1

رواية “غبار 1918” لفاتن المر… لا غبار عليها

بقلم فادي خوري

فادي خوري

ما أن فرغت من قراءة رواية “غبار 1918”* لفاتن المر حتى رأيت أنه لا بد من أن أكتب عنها، فرواية كهذه يجب أن يعلم بها أكبر عدد من محبي الرواية الشيّقة والنص الأدبي الجميل، بيد أني لم أجد سبيلاً لتدوين استهلال يليق بمادتها أو يعبّر حتى عمّا أرادت فاتن أن تقوله لقرّائها. لم أجد أفضل من آخر جملة في الرواية نفسها: “في وطني نحيا رغم أنف من يختارون لنا، كل حقبة بعد أخرى، أساليب جديدة للموت، نكتب أو نغني أو نصاب بالجنون حتى لا نموت.” هكذا اختصرت فاتن المر حياة أمة ترفض القبر مكاناً لها تحت الشمس.

حاولتُ قَدْرَ المستطاع وأنا أقرأ الرواية أن أعزل معرفتي بفاتن و”زياد” – صاحب الإهداء –  وتعود إلى ما يزيد عن الثلاثين سنة، وتأثيرها على نظرتي لمضمون الرواية، مخافة أن أضطر، بحكم هذه المعرفة، أن أغض النظر عن هفوة هنا أو كبوة هناك، فإذ بي، وبعد قراءة أول فقرتين من الرواية، أنسى الكاتبة وصوتها وصورتها، فأسمع أصوات يوحنا وبروك والعم أنيس وإيليا، وأشاهد أوجههم في فيلم سينمائي تخدّشت شاشته بخطوط سوداء تدل على قِدَمِه، وألوانه السوداء والبيضاء تكاد تخفي كل غبار وكل تفصيل دقيق. وما أن يبدأ وصف الأمكنة والأشخاص والأشياء… والأوعية النحاسية، حتى تتلوّن السماء إزرقاقاً والأشجار اخضراراً وتفوح من كعك العيد والقمح المهرّب روائح الخير والبركة.

لا أخفي أني تساءلت غير مرّة، وأنا أتنقل الهوينا بين فصول الرواية، كيف لغبار أن يزيح غباراً، فهذه الرواية تكاد تكون دروساً واقعية لتاريخ لبنان والشام وفلسطين إبان حقب من الزمن، اختصرتها مناهج مدارسنا، وللأسف، بحكايات مشوِّهة لحقيقة الأمور، أو ابتعدت عنها لتسلط الأضواء على شخصيات أخرى كانت متعاملة مع أعداء الأمة والوطن جاعلة منهم “أبطالاً”. فإذ بفاتن المر تزيح الغبار عن ماري العجمي وعبد الرحمن شهبندر وحسن الخرّاط وسلطان باشا الأطرش ويوسف العظمة وغيرهم من صانعي التاريخ، لتسمع بين فواصل السطور ونقاطها دوي أصواتهم وصرخاتهم في ساحات المعارك ومواقع الاستشهاد.

 

 

فاتن المر

وإذا أردنا أن ندع مسألة سرد التاريخ “الواقعي” جانباً في رواية المر، نجد أنفسنا أمام دفق ممتع ومشوّق لأساليب الوصف الرائعة، فتراك تعيد قراءة مقطع ما مثنىً وثلاثاً بل أكثر، ليس بسبب عدم فهمه – حاشى ذلك – بل لأنك تشعر في كل مرّة بلذة الاستحمام بعطر التعابير والألفاظ. فتقرأ حين تحدثك عن وصف راوي وقائع القصة لحلم كان يراوده أيّام المجاعة والقهر والموت والقتل:

كانت أغصانُ الوردِ الجُوريِّ اليابسةُ تسكن أحلامي. أذكرها جيداً اليوم، لأن حلماً كان يزورني ليلةً بعد أخرى حتى بدا لي أنه مرادفٌ للنوم وأن الجميعَ يرون الحلم نفسه. الضَّبابُ يلفُّ الحديقةَ حيثُ مائدةٌ من الأطايبِ بين الورودِ الزاهية. أمُدُّ يدي لأتناولَ منها شيئاً، فتتساقطُ وريقاتُ الورودِ وتتلوَّى الأغصانُ العاريةُ مانعةً إياي من الوصول إلى الطعام وتجرح يدي الممدودة بأشواكها. لم أستطع، إلى اليوم، أن أتخلص من كوابيسي. في أحلامي، أبقى دائماً مغلوباً على أمري، مرتبكاً، ضعيفاً… أحسد من يخبرني عن حلم خرج منه منتصراً، أو على الأقل تمكن فيه من حل أزمة ما والوصول سالماً إلى ضفة اليقظة.”

وفي مقاطع أخرى ترى فاتن المر بتميز نظرتها للحق والخير والفن والجمال، فتحدثك عن الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، وأهمية دور المرأة التي هشمته وهمّشته الظروف والمجتمعات، فالمرأة مربية حكيمة وهادئة وكاتبة ورئيسة تحرير مجلة، وهي أيضاً ثائرة ومصلحة ومدافعة عن الحق والفكر. وبين الفينة والأخرى تُسمعك المر نقرات عزف على البيانو هنا أو موّالاً قروياً هناك أو قصيدة حماسية تدعو إلى الجهاد ومقاومة المحتل.

ولا تفوت المر مناسبة، وسط وصفها للدمار والنار والقتل، إلاّ وتنقل لك موقفاً أو رأياً يعكس إيمانها ورؤيتها للكون والوجود بكل ما يحويانه من ظواهر وخصائص، حتى في نقلها لصورة اضطرار من عايش ظروف القهر والمجاعة إلى إضرام النار بأية وسيلة متاحة لتوفر الأم الدفء لأطفالها،  بسبب فقدان الحطب بعد أن نهبه الأتراك من حقول وبساتين السوريين:

“ثم عادت وهي تحمل في يدها صندوقاً مليئاً بالكتب، رمتها وسط الموقد وأضرمت النار فيها. تمددت ألسنة اللهب من صفحة إلى أخرى مثل وحش ضار يصر على التهام حروفنا منذ أن قرر التاريخ أن يقيدنا، ضحايا عند قدميّ غاز يليه آخر.”

ولئن استطاعت فاتن المر أن تتنقل بنا، ليس فقط بين مكانين مختلفين جغرافياً وثقافياً؛ سورية والولايات المتحدة (مسرح أحداث زمن المجاعة ومدينة ديترويت/ميشيغان)، بل وأيضاً بين حقبتين مختلفتين زمنياً؛ عام 1918 و1972، فهي استطاعت أيضاً أن تحافظ بكل أمانة ودقة على فصل وتحديد المنحيين الفكريين لكلا البيئتين والحقبتين، حتى تكاد تشعر أنك تتابع تطور الأحداث فيهما من على شرفة مبنى عالٍ فتتنقل بناظريك تلك الميمنة فترى سورية وتسمع جبران خليل جبران ينادي “مات أهلي”، وتلك الميسرة فتسمع جون كينيدي وهو يردد كلام جبران نفسه “لا تسل ما تستطيع أن تقدم لك أمتك، بل سل ما تستطيع أنت أن تقدم لأمتك.”

لا أدري إن كان عن طريق الصدفة أن تكون فاتن المر قد أصدرت روايتها تحديداً هذا العام، أي في الذكرى المئوية لأحداث عام 1918، ولكن في مطلق الأحوال فإن المائة عام التي مرّت شهدت فيها الأمة أفظع المراحل والأحداث في تاريخها الحديث، ورافق تلك الأحداث الأليمة مفاصل إنجازات وانتصارات تجلّت في غير مظهر، من بطولات ومواقف سجّلها كبار في هذه الأمة، من يوسف العظمة إلى سعيد فخر الدين فأنطون سعاده. ولا شك أن بروز الفكر القومي الاجتماعي كمنطلقٍ للنهضة السورية القومية الاجتماعية كان أبرز تلك الإنجازات تألقاً وتوهجاً، الإنجاز القائم على حتمية فعل العقل السوري الخلاّق والمبدع، الذي بواسطته تنتقل الأمة من حالات العدم والانحسار إلى مصاف الأمم الحرة المتقدّمة. بيد أنه سرعان ما يحتدم من حول تلك المفاصل الإيجابية تآمر المتآمرين وتخاذل المتخاذلين وأصحاب النزعات الفردية والخصوصيات السياسية ومشوهو الانتصارات والإنجازات، وفي هذا تقول فاتن المر “إن أسوأ الحقبات هي التي تلي التغيرات الكبرى التي ترفع الآمال عالياً ثم تطيح بها ولا يأتي الفرج المنتظر.”

شكراً فاتن المر على دروسك “المغبّرة” في التاريخ. دروس صادقة تحمل معاني التفاعل الحقيقي بين أجزاء الوطن وفيما بين سكانه “الأشوريين” و”الأرمن” و”الشركس”، هؤلاء الذين لم تفرقهم الحدود المصطنعة، بل جمعهم الجوع والدماء ووحدة المصير وحتمية التفاعل.

شكراً فاتن المر على مواجهتك الجريئة للممنوعات والمحرّمات. “هكذا تتسكع في ظل الله كل الحروب، حتى تلك التي لم تبدأ باسمه.”

شكراً فاتن المر لأنك أعدت لنا الثقة بأن وسط كل أنواع الاحتلالات والانتدابات والقتل والتشريد يعلو صوت الحق مدوّياً بأن في شعبنا قوة ستفعل وستغير وجه التاريخ.

___________________

* رواية “غبار 1918” لفاتن المر. صدرت عن “دار أبعاد” في الرابع عشر من كانون الأول 2018. تقع الرواية في 176 صفحة من الحجم الصغير، وتروي حكايات أحداث حصلت في سورية إبان الحكم العثماني المتسلط ومعاناة السكان نتيجة المجاعة والموت والقتل الذي مارسه الأتراك.