شرق وغرب لن يلتقيا أبداً! توما توما
نشر الدكتور خليل سعاده في “الجريدة” (السنة الأولى، العدد 19) بتاريخ 23 كانون الثاني سنة 1921 مقالاً بعنوان “ثورة الشرق على الغرب”، تناول فيه مناورات الدول الغربية الخارجة منتصرة بعد الحرب العالمية الأولى في ما يتعلق بترسيخ استعمارها في أنحاء العالم، على الرغم من الوعود البراقة التي أعطيت خلال سنوات الحرب لمنح الشعوب المستعبَدة حق الاستقلال وتقرير المصير. واعتبر الدكتور سعاده أن مواقف الدول الغربية هي “… دليل على أن روح الاستعمار متأصل في الغربيين حتى أمسوا يحسبونه قانوناً طبيعياً”.
كان “الغرب” في تلك اللحظة بالذات يقتصر على القوتين الاستعماريتين العظميين المنتصرتين في الحرب: بريطانيا وفرنسا. من دون أن ننسى طبعاً أن غالبية الدول الأوروبية كانت متورطة في التوسع الاستعماري بشكل أو بآخر، لكن انتصار لندن وباريس جعلهما صاحبتي القرار النهائي في توزيع المغانم بعد انتزاعها من الدول المهزومة. ومع أن الولايات المتحدة الأميركية حاولت في المرحلة الأولى، عبر مؤتمرات الصلح المختلفة، إبقاء مسألة حق تقرير المصير على جدول الأعمال… إلا أنها فشلت أمام الألاعيب البريطانية الفرنسية في عصبة الأمم التي وصفها الدكتور سعاده بـ “عصابة الأمم”!
طبعاً، العالم تغير كثيراً منذ أن نشر الدكتور سعاده مقالته تلك قبل حوالي القرن. فالغرب والشرق لم يعودا مجرد دلالة جغرافية، كما أن الاصطفافات فيهما تغيّرت سياسياً واقتصادياً، وما عادت الإيديولوجيا تلعب دوراً مؤثراً في تحديد طبيعة كل منهما… لكن الثابت الأكيد حتى الآن هو أن “روح الاستعمار” ما زال “قانوناً طبيعياً” لدى الدول الغربية، وأن “الشرق” يبقى المُستهدف في خضم صراع المصالح القومية للسيطرة على مصادر الطاقة والمواد الأولية. والأخطر من كل ذلك أن الحرب العالمية الثانية أنتجت نظاماً دولياً جديداً يقوم على قطبية ثنائية أميركية ـ سوفياتية، أصبحت فيه الولايات المتحدة الأميركية زعيمة مطلقة للمعسكر الغربي بعد انهيار الاستعمار الأوروبي القديم ممثلاً ببريطانيا وفرنسا تحديداً.
لم يصمد نظام القطبية الثنائية كثيراً. فقد سقط الاتحاد السوفياتي سقوطاً مدوياً في مطلع تسعينات القرن الماضي فاتحاً المجال لقطبية أحادية بقيادة أميركية، مدعومة بحلف أطلسي أخذ يوسع نطاق عملياته خارج مداه الجغرافي الحيوي، وباتحاد أوروبي بادر إلى استيعاب دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة بوتيرة متسارعة.
وكان ذلك يتم تحت أنظار روسيا الخارجة منهكة من ركام الإرث الشيوعي، والعاجزة عن وقف التمدد الأطلسي – الأوروبي نحو مداها الحيوي. بل أن بوريس يلتسن الرئيس الروسي بين 1991 و1999 كان يمنّي النفس بأن تصبح بلاده جزءاً من “المعسكر الغربي”… لكن “الغربيين” كانوا يعزفون على منوال آخر تماماً.
هذه التطورات تستدعي تقديم تعريف جديد لمفهوم “الغرب”. فنحن نرى أن هناك تراتبية داخلية واضحة في المعسكر الغربي: الولايات المتحدة على رأس الهرم بأداة عسكرية طاغية تتمثل بمنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو). وتأتي في المرتبة الثانية الدول الأوروبية من خلال مؤسستين متداخلتين هما الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. وتحتل المرتبة الثالثة دول حليفة من أمثال أستراليا واليابان ونيوزيلندا. وأخيراً هناك وكلاء تابعون أمثال تايوان وكوريا الجنوبية والفيليبين وسنغافورة وماليزيا وغيرها.
وقد أظهرت العقود الماضية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم مجموعة من الثوابت “الغربية” التي تُقدم على إعادة صياغة ذاتها كلما تطلبت المتغيرات الدولية ذلك، لكن من دون التخلي عن القواعد الأساسية التي تحكم علاقاتها الداخلية وأدوارها على المستوى العالمي.
الثابت الأول أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بسياسة أوروبية مستقلة تماماً عن الاستراتيجية الأميركية. والوجه الآخر لهذه العملة أن أوروبا غير قادرة على فكاك حبلها السري مع واشنطن، بل أقصى ما يمكنها فعله هو التمايز الشكلي في بعض القضايا العالمية ذات الأهمية المتدنية في سلم أولويات “المعسكر الغربي”.
الثابت الثاني أن “الغرب” غير مستعد، خصوصاً بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في روسيا وأوروبا الشرقية، لقبول نشوء قوة مركزية منافسة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في قلب أوروبا. ومن هنا نفهم سبب الإسراع في ضم دول أوروبا الشرقية والبلطيق إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي تباعاً. وكذلك سبب المواجهة المعقدة مع روسيا بعد أن تخلصت موسكو من إرث يلتسن وبادرت إلى إعادة فرض دورها الاستراتيجي أوروبياً وعالمياً
.
الثابت الثالث أن “الغرب” حريص على إحكام هيمنته على مصادر الطاقة والمواد الأولية في العالم، والإبقاء على تحكمه في حركة التجارة العالمية والأنظمة المالية الدولية. وهذا يعني استمرار “الاستعمار” الاقتصادي غير المباشر، المؤدي حكماً إلى تعزيز النفوذ السياسي في مختلف أنحاء العالم. والحلف الأطلسي هو، بطبيعة الحال، الأداة العسكرية إذا ما تطلبت الظروف تدخلاً عسكرياً على غرار ما حدث في صربيا والبوسنة والعراق وليبيا وسوريا!
الثابت الرابع أنه من غير المسموح به فوز أحزاب يسارية جذرية في “الغرب”. أقصى المُتاح أن تنشط تلك الأحزاب من ضمن المؤسسة السياسية العامة. لكن بمجرد احتكاكها بالخطوط الحمر ستفتح عليها نيران جهنم. وهذا لا ينطبق طبعاً على الأحزاب الشعبوية واليمينية، بل والليبرالية أو الاشتراكية، لأنها ملتزمة بيت الطاعة “الغربي”.
ربما تتعرض هذه الثوابت الأربعة لتحديات داخلية وخارجية تهز الإجماع الذي حافظ عليها خلال العقود السبعة الماضية. غير أن “الغرب الأميركي – الأوروبي” على بيّنة تامة بأن حماية تلك الثوابت بكل الوسائل الممكنة هو وحده الكفيل بالحفاظ على الرخاء الذي نعمت به القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية. كما أن أميركا يهمها استقرار الوضع الأوروبي الراهن بوصفه أحد المعابر الحيوية نحو الهيمنة العالمية.
إن الذين يراهنون على افتراق أوروبي – أميركي في المسائل الاستراتيجية ربما غابت عنهم هذه الثوابت أو بعضها. وبالتالي سيكون من الصعب عليهم إدراك الانعكاسات المحتملة على القضايا العالمية، ناهيك عن قضيتنا القومية المركزية. إن الاستعمار، بوصفه “قانوناً طبيعياً” عند الغربيين، ما زال فاعلاً بالقوة اليوم تماماً كما كان مهيمناً في زمن الدكتور سعاده قبل مائة عام.