1

دور المثقف في صناعة الغد- رجاء الخيّر

رجاء الخيّر

 

 

ما زلت أذكر التأثير السحري الذي مارسته كلمة “مثقف” على جيلي، وأي تقدير واعتبار غمر وعينا عندما كنا نسمع هذه الصفة.  أنا من مواليد منتصف القرن العشرين، وكثيراً ماكنت أشعر بخيبة أو صدمة من معاينة بعض المكرسين كـ “مثقفين”، إلى أن بدأ الأمر ينجلي لي شيئاً فشيئاً، لأكتشف أن الطبيب الماهر ليس مثقفاً بالضرورة لأنه طبيب الجسد البشري، ولا العالم الفيزيائي أو الفلكي أو البيولوجي هو المثقف فقط لأنه تربع على عرش علم من العلوم، ولا الحائز على أعلى الدرجات العلمية في القانون أو الصحافة أو أي مهنة أخرى.

المثقف هو من بذل عمراً وعقلاً واعمل بصيرته في الحكمة والآداب والتاريخ ومصائر شعبه بالدرجة الأولى، والشعوب الأخرى بالدرجة الثانية، ليستخرج لقومه زبدةً تُغني وعيهم أو بلسماً يعالج جوهر ترهلهم وإعاقاتهم. حتى أن جذر كلمة “ثقف” في لغتنا الملكية الأداء يعني تصحيح العوج، كمثل تصحيح عوج السهم أو الرمح، إذاً ليست الثقافة متعة القراءة، ولا الشهادات العلمية وليست تحصيل معرفة فقط، إنها محبة الأهل والقوم وشحذ البصيرة، للنهوض بعثرات الأهل والقوم وإنارة الوعي بسبل النهوض.

هل يمكن المساهمة في تكوين المثقف؟ برأيي، ممكن وإن لم يكن سهلاً، مثلاً، يقع على المعلم دور اكتشاف الطفل الموهوب باستخدام وفهم اللغة، هذا مؤشر بدئي على درجة عالية من الوضوح والتعويل، يتم تدريج هذا الطفل من قبل معلمه في تعويده، ومنذ البداية، على المطالعة، ثم يطلب منه أن يشرح ما قرأ لأصدقائه، ضمن كتب مختارة ومدروسة ببراعة وجدية، ولابد من ملاحظة أن كتب الأدب وقصص الأطفال والروايات والشعر في البداية خير معين، وهي خطوات أولى ممتازة. وأن كتب التاريخ بأنواعه؛ تاريخ الأدب والسياسة، وتاريخ المجتمع البشري، وعلم الاجتماع خصوصاً، تشكّل مخزوناً ممتازاً لبصيرة تحترم الحقيقة.

إن خلل المجتمع دائما ما يكون معمراً ومتأصلا ومتجذراً، ولا تكفي القوانين لإصلاحه، ويؤدي الى فشل خطط أي دولة في التنمية والإنجاز، وما من أحد يملك البصيرة الكافية لتسليط الضوء عليه بهدف إصلاح العوج باستثناء المثقف، الذي يأبى أن ينسخ أي نموذج لمثقف ما، فالنسخ دائما زائفة لا تملك شيئاً من القيمة الحقيقية، بل يستخرج المثقف الزبدة من كل المعارف والعلوم والثقافات المتنوعة التي شحذت بصيرته، ليؤدي رسالة لأهله وقومه أشبه برسائل الأنبياء.

المثقف الحقيقي هو نبي هذا الزمان المنبثق من أرضه وشعبه وتاريخه، والمتصل بفضاء علوم ومعارف الكون، وهو وحده بطل منير باهر التأثير، ولا شك أن دربه لن يكون سهلاً، ولن يغمر بالورود، لأنه سيتناقض حكماً مع كل المستفيدين من غفلات الناس وإعاقاتهم. هي تضحية وثمن لابد أن يدفعه المثقف ليقوم بدوره الخطير، ويصير نبراساً يستضاء به، ولن يكون مثقفاً إن توانى عن دفع هذا الثمن الغالي والصعب.