شحادين يا بلدنا!
أغنية شحادين يا بلدنا تقرع دماغي بشكل متواصل هذه الأيام. وليس السبب ما أشار إليه عدد كبير من الذين نشروا هذه الأغنية بنسختها الأكثر تداولا المعروفة بـ “شحاتين يا بلدنا الفرسان الأربعة”، لناحية رائيتها واستشرافها، أو لناحية أن الوضع في لبنان قد ازداد سوءا، بل بسبب التناقض أو الانفصام التام الواضح بين كلماتها ولحنها الأساسي (الميلودي)، من جهة، وإيقاعها السريع الراقص المرح من جهة ثانية. هذا التناقض/الانفصام جدير بالتأمل.
الأغنية من تأليف ميشال طعمة وتلحين الياس رحباني، وقد ظهرت أول مرة في مسرحية “آخ يا بلدنا” سنة 1974 أي قبل انفجار الحرب الأهلية في لبنان بسنة واحدة. والمسرحية من نص فارس يواكيم، وإخراج روجيه عساف، وبطولة “شوشو” وفرقته المسرحية.
انطلقت الاغنية في بيروت سنة 1974. وبيروت سنة 1974 مرجل يغلي بالتناقضات نختصره بحزام بؤس في الضواحي من شمال بيروت إلى جنوبها، يزنّر وسط مدينة يعج بالمصارف والشركات والسياسيين، واقتصاد يقوم في معظمه على الصفقات والسمسرة والفساد. ونختصره بجيل ثوري يحتضن ما كان “مقاومة ثورية فلسطينية” وجيل يريد عزل لبنان عن محيطه و”تنظيفه” من الغرباء تحت شعار “لبنان، أحبه أو غادره.” بيروت “شحادين يا بلدنا”، سنة 1974، هي نسخة موسيقية عن رواية توفيق يوسف عوّاد الشهيرة “طواحين بيروت”، والتي نشرت قبل ذلك بسنتين.
لنبدأ بالكلمات. إنها بسيطة في مضمونها ومرعبة في صدقها.
“شحادين يا بلدنا…قالوا عنا شحادين
نشالين يا بلدنا… قالوا عنا نشالين
نحنا مين … يا بلدنا
نحنا شوية … مساكين
مظلومين يا بلدنا… إيه وحياتك مظلومين
***
عطشانين يا بلدنا… والميّ بخمس وستين (خمسة وستين قرشا، أي ما يعادل حوالي الربع دولار في تلك الأيام.)
جوعانين يا بلدنا… وما عنّا رز ولا طحين
طفرانين يا بلدنا…. والبنوكي مليانين
محتارين يا بلدنا… لمين منشكي محتارين
***
أراضينا للبيع للأغراب .. يا بلدنا
جرايدنا للبيع للسفارات .. يا بلدنا
ضمايرنا للبيع للجواسيس .. يا بلدنا
على أونا.. على دوّي.. مين بدو يشتري مين
نحن يا أهل المروة..
زبون العوافي ناطرين..
***
وزرا ونواب للبيع..
مدرا وحجّاب للبيع..
شعرا وكتاب للبيع..
باب وبوّاب للبيع..
***
ليش منسرق .. ما سألتونا
منسرق لأنه سرقونا
ليش منبيع .. ما سألتونا
منبيع لأنو باعونا !!
سرقونا الكبار… باعونا الكبار
ونحنا حرامية دراويش.. صغار.. صغار
صغار صغار.. صغار.. صغار!!”
**
ماذا عن اللحن؟ اللحن، إذا عزلته عن الإيقاع، حزين في مجمله ويمكن تقسيمه إلى ثلاث مقاطع: وصف للشحادين، فوصف للبلد، فسؤال وجواب. كل من هذه المقاطع هو تنويع من ضمن السياق العام للحن. هذا اللحن ينسجم إلى حد كبير مع الكلمات، قد عبّرت عنه المنشدة شيرين أبو سعد في أداء خاص لها بدون موسيقى (أكابيلا).
أما الإيقاع فهو أمر آخر. إنه إيقاع فرح، سريع يدفعك للرقص غصبا عنك.
كيف تم أداء هذه الأغنية؟ سوف ننظر إليها عبر أدائها الأول في المسرحية سنة 1974، فأداء الفرسان الأربعة، وأخيرا أداء شيرين أبو سعد. في المسرحية نسمع الأغنية مرتين، مرة في وسطها ومرة ثانية أثناء تحية الممثلين للجمهور في نهايتها. في وسط المسرحية، يغني الممثلون واقفين صفا واحدا، ثم يدورون على المسرح فيديرون ظهرهم للجمهور ويختمون الأغنية برفع اليد اليمنى مقبوضة علامة الثورة والتمرد. أما نبرة الأغنية في المسرحية فتتراوح بين الحزن، والمرارة، والسخرية، والتحدي. ومع أن الإيقاع السريع موجود في الأداء المسرحي إلا أنه يبقى مضبوطا بالأداء التمثيلي ومتوازنا مع اللحن.
في نسخة الفرسان الأربعة نرى الانفصام بأجلى تفاصيله. في هذه النسخة الإيقاع هو السيد، يرافقه رقص الصبايا وتمايل المغنين وتصفيقهم و”هوبرتهم”. في نسخة الفرسان الأربعة، الإيقاع يموّه الكلمات واللحن. إنه يكاد يمحيها من الوجود. ليس هناك من علاقة في الأداء بينه وبين الكلمات. هناك ثوان عابرات، تخال معها أن بعض المغنين يستمعون إلى كلام الاغنية، فيمر شبح غمامة على وجوههم ليعودوا بعدها إلى التمايل والرقص والاستسلام للإيقاع. في نسخة الفرسان الأربعة تشعر أنك في حالة “تجربة من خارج الجسد”. إنك تتفرج على نفسك من مكان خارجي فلا تستوعب ما ترى. إن عقلك يقول لك شيئا ولكن حواسك ملبدة إلى درجة لا تستوعب معها ما يدور حواليك.
نسخة أبو سعد هي النقيض الكامل لنسخة الفرسان. لقد أزالت الإيقاع كليا، وتخلت عن المرافقة الموسيقية. هنا تسمع اللحن الحزين، وتستوعب كل كلمة من كلمات الأغنية، ولكنك لا ترى الثورة ولا أي من مزايا اغنية المسرحية.
لا ندري ما إذا كان الياس الرحباني قد تعمد وضع الإيقاع على هذا الشكل كتعبير عن التناقض الذي كان يعيشه المجتمع اللبناني سنة 1974. هل استخدم “الطباق” الشعري ليوصل فكرة التناقض، بين وجع الشحاذين ورقص الأثرياء، الذي سيصبحون بعد سنة قادة ميليشيات، ويعودوا بعد خمس عشرة سنة ليستلموا دفة الحكم فيفلسوا البلد. أم لعله أراد ما هو أدهى: أن يقول لنا الرحباني ان الشحاذين والاثرياء هم من العقلية نفسها، يقرأون المشكلة ويسمعون موسيقاها الحزينة المأساوية، ولكن عوضا من التنطح لحلها يهربون من الواقع، عبر الإيقاع، إلى الرقص.
في كلا الحالين، لا شك في نبوغ الرحباني وعمق فهمه للشخصية اللبنانية. كانت الأغنية جرس انذار لما سيأتي. كانت جرس انذار عن الانفصام الكبير بين قول الشيء وعدم استيعاب أبعاده. فيما يلي النسخ الثلاثة من الاغنية لمن يهمه الأمر:
نسخة المسرحية يرجى الذهاب إلى الدقيقة 1 :06 :08