زمن الرسائل وزمن العنف- د. فاتن المر
قراءة في رواية “بريد الليل” لهدى بركات1
انطوى زمن الرسائل الجميل وحل زمن العنف مكانه. إلى هذه الخلاصة يصل البوسطجي في نهاية الرواية في الفصل الذي يحمل عنوان “موت البوسطجي”، يقبع وحده في مركز البريد المهجور، شاغلاً نفسه بمهمة تصنيف الرسائل وفهرستها وجمعها في ملفات، على أمل أن تصل يوماً إلى المرسل إليهم، بينما داعش في الخارج يعلن نهاية العالم كا نعرفه. وقد يكون الكاتب كالبوسطجي، يشعر أن زمنه انقضى، زمن الكلمات التي تفعل فعلها وتغير شيئاً ما او تضيء مساحة صغيرة في ظلمة هذا العالم.
انقضى زمن الرسائل، ولكن أبطال رواية “بريد الليل” اختاروا أن يلقوا بأعباء حياتهم الموسومة بالعنف والهزيمة بين سطور رسائل يخطونها وهم يدركون تماماً أنها لن تصل إلى المرسل إليهم. تطير الرسائل من قارئ إلى آخر كما في سباق البدل حيث يركض المتسابق، ثم يسلم عصا السباق إلى من يليه. شخصيات تائهة بين مطارات وبلاد هاجرت إليها هرباً من الحرب أو الفقر أو الاضطهاد، تعثر بالصدفة على بضعة أوراق مخبأة أو منسية، تقرأها ونقرأها معها، وتجعلها تطرح الأسئلة حول حياة الكاتب ومصيره، كما تحفزها على الكتابة بدورها، كتابة رسالة تبوح فيها بخبايا حياتها الضائعة، بوحشتها، بتوقها إلى من يفهم ويتعاطف
تقول الراويةِ الثانية: “الرسالة التي وجدتها في دليل الفندق حيرتني كثيراً. إنها تتحدث عن شاب كتبها في غرفة مفروشة، رخيصة الإيجار، في شارع شعبيّ قريب. كيف وصلت إلى هنا؟” .
كل فصل من فصول الرواية رسالة جديدة وصوت روائي جديد يروي، وفق ما يسميه النقاد بالتداعي الحر، أي سرد سيل الأفكار كما تحضر في الذهن، من دون أي ترتيب، تختلط فيها ذكريات الماضي بأخبار من الحاضر، فكرة تؤدي إلى أخرى، وتُروى من دون أن يسعى راويها إلى تنظيمها في بنية واضحة المعالم. وحده المقطع الذي يخبر فيه مرسل الرسالة كيف حصل على الرسالة السابقة يقدم خطاً بيانياً يوضح تطور الرواية وتقدمها في سباق البدل. هكذا، يخبر الراوي الثالث أنه، بينما كان جالساً على أحد المقاعد في المطار، شاهد امرأة تخرج بعض أوراق من حقيبتها، تقرأها، ثم تقطعها وترميها في كيس القمامة، فيعمد هو إلى إخراجها وقراءتها، وفي هذه الأوراق رسالة الراوية الثانية… أما رسالته، فتجدها عاملة التنظيف وهي ترتب المقاعد، فتقرأها، وتقرر بدورها أن تكتب رسالة إلى شقيقها، يجدها فيما بعد راوِ آخر فيخط إلى أبيه رسالة جاء فيها: “شجعني على الكتابة إليك رسالة امرأة وحيدة، وحدانية ومستوحشة مثلي، رسالة كنت عثرت عليها من زمان في خزانتي الصغيرة في البار
للوهلة الأولى، لا يبدو أن هناك ما يجمع بين كتاب الرسائل هؤلاء، شخصيات تعيش على هامش الحياة وتعاني من الفقر والعنف والتشرد، غير كتابة الرسائل وقراءتها. ولكنّ قراءة معمقة تكشف النقاب عن سمة جامعة في حياتهم، وهي طفولة حزينة، مع والدين تخليا عن دورهما في حماية أولادهما وإعدادهم لحياة سعيدة. ما يجمع بينهم أيضاً هو عدم قدرتهم على الشعور بالفرح وبالحب وبالتعاطف.
“الأشخاص السعداء ليس لهم قصة”! بهذا العبارة أعرب الكاتب الروسي ليو تولستوي عن واحد من سبل كتابة الرواية التي تتطلب حبكتها أزمة أو مكروهاً ما يبني حوله الكاتب قصة الشخصية. ولكن رواية “بريد الليل” لهدى بركات تراكم الأحزان والمصائب حتى تكاد تعبر عن رؤية للعالم مبنية على غياب الجمال والحب والسعادة، أما أبطال الرواية، فهم سلبيون، مستسلمون للعنف الداخلي كما الخارجي، مستسلمون لنضوب المشاعر وموت العلاقات، لا يشعرون أن بإمكانهم إجراء أي تغيير في حياتهم، والقارئ الذي يسعى إلى التنقيب عن بقعة مضيئة واحدة في الرواية يرى أن محاولاته كلها تبوء بالفشل. قد يجد استثناءً واحداً في عبارة وحيدة تعبّر فيها إحدى الشخصيات عن شعورها بالارتياح حين تستمع إلى صوت فيروز… أما السطور الباقية كلها فيغمرها الظلام الدامس. هذا الكم من السوداوية يذكرنا باتجاه عام في الرواية العربية التي جهدت، منذ السبعينيات من القرن الماضي إلى اليوم، في تقديم أبطال مأزومين عالقين في دائرة الكوارث الفردية كما العامة. وهو اتجاه يتخطى الواقعية، ففي الواقع، مهما كبرت وكثرت صعوبات الحياة، لا بد من أن يكون هناك فسحة، ولو صغيرة، للفرح والأمل. في الواقع، وفي أكثر الظروف صعوبة، يظهر من وقت إلى آخر بطل مشاكس، أو مجموعة صغيرة، تحارب الظلام الزاحف بفكرها وقلمها، أو بسلاحها وقوتها، أو بطيبتها وايمانها.
____________
1 هدى بركات، بريد الليل، دار الآداب، 1918
.