى سويتهم يعتبرون أنفسهم قادة أيضاً.

الابتعاد عن النظام، أكان قسرياً أو طوعياً، يؤدي، ليس فقط إلى انحلال سلوكي، بل وإلى حالات ترهل فكري فغياب “المنظم” يعني إطلاق العنان للسذاجة والسطحية والبداهة الوهمية. المؤسسات التي تعتبر “النظام” العامود الفقري لنظرتها وغايتها وأهدافها يجب أن يكون لدى أفرادها مخزون من المسلكية النظامية. هذا المخزون يتيح لها المجال، بغياب “الضابط”، للاستمرار والتقدم ولو بخطىً بطيئة، فقد تتعثر أحياناً ولكنها لا تهوي. فكم بالحري حين تعلق تلك المؤسسة، كما والعاملون فيها، أهمية على مسألة الأخلاق، الأخلاق القادرة على حمل مسؤولية وأعباء الغاية التي يُعْمَلُ من أجلها.

نسوق هذا الكلام في ظروف يمر القوميون الاجتماعيون في العديد من التطورات والمستجدات التي تتعلق بمسائل نعتبرها “مصيرية” لأنها تعني قضية تساوي وجود كل واحد منهم، ونلحظ فيها أيضاً تشتتاً وانقساماتٍ، وإن غابت الأخلاقية عن تصرفاتهم، وهم “الكبار”، فجُلَّ ما نخشاه هو أن يكونوا قد ابتعدوا عن كونهم في صيرورة مجتمعية توّلدت، ليس من باب الصدفة، بل من خلال إيمانهم بدورهم المميز في المجتمع وأنهم جزء من دورته الطبيعية. ففي حال حصول مثل هذا الابتعاد يطغى مبدأ التمسك بفكرة الجزء “المستقل”، بانتظار “المخلص” الذي سيجمع الأجزاء، والخوف هنا أن نضطر للقبول بالحلول الفسيفسائية التي تقرّب “الأجزاء” من بعضها بعضاً، بدل من حلول تمليها علينا مبادئنا ودروس الماضي وعبره التي تصهر القوميين في نظام كلي.

نحن اليوم، كسوريين قوميين اجتماعيين، على مفترق طرق يحدد مستقبل الأفراد والمؤسسات، فإما أن نكون صبية نتراشق ونتقاتل ونعبث بإنجازات وتضحيات من بنى لنا مدرستنا، أو نكون أهلاً للمسؤولية التاريخية في تدبير أمورنا، فنسعى بكل ما أوتينا لنتصرف حسبما تمليه علينا أخلاقيتنا، ريثما يعود “الضابط” ليأخذ مكانه على المنصة الأمامية.