سعاده وجذرية التغيير
العوامل الخفية في إدارة المؤسسات 2
تمهيد
حين بدأت بكتابة الجزء الأول من هذا البحث، لم يدر في خلدي انه سيتوسع إلى القدر الذي وصل اليه. لقد توقعت أن ينتهي في جزئين. الأول، عرض لنظرية “فان مانن”، والثاني دراسة ما إذا كانت تنطبق على الحزب السوري القومي الاجتماعي. غير انني حين غصت في عالم التحديات التي واجهت سعاده لناحية بلورة المستقبل الذي أراده لسورية، والنمط الإداري الأمثل للحزب، والتحديات الثقافية التي واجهها، أدركت ان هذه التحديات لا تزال قائمة، وأن أسلوب معالجة سعاده لها لا تزال راهنة. فمن هنا قررت التوسع ولكن ضمن الحدود الدنيا الممكنة.
ليس الهدف البرهان ان سعاده أقام حزبه على هوى النظرية التي وضعها “فان مانن”، بل العكس. أي ان الحزب، بسبب كونه مؤسسة، يمكن له ان يتعرض لما يحذر منه “فان مانن”. من هنا، سوف نبحث في هذا الجزء عما إذا كان يمكن لنا متابعة عمل سعاده التأسيسي من خلال مناظير “فان مانن” الثلاثة، الاستراتيجية والسياسة والثقافة؟ هل نجح في إقامة حالة من التناغم بينها، وماذا كانت النتيجة؟ أما في الجزء الثالث، فسوف نبحث ما إذا نشأت ثقافات جزئية ِأثناء غيابه، وبعد استشهاده؟ وهل أسست هذه الثقافات لمراكز قوى عملت على ترسيخ نفوذ أصحابها؟ هل كانت قراراتها عقلانية؟ ماذا كانت النتيجة؟
وهذا سوف يقودنا إلى السؤال التالي: ما هو مصير حركة التغيير التي أرادها سعاده، وكيف يمكن إحيائها؟
مقدمة
نذكّر بأبرز الأفكار التي تضمنتها محاضرة البروفسور “جون فان مانن” عن المناظير الثلاثة – الاستراتيجية والسياسة والثقافة – التي يمكن عبرها النظر الى المؤسسة وعوامل التغيير الخفيّة فيها: الاستراتيجية تتعلق بالمستقبل، والسياسة – ويقصد بها صراع مراكز القوى داخل المؤسسة – بالحاضر، أما الثقافة فتعنى بالعادات والتقاليد الموروثة من الماضي.
في هذا الجزء، سوف نتابع البحث عبر إسقاط أفكار “فان مانن” على تجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي، مبتدئين من هذا المقطع من المحاضرة:
“من الطبيعي ان يجري العمل على أفضل ما يرام في حالة التناغم التام بين الاستراتيجية والسياسة والثقافة. ولكن هذا نادرا ما يحدث. إنه يحدث عادة مع المؤسِّس في مرحلة التأسيس. إنه يقوم بوضع خطة استراتيجية ويشيد بنيانها ومراكز القوة فيها استنادا الى هذه الخطة. ولكن بعد فترة تنشأ ثقافات جزئية (Sub-Cultures)، وهذه الثقافات الجزئية تقرر هي من سيكون في مركز القوة، وهؤلاء، عندها، يقومون بوضع الخطط الاستراتيجية بما يؤمن مصلحتهم واستمرارهم في مراكز القوة هذه. في مثل هذه الحالة، ليس من الضروري ان تكون القرارات “عقلانية”. يكفي ان تتخذ مراكز القوى ما تراه مناسبا من القرارات، ثم تضفي عليها “عقلانية” عبر اختيار استنسابي للبيانات المفيدة لها.”
سعاده والمستقبل، الاستراتيجية
أسس سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي وفق نظرة استراتيجية ضمّنها في غاية حزبه وشرحها في كتاب شرح المبادئ الذي نشره سنة 1936، ونقّحه مرّتين قبل ان يصدر في شكله النهائي سنة 1947. كذلك، توسّع في شرح هذه الغاية في المحاضرة العاشرة سنة 1948. ولكن لعل أهم ما قام به هو نحت عبارة النظرة العليا التي بسببها تأسس الحزب، كما ترد في كتابه الرائع الصراع الفكري في الادب السوري،[1] على الشكل التالي:
“القاعدة الذهبية، التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والأدب، هي هذه القاعدة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى.“
لا شك أن غرض هذه العبارة هو حياة الامة السورية ورقيها، واستطرادا الحياة الإنسانية وتقدمها. أما وجهة هذه النظرة ووجهة الحزب الذي تأسس بسببها – فهي دائما إلى الأمام، إلى المستقبل. ودليلنا هو صيغة اسم التفضيل التي استخدمها سعاده في ثلاث من كلماتها، “أجود”، و”أجمل”، و”أعلى.” لم يقل سعاده، “حياة جيدة في عالم جميل وقيم عالية”، فهذا أمر اعتيادي لا طموح فيه. ولم يستخدم أسم التفضيل معرفا بألـ وهي الحالة التفضيلية القصوى، فلم يقل، مثلا، “للحياة الأجود، والعالم الأجمل، والقيم الأعلى”. فلو فعل، لكنّا اكتفينا بما لا جودة بعده، ولا جمالا ولا علوّا. كلا، لم يفعل سعادة شيئا من هذا. بل استخدم اسم التفضيل الذي يُبقي المجال مفتوحا – دائما – لما هو أجود وأجمل وأعلى، بحيث اننا فعلا “كلما بلغنا قمة، تراءت لنا قمم أخرى.”
هذه هي عبقرية سعادة في نحت عبارة النظرة العليا، الاستراتيجية، الدائمة التجدد وتحدي الذات.
ولكي لا يبقى أي شك في أن هذه العبارة تجسد النظرة العليا التي بسببها تأسس الحزب، وانها منسجمة تماما مع البدايات، نقرأ ما يلي من شرح غاية الحزب، في كتيّب شرح المبادئ:
“إنّ غَرَضَ (القصد من) الحزب هو توجيه حياة الأمة السورية نحو التقدم والفلاح، هو تحريك عناصر القوة القومية فيها لتحطيم قوة التقاليد الرثة وتحرير الأمة من قيود الخمول والسكون إلى عقائد متهرئة، والوقوف سدًّا منيعاً ضد المطامع الأجنبية التي تهدد مصالح ملايين السوريين وكيانهم، وإنشاء تقاليد جديدة ترسخ فيها نظرتنا الجديدة إلى الحياة ومذهبنا القومي الاجتماعي.”
في شرح غاية الحزب كما هي في كتيب شرح المبادئ، يلقى سعادة الضوء على مفهومين جديدين هما النهضة والغاية. إنه يقول: “ويتضمن معنى النهضة القومية الاجتماعية تأسيس فكرة الأمة وتأمين حياة الأمة السورية ووسائل تقدّمها وتجهيزها بقوة الاتحاد المتين والتعاون القومي الصحيح وإقامة نظام قومي اجتماعي جديد.” أما عن غاية الحزب، أي ما له علاقة بـ “ماذا” و”كيف”، فإنه يقول:
[1] نشرت فصول هذا الكتاب على حلقات سنة 1942، ثم نقّحه سعاده ونشره سنة 1947 في بيروت
“إنّ غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قضية شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها ومن جميع وجوهها. إنها غاية تشمل جميع قضايا المجتمع القومي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الكبرى. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال، وبإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع اساس مناقبي جديد وهو ما تشتمل عليه مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الأساسية والإصلاحية، التي تكوّن قضية ونظرة إلى الحياة كاملة، أي فلسفة كاملة.”
إن هذا المقطع شديد الكثافة، وكل كلمة فيه وجهتها المستقبل. إنها تؤسس لما هو غير موجود، (فكرة الأمة)، وتبحث في متطلبات قيام هذا الجود واستمراره. والنظام القومي الاجتماعي الجديد هو نظام الوحدة القومية والعدالة الاجتماعية والتحرر من الارادات الأجنبية وتأمين مصالح الأمة في جميع نواحي الحياة. بل إنها تضع قواعد جديدة للتفكير من خلال قوله، “الغرض من الاستقلال”. فلم يعد الاستقلال ولا التحرير غاية في حد نفسها، بل وسيلة لتحقيق المثل العليا، كما يشرح لاحقا في المحاضرة العاشرة. أما الأهم من هذا كله، فهو التأسيس لعقلية أخلاقية جديدة أساسها الصدق والوجدان القومي، كما سنبين لاحقا.
هذه هي النظرة العليا الفلسفية التي وجهت تفكير سعادة العملي. فلننتقل الآن إلى منظور السياسة كما يحددها “فان مانن”، وكما يراها سعادة.
سعاده والحاضر، السياسة
كان سعادة واعيا لخطر السياسة كما يحددها “فون مانن”، أي صراع نفوذ وتناحر على مراكز القوى. لهذا أعطى البنية التنظيمية للحزب الشكل الذي أعطاها إياه. فما هي أبرز خصائص هذه البنية؟
أولا، قيّد زعامة الحزب وصلاحياتها بقضية الحزب كما يرد في مقدمة الدستور وقسم الزعامة.
ثانيا، قيّد جميع المسؤوليات الحزبية أيضا بقضية الحزب وقسم المسؤولية
ثالثا، قيّد العضوية بالتعاقد بينه وبين المقبلين أيضا على قضية الحزب
رابعا، جعل نظام الحزب مركزيا تسلسليا، واحتفظ بالسلطتين التشريعية والتنفيذية مدى الحياة، اتقاء للمنازعات الداخلية
خامسا، وضع مسافة بين المسؤول ورئيسه المباشر لناحيتي التعيين والإقالة أو قبول الاستقالة. فالمنفذ العام مثلا، لا يستطيع تعيين ولا إقالة عضو في هيئة منفذيته أو مدير في نطاق منفذيته، منعا للاستبداد.
سادسا، فصل فصلا تاما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من جهة، والسلطة القضائية من جهة، فلم يعط لنفسه سلطات القضاء.
سابعا، أعطى المنفذيات سلطات تشريعية في شؤون الضرائب المحلية، وبنى لها نظاما يتيح لها النمو الاقتصادي والاجتماعي، عبر لجان المديريات ومجالس المنفذيات.
ثامنا، أسس للرتب التي تمنح للمستحقين في اختصاصات معينة أو في الالتزام والبطولة في شأن عام. والرتبتان اللتان عُمل بهما في عهده، هما رتبة الأمانة – التي من حامليها حصرا ينتقى أعضاء المجلس الأعلى – ورتبة الصدر، وهي رتبة عسكرية.
بهذا الشكل، توخى سعاده حماية الحزب الجديد من المنازعات الداخلية.
سعاده والثقافة، الماضي
يقول “فان مانن” في محاضرته إن الثقافة تعنى بالعادات والتقاليد الموروثة، وإنها تتعلق بالماضي.
منذ البدايات، أدرك سعاده قوة فعل العادات والتقاليد، فأشار إليها في الخطاب التأسيسي، وكذلك في كتابه نشؤ الأمم. إنه يقول في المحاضرة الثانية:
“إنّ نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة. والتقاليد كما أوضحت في نشوء الأمم ليست شكلية، سطحية، بل لها مساس بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان، وهي تختلف عن العادات، فالعادات هي التي يمكن أن تتغير بسهولة لأنها تتعلق بسطحيات الحياة أما التقاليد فلها علاقة بالاقتناعات النفسية العميقة. فالتقاليد التي تمثل إما مبادئ أو استمرار مبادئ ليست لأجل حياة الأمة وارتقائها يجب أن تصهر لأجل الحياة وليس لأجل أن تكون الحياة لها. إنّ التقاليد هي، في عرفنا، كالمبادئ، للحياة وليست الحياة للتقاليد.”
أدرك سعاده ان “الويل” الذي دفعه لإنشاء الحزب، (رسالته إلى حميد فرنجية سنة 1936) هو نتيجة ثقافة عامة منحطّة فكان عليه تغيير هذه الثقافة، بدءا من الحزب وصولا إلى الشعب كله. سوف نركّز في هذا البحث على عاملين ثقافيين عمل سعاده على تغييرهما، هما العامل الديني والعامل الاخلاقي.
العامل الثقافي الديني
“ليس للسوري من لغة علمانية، إن لغته دينية بامتياز.” هكذا يقول إبراهيم متري رحباني في “المسيح السوري.” ولا شك ان العامل الديني يطغى على الحياة في سورية. والمقصود بالعامل الديني هنا هو ذلك الذي بدأ مع ما يسمى بالديانات السماوية. فالنظرة الدينية المسيحية تبدأ في أن الإنسان خُلق بسبب كرم الله ومحبته، ولأن الإنسان يحتاج الله. ففي القداس الغريغوري يرد، “لم تكن أنت محتاجًا إلى عبوديتي. بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك.” أما عند المحمديين، فإن الانسان قد خُلق ليعبد الله. “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”. (سورة الذاريات: 5). عن مثل هذه النظرات الدينية ينتج فكر اتكالي غيبي تعبّر عنه أمثالنا الشعبية نقلا عن الكتب الدينية. “مثل ما الله بيريد”، هي ترجمة لـ “لتكن مشيئتك”، (متى ولوقا). والقول الشائع، “نِمشي على ما يقدّر الله، والكاتبو ربك بيصير”، هو ترجمة للآية القرآنية “قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.” (سورة التوبة، 51).
ولكن الأخطر، أنه عن التفسيرات العديدة لما يرد في الكتب الدينية تنشأ مذاهب وطوائف، تتصارع في الأرض على السماء، فتصبح مطيّة لإرادات خارجية، تستخدمها والقيمين عليها كأداة تخدم مصالحها. ونحن لا نشك لحظة في أن التقاليد التي أشار إليها سعاده في محاضرته الثانية، هي بمعظمها تقاليد منبثقة من نظرة دينية “تمثل مبادئ أو استمرارا مبادئ ليست لحياة الأمة.”
كيف عمل سعاده لتحطيم هذه التقاليد؟ أولا، بوضع قواعد جديدة للنظر إلى الحياة. فإذا كانت النظرة الدينية تقول إن الحياة هي لتشريف الدين، (الربوبية والمشيئة الإلهية، وعبادة الله) فإن سعاده رسخ المفهوم الذي كان والده العلامّة خليل سعاده قد وضعه بقوله، “ليست الحياة وسيلة لتشريف الدين، بل الدين وسيلة لتشريف الحياة.” وعلى منواله نسج سعاده مفهوما جديدا، “أن المبادئ للإنسان الحي وليس الإنسان للمبادئ.” (المحاضرة الثانية.)
أما النزعة الاتكالية، فقد نقضها هي الأخرى. “مما لا شكّ فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل المثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربية، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية اتي لا تقبل بما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالمواهب التي أعطاهم.” (الصراع الفكري في الادب السوري، الفصل الأول.)
العامل الثقافي الأخلاقي
من أين نبدأ في مقاربة سعاده لهذا الموضوع الهام الذي لم يترك مناسبة إلا وطرقه. ماذا عن خطاب أول آذار 1938 حيث يقول:
“أما الظروف الروحية النفسية المتولدة من هذه الحوادث ومن الظروف السياسية الاقتصادية المتأتية عنها فهي ظروف انحطاط في المناقب عز نظيره. فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجية والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو المجتمع.
“هذه الحالة كانت أكبر نكبة أصيبت بها الأمة، والتفاعل بينها وبين الحالة السياسية كان وخيم العواقب معدماً كل أمل بتوليد نهضة قومية صحيحة وكل أمل بتحقيق القضية القومية. فاليأس ساعد الفساد الأخلاقي مساعدة عظمى والفساد الأخلاقي قوّى اليأس ووطد النفوس عليه.“
أليس هذا هو حال الأمة اليوم، ولكن بأضعاف مضاعفة!
أو لنذهب إلى المحاضرة العاشرة حيث يقول،
“كل واحد كان مسؤولاً فقط عن نفسه وغير مستعد إلا للنظر في مصالحه الخصوصية. لم يكن هنالك معنى للحياة (الاجتماعية) المجتمعية، ومن كان يجسر على أن يظن أنه مسؤول عن المصير القومي، عن المصير الاجتماعي، كان يرتكب خيانة لا تغتفر ويعرّض نفسه للسخرية والاحتقار. وكم من مرة وجهت إلي استهزاءات واحتقارات عندما كنت أتكلم بشعور المسؤول عن حالة بلاده وأمته وعن مصيرها. كل تفكير من هذا النوع كان يعدّ غباوة فلا يتردد السائل عن ترديد مثل هذا السؤال “شو بدك تشيل الزير من البير؟” وتعابير من هذا النوع. وكان كل خائن يظن أنه يقوم بمهارة عظيمة إذا سبق غيره إلى الخيانة ليستفيد من نتائجها. وإلى اليوم لا نزال نسمع من يقول إذا لم أسبق أنا إلى الخيانة يسبقني غيري ويأخذ الوظيفة. إذن يجب عليّ أن أسابق في الخيانة لأسبق غيري إلى اجتناء الفائدة التي يمكن اجتناؤها من الخيانة”.
ما يميز سعاده من سواه أنه لم يكتف بعرض المشاكل والشكوى منها. بل عرضها كطبيب ماهر واستنبط لكل داء دواء. لقد واجه هذه النفسية والعقلية الأخلاقية القائمة بما سماه، “العقلية الأخلاقية الجديدة.” فما هي هذه العقلية.
العقلية الأخلاقية الجديدة[1]
إذا كانت النزعة الفرديّة هي أساس العقليّة الأخلاقيّة القديمة، فما هي مقومات العقليّة الأخلاقيّة الجديدة التي يريد سعادة تأسيسَها؟ في رأينا أنها مقوماتٌ أربعُة هي: الوجدان القومي والمحبة والصدق والنظام القومي الاجتماعي. وسوف نحاول أن نختصر في شرح كل من هذه المفاهيم كختام لبحثنا هذا.
الوجدان القومي
“إنّ الوجدان القوميّ – اي الشعور بشخصية الجماعة – هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التّمدن. ولقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النفسيّة البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ. أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظمُ حوادث التّطوّر البشريّ شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدّها تعقّداً، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي – اقتصاديّ – نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعورَهُ بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودُّ الخيرَ لنفسه.”[2]
من هذه العبارة نستنج امرين مهمين. فمن القسم الأول منها نفهم أنه لظهور شخصية الجماعة، لا بد وأن تكون قد ظهرت شخصية الفرد. وهذا يعني الفردَ المتحررَ والقادر على التمييز العاقل واتخاذ القرارات المناسبة كما يملي عليه عقله ووجدانه.
اما القسم الثاني من العبارة، والذي يتعلق بالمسار الإلزامي للشعور بشخصية الجماعة، أي كيفيّة تكون الوجدان القومي، فإن سعاده يصف هذه العملية الدقيقة واللطيفة والمعقدة بخمسة أفعال هي: “أن يضيف”، و”أن يزيد”، و”أن يجمع” و”أن يربط” و”أن يشعر”. لا تنفي هذه العبارات الشخصية الفرديّة بل تنطلق منها لتبني عليها وتخلق منها انسانا جديدا يتميز من سواه بوضع مصلحة مجتمعه فوق اية مصلحة أخرى مهما كانت المغريات كبيرة أو التهديدات جسيمة.
الوجدان القومي هو الركيزة الاساس في بناء العقلية الأخلاقية الجديدة.
الإيمان الاجتماعي
في قصة فاجعة حب يتكلم سعادة على لسان الموسيقي سليم عن “إيمان اجتماعي”. فعلام يقوم هذا الايمان الاجتماعي وما هي نتيجته؟ يقول:
“… كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواء أكان رجلاً أم امرأة، شاباً أم شابة، أدب حي وفن موسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي وأحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً…”
إنه يقوم بالمحبة الاجتماعية ويؤدي إلى حياة ملؤها الآمال والنشاط.
الصدق
إضافة إلى الوصف الذي يقدمه لنا سعادة عن الكذب والرياء والذي اقتطعناه من خطاب سنة 1938، يعود سعادة إلى طرق الموضوع نفسه في المحاضرة العاشرة سنة 1948 فيقول بأسى:
“مفقود من بينِنا التصارح الفكري الخالي من السياسة، مفقود من بيننا الشعور بأنه يجب حين يخاطب واحد منا الآخر أن يضع السياسة في خزانة ويقفل عليها بالمفتاح، لأنه حين نبتدئ نخاطب بعضنا بعضاً بالسياسة فقد قطعنا من بيننا الروابط القومية الصحيحة.
بدون الوصول إلى حياة من هذا النوع يظل وأحدنا لا يدري، أليس يسمع من مواطن يجالسه عبارات ثناء ومديح أو إطراء؟ هل هذا المديح صريحاً ومخلصاً صادراً عن الوجدان بأن هذه هي الحقيقة؟؟ يظل الواحد يخاف من جاره، يخشى أن يكون متلاعباً بضميره، بشعوره، بمهارته الدفلماسية السياسية.”
التصارح القومي والصدق في القول والعمل إذا هو العامل الثالث في بنيان العقليّة الأخلاقيّة الجديدة.
النظام القومي الاجتماعي
ربما يستغرب بعض نفرٍ إدراجَ نظامِ الحزب السوري القومي الاجتماعي كعامل من عوامل العقليّة الأخلاقيّة الجديدة ولكن سعادة نفسه اعتبر هذا النظام من “الادوية المرة” التي لا غنى عنها لمحاربة النزعة الفرديّة. كيف؟
في مقال النزعة الفرديّة في شعبنا يقول سعادة:
“والمصّح الوحيد لهذا المرض، كما لغيره من أمراضنا الاجتماعية، هو نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي. والمقبلون على هذا النظام يجب أن يضعوا نصب أعينهم وجوب وضع جميع قواهم تحت تصرف الإدارة العليا لمكافحة هذا الداء الوبيل في نفوسهم كما في نفوس رفقائهم.”
اما في المقال الثاني عودة على النزعة الفرديّة في شعبنا فإنه يتوسع في شرح مفهوم النظام وعلاقته بالفرد والمجموع في شكل عام وخارج اطار الحزب السوري القومي الاجتماعي فيقول:
“النزعة الفرديّة تجعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل. ومتى قويت هذه النزعة في الأفراد ، خصوصاً الأفرادَ الصالحين للفكر والعمل، وتملّكت من نفوسهم صارت العدو الأول لكل غاية مجتمعية والعقبة الكأداء التي تعترض نشوء النظام الاجتماعي العام. فطبيعتها مخالفة لطبيعة الاجتماع، لأنها ترمي إلى جعل السيادة في الفرد نفسه وليس في المجتمع ونظامه. ولما كان الأفراد غير موجودين إلا في الجماعة، كانت النزعة الفرديّة، التي تعدّ الفرد كل شيء في العالم، أكبر عامل تفكك وهدم لكيان الجماعة، الذي هو الكيان الإنساني الحقيقي منذ ظهر الإنسان على مرسح الطبيعة. ذلك لأن كيان الجماعة لا يقوم إلا بخضوع أفرادها طوعاً أو كرهاً، لكيانها ونظامها، لا فرق بين أن يكون هذا النظام جيداً أو رديئاً. وإننا نلاحظ هذه الحقيقة من درسنا تاريخ التطور الإنساني وتواريخ أنظمة الجماعات والدول منذ أقدم الأزمنة التاريخية إلى اليوم. والأنظمة يصير تطورها وارتقاؤها ضمن دائرة الاعتراف بالنظام وتقديم حق الجماعة على حقوق الأفراد. فنظام الجماعة يتطور ولا يلغى ويقوم على إرادة الجماعة حسب اختيارها أو قبولها وليس على إرادة الفرد.”
انه لأمر طبيعي، إذا كان الوجدان القومي الجديد يقوم على شخصية الجماعة، والمحبة هي المحبة الاجتماعية والصدق هو قوام العلاقات في المجتمع، أن يكون النظام هو النظام الجديد الذي يجد قوته في “المبدأ الذي ورائه والهدف الذي امامه”[3]. “إنه النظام الذي يقوم على قواعد حيوية تأخذ الأفراد إلى النظام وتفسح مجال التطور والنمو على حسب مواهبِهِم ومؤهلاتهم… انه النظام الذي يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمّة والمستمدة من الانظمة الطائفيّة… إنه النظام الذي تتمركز فيه ارادة الأمّة فيضمن وحدتها ويمنع عوامل القسمة.”[4]
هذا هو النهج الذي استخدمه سعاده في وضع حد فاصل بين عهد ثقافي ماض، يريد دفنه، وعهد ثقافي جديد يؤسس له.
الماضي في خدمة الحاضر والمستقبل
نعود إلى “فان مانن” وتعريفه للثقافة. وإذا كنا نستفيض في هذا المنظار فلأهميته القصوى. يتوسع “فان مانن” في تعريف الثقافة بقوله إنها، “نظام يرمز للمعاني، والقيم والأنماط والمعايير المألوفة والتقاليد العميقة، حيث العمل يقوم على العادات والعادات تبنى على التقاليد والماضي.“
السؤال هو أي ماض نختار لخدمة حاضرنا ومستقبلنا؟
إلى أي ماض ذهب سعاده ليبني تقاليد جديدة تكون فعلا، “لحياة الأمة”؟ لقد ذهب إلى أبعد ماض يستطيع الوصول اليه من التاريخ الحضاري السوري، ليفهم منه “خطط النفس السورية”، التي “انقطعت بفعل الفتوحات”، ليعيد وصلها بالحاضر، ويبني عليها تقاليد جديدة تخدم المستقبل الذي أراده لأمته. إن هذا البحث لا يتسع لكل ما كتبه سعاده في هذا المجال خاصة في كتابيه الصراع الفكري في الادب السوري، ونشؤ الأمم، ونتمنى على القارئ الراغب في الاستزادة النهل منهما. ولكننا سوف نركّز، وباختصار شديد على بعض المبادئ الأساسية والإصلاحية التي وضعها لحزبه.
المبدأ الأساسي الرابع، “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”. يُخرج هذا المبدأ تعيين تاريخ الشعب السوري من التآويل الدينية إلى الحقائق العلمية التاريخية. فالتآويل الدينية، في أحسن حالاتها، تعيد بدء التاريخ الإنساني كله إلى التسلسل الزمني كما يرد في سفر التكوين التوارتي. أما الحقائق العلمية التاريخية فتشير إلى تاريخ حضاري سوري يعود إلى آلاف من السنين قبل التوراة. وما تركيز سعاده على مكتشفات أوغاريت ورأس شمرا، وتركيزه على الأساطير الحضارية السورية التي ترسم “طريق الفكر السوري” وهو عنوان الفصل الرابع من كتاب الصراع الفكري، الذي نقتطع منه هذا المقطع، سوى أحد النماذج على ما نقول:
“هنالك حقائق أخرى غاية في الخطورة وردت في مقالة مكتشف آثار رأس شمرا ولكنها ذات علاقة قليلة بموضوع هذا البحث فلا أعرض لها الآن. أما ما ترجمته آنفاً من مقالة المكتشف وأختص بالناحية الأدبية فهو شيء يحرك أعماق نفس كل سوري وكل إنسان محب للفلسفة والفن
إنها صورة مختصرة، ناقصة، سقيمة هذه الصورة التي يقدمها لنا كلود ف.أ. شيفر في مقالة إخبارية، مقتضبة، جامدة لا روح فيها ولا فن. وهي، مع ذلك، تشتمل على ملامح شخصية نفسية أصلية ذات سناء وبهاء. وقضاياها تبدو وضاءة، غضة، كأنها أنشئت أمس أو اليوم. فترى فيها التصور السوري قد عرض لقضايا الحياة بأسبابها وأشكالها، فتناول الشيخوخة والشباب والأبوّة والبنوّة والحب والبغض والحكمة والإقدام والعدل والظلم والطموح والقناعة. ترى الشباب فيها غير نابض بثورة الشهوات والحب البيولوجي، بل تراه في مطامح السؤدد وفي محاربة لويتان أو تنين الرذائل الذي كان ولا يزال يخيف النوع الإنساني. وترى إله الحكمة يعظ بالتسليم للقضاء والقدر ولكن دوره جزء من أدوار غيره وهو ليس أقواه ولعله أضعفه“.
المبدأ الأساسي السابع، “تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي.” بديهي أن “التاريخ” المذكور في هذا المبدأ هو نفس التاريخ المذكور في المبدأ الرابع. والتركيز هنا علي ان روحية الأمة السورية ليست روحية دينية ما ورائية مرتبطة بما يسمى بالأديان السماوية، بل روحية – مدرحية – وجودية تعنى بالوجود الإنساني، وبتطور الحياة الانسانية وترقيتها وتجميلها وتحسينها. وهذا بالمختصر الشديد، هو جوهر خطط النفس السورية.
أما فيما يتعلق بالصراعات الطائفية والمذهبية المنبثقة عن النظرة الدينية والمستدرجة للإرادات الخارجية، فيكفي مراجعة الخطاب المنهاجي الأول، سنة 1935، أو المبادئ الإصلاحية الثلاثة الأول[5]، ليدرك القارئ مدى الاهتمام الذي وضعه سعاده للعامل الثقافي، بسبب أثره الواضح في تشكل العادات والتقاليد.
بهذه الأسس الثلاثة لرؤية كل من المستقبل والحاضر والماضي انطلق سعاده في أكبر عملية تغيير جذرية عرفتها الامة السورية. ولا شك في النجاحات الكبيرة التي لاقاها بين السنوات 1938-1932، تعود في قسم كبير منها إدارته البارعة التي أدت إلى التناغم بين الابعاد الثلاثة التي تكلم عنها “فان مانن”. لقد نجح سعاده في وضع رؤية للمستقبل جذبت الشباب السوري، وبنى هيكلية إدارية تنظيمية تستوعب هذه الطاقات، وفتح المجال أمام قراءة نقدية للتاريخ تتيح استخدام مناراته المضيئة بما يخدم قضية الحزب.
أما ما حدث بعد غياب سعاده القسري عن الوطن، وبعد عودته، فذلك موضوع آخر ليوم آخر.
بهذا، نأتي إلى ختام الجزء الثاني من هذا البحث. في الجزء الثالث، سوف نركز على مراكز القوى التي نشأت أثناء غيابه، وبعد استشهاده.
[1] هذا القسم من البحث مأخوذ من محاضرة للكاتب بعنوان “الانهيار بين الهوية والعقلية الأخلاقية”.
[2] سعادة، أنطون، مقدمة نشؤ الأمم.
[3] من مقالة “النظام”، الأعمال الكاملة الجزء الثاني، ص. 241
[4] سعاده، الخطاب المنهاجي الأول
[5] المبدأ الأول – فصل الدين عن الدولة؛ المبدأ الثاني – منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين؛ المبدأ الثالث – إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.