1

دولة بلا إرادة

تلقيت تعليقات عديدة على مقالي الأخير “قبيلة الكناغرة“، مثلما توقعت تماماً. معظمها إيجابي، وقسم لا بأس به سلبي أو يبدي ملاحظات وتحفظات على بعض النقاط الواردة في المقال لجهة مفردتي “الكيان” و”الدولة”. وقد أجبت شخصياً على استفسارات، وأوضحت جوانب إشكالية، وفي ذهني سلسلة مقالات للرد على المنتقدين. وأبدأ اليوم التعليق على ملاحظتين وردتا من الأمين ربيع الدبس الجزيل الاحترام والرفيق أسامة المهتار المحترم، وتتعلقان بمفهوم الدولة من جهة، والدولة الفاشلة من جهة أخرى.

وانطلاقاً من قاعدة “أن التعيين شرط الوضوح”، نضع أمام القارئ التعريفات الأكثر قبولاً لمفهوم الدولة. والسبب في اختلاف التعريف بين مفكر وآخر يكمن في أن نشوء الدولة ظاهرة حديثة نسبياً. فلكل تجربة ظروفها الذاتية والموضوعية التي تميزها عن تجارب الآخرين. ولكن هناك توافقاً مبدئياً يرى أن نهاية الحروب الدينية التي استمرت ثلاثين سنة في أوروبا، وتوقفت سنة 1648 بتوقيع اتفاقية وستفاليا، أنشأت نظاماً جديداً للدول عُرف فيما بعد باسم “الدولة الحديثة”. وهي تعتبر إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيَّاً حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن. (موقع “الموسوعة السياسية” الإلكتروني).

وهنا التعريفات المختصرة كما وردت في الموسوعات والمراجع:

للدولة عدة تعريفات وُضِعت من قبل العديد من المؤسسات ولا سيما الأوروبية منها. إلا أن التعريف الأكثر شيوعاً هو تعريف المفكر الألماني ماكس فيبر Max Weber إذ عرَّفها بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين من الأراضي.

وعرَّفتها موسوعة لاروسLarousse الفرنسية بأنها: “مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة”. في حين رأى عدد من فقهاء القانون الدستوري أن الدولة: “كيان إقليمي يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه”. وثمة تعريف آخر مقبول عموماً ورد في اتفاقية مونتيفيديو Montevideo بشأن حقوق وواجبات الدول في العام 1933. وقد عُرِّفَتْ الدولة بأنها: “مساحة من الأرض فيها سكان دائمون، إقليم محدد، وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، وعقد العلاقات الدولية مع الدول الأخرى”.

نخرج من هذه الفقرات بنتيجة محددة تتمثل بوجود ثلاثة عناصر أساسية للدولة: الإقليم (الوطن)، الشعب، السلطة (الحكومة). وإذا توافرت هذه العناصر مجتمعة، فإن “الدولة” تحصل على اعتراف دولي يعزز مشروعيتها القانونية. وتحفّظنا الأول على مجمل تلك الآراء له علاقة بأن هذا المفهوم أوروبي الإنتاج، وبالتالي يعالج الحالة الأوروبية في تلك المرحلة. ومع أنه تطور مع الزمن، إلا أن التطبيق لم يأخذ في الاعتبار التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الأخرى خارج “المركزية الأوروبية” التي هيمنت بوحشية على العالم لمدة أربعة قرون على الأقل.

لكن تحفظنا الأهم والأخطر يكمن في غياب عنصر حيوي، لا قيام لأية دولة من دونه وهو: الإرادة. إرادة طوعية يبديها الشعب، أو الجماعات القاطنة في بقعة جغرافية معينة، بالحياة في ظل سلطة ذات قوانين متفق عليها تطبق على الجميع من دون استثناء. فإذا لم تتوافر الإرادة، سيبقى المجتمع منقسماً على ذاته وفي حالة توتر ونزاع دائمين. ويمكننا تصوّر الاحتمالين التاليين: إرادة موحدة تؤدي إلى دولة وقوانين (دستور)، أو فقدان الإرادة الموحدة فيتأجج الصراع الداخلي، ويستمر… ما لم يُقدم الطرف الأقوى على حسم الصراع لصالحه بأية وسيلة متاحة له.

هذا تصوّر نظري عام. فلننتقل الآن إلى استعراض كيفية وظروف نشوء “الدولة الحديثة” في سورية الطبيعية والعالم العربي والعالم (ما عدا الدول الأوروبية الاستعمارية). لا بد من التأكيد على أن الإرادة (إرادة المجموع) تنشأ بعامل الوعي لأهمية المصالح المشتركة، ولو على حساب المصالح الجزئية لكل مجموعة. والتوافق في هذه الحالة يشرّع القوانين التي تحمي تلك المصالح وتنميها لما فيه ازدهار المجتمع كله. وهكذا تصبح وحدة الحياة الاقتصادية والاجتماعية عنصراً جامعاً يعزز اللحمة ويرسخ الهوية.

ونطرح الآن أسئلة محورية كاشفة: هل كانت سورية الطبيعية جاهزة للانعتاق من قيود أربعة قرون تحت نير البربرية العثمانية؟ وهل كان السوريون على مستوى مقبول من الحرية والوعي للتعبير عن إرادتهم الحرة؟ وهل كان قطبا الاستعمار العالمي، فرنسا وبريطانيا، صادقتين في تعاملهما مع “القضية السورية”؟ وأخيراً كيف تم تطبيق مفهوم “الدولة” في سورية الطبيعية قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها؟

الكيانات ـ الدول التي أنشأتها باريس ولندن في الوطن السوري لم تكن بناء على إرادة طوعية حرّة أبداها السوريون في استفتاء أو انتخاب وما شابه. بل أن “لجان التحقيق” الدولية أظهرت أن إرادة السوريين تناقض إرادة الاستعمار الفرنسي والبريطاني (لجنة كينغ ـ كرين الأميركية مثالاً). وقد فضح مفكرو وصحافيو تلك المرحلة الإجراءات القمعية التي فرضتها السلطات الاستعمارية على القوى المعارضة من اعتقال ونفي وتشريد… ناهيك عن اللعب على الأوتار الطائفية والعرقية، بهدف تشجيع فئات معينة للانخراط في “الدولة” أو “الدول” المزمع خلقها. وفي جميع الأحوال، من العراق شرقاً إلى فلسطين غرباً، كانت الإرادات الأجنبية صاحبة القول الفصل.

إن إنشاء “دولة لبنان الكبير” جاء بإرادة استعمارية فرنسية. وحتى لو سلمنا جدلاً بأن قسماً من اللبنانيين أبدى “إرادة” لقيام تلك الدولة، فهي إرادة جزئية واجهتها “إرادة” معارضة عند فئة أخرى. والمضحك المبكي في تاريخ الكيان اللبناني أن القيادات الرجعية إعتمدت على سلبيتين للوصول إلى “الميثاق الوطني”: جماعة تخلت عن ارتباطها بفرنسا، وأخرى قطعت ارتباطاتها السورية والعربية. وقد حارب الطرفان عمداً أية محاولة جادة لبناء المواطن المؤمن بأن الإرادة الشعبية الواعية هي خشبة خلاص الأمة. وما تعيشه “دولنا” اليوم من فساد وإفلاس واحتلالات جديدة يعتبر الحصاد الطبيعي لسياسات الرجعة والتوازنات الطائفية.

هنا يأتي دور أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. فهو لم يكن غافلاً عن الواقع السياسي الجديد في لبنان بعد عودته إلى الوطن سنة 1947. القيادة العليا في الحزب تورطت بـ”الواقع اللبناني”، وانحرفت فكرياً وسياسياً أثناء غياب الزعيم في المغترب القسري. أراد سعاده أن يوازن بين مسألتين: التعامل مع واقع الكيان اللبناني المعترف به عالمياً. ومن جهة أخرى، أن يتاح له المجال لنشر الفكر القومي الاجتماعي في صفوف الشعب. فقد كان يراهن على أن الوعي القومي كفيل بسد ذرائع إنشاء الكيانات في سورية الطبيعية. وعندما أطلق عبارته المشهورة (خطاب العودة 2 آذار 1947): “إن الكيان اللبناني هو وقف على إرادة الشعب اللبناني. وقد أثبت الحزب في جميع مواقفه أنه يضع إرادة الشعب فوق كل اعتبار في هذا الصدد”، كان يريد تأكيد احترامه لإرادة الشعب طالما أن لبنان هو “نطاق ضمان للفكر الحر”. فـ”الدولة” التي أنشأتها “الإرادة” الفرنسية بمعزل عن “الإرادة” اللبنانية الحرّة، وُلدت “دولة فاشلة” عاجزة عن بناء المواطنية ذات المصالح الموحدة والرؤى المشتركة. فكان من الطبيعي أن تصل إلى نهايتها المحتومة كـ”دولة فاشلة” بعد قرن على إنشائها.

*في مقال لاحق سنتناول “الدولة الوظيفة”.