1

دهاليز الكلام – التحديث بين القسر والإختيار-نجيب نصير

في الأجواء الثقافية “العربية”، لا يلمس المرء خوفاً يقارب الفزع، إلا ذلك الخوف من التحديث. فهو المؤامرة الكبرى على الكيان المتخيّل لـ”مجتمعات” تبدو أنها مستمرة من الماضي إلى المستقبل، بدلالتي اللغة والدين، وهما عاملان لا ينتجان وحدة مجتمعية بالضرورة، كما أنهما لا يكفيان إلا لتمايز هوية ما وليس إنتاجها. وليس هناك من غير هذين العاملين متوفراً بما يكفي لفتح حالة تفاعلية من الجدل المعرفي لرصد ماهية التحديث وضرورته وإضطراريته. بل وجد دائماً ذاك النقاش الإقتتالي حول حقيقة إفتراضية ما، كامنة في ثنايا اجتماع بشري لا يقوى حتى على ممارسة العيش، فما بالنا بالإرتقاء؟ إن تكاثر إستهلاك التكنولوجيات العصرية التي تبيح التعامل بمستوى معلوماتي معقول، لم تؤثر في الفعل المعرفي المحلي الذي يبدو في تطبيقاته الواقعية، متعاكس تماماً مع الثراء المعلومي الذي تفرزه تلك التكنولوجيات الإستهلاكية.

لايبدو الفساد والإفساد، في هذه البلاد، إلا صورة تطبيقية ممارساتية للفزع من التحديث. وغالبا ما تأتي هذه الصورة على شكل أطروحات عصابية، تؤثم محاولات تحديثنا التي لم تحصل إلا على صعد الإقتراحات المعرفية، في حين فشلت محاولات ممارستها في الواقع. ومع هذا يتصدى غالبية المنتجين الثقافيين من الناطقين بالعربية لمحاربة هذا الفشل. ليس من باب إعادة الإعتبار للمقترحات المعرفية التحديثية، بل لتأكيد عدم ضرورتها من جهة، وخبث سيريرتها من جهة أخرى. هذا هو ما يجاهد جلّ منتجي الثقافة لتكريسه، عبر إعلانات الخصوصية والهوية، لإنتاج مظلومية جديدة يمكن تسمية صرخاتها الملتاعة “بالتحديث القسري”.

هنا، يبدو هؤلاء المنتجون متشبثين في شكل غير منطقي ولا مصلحي بالقَدَامَة. لا، بل إنهم يحاولون دحش هذه القَدَامَة الثقافية في طيّات الحداثة والتحديث، كعلاج تقويمي للخطل الذي وقعت فيه الحداثة، أخلاقياً على الأقل، بناء على فكرتين: الأولى الحق بالتخلف كتطبيق “ديموقراطي” عمومي، والثانية هي الأكثرية الواقعية، كعنصر يحظى بالإحترام العددي “الديموقراطي” الذي يحقّ له فرض ثقافته. في المقام الأول، الديموقراطية تعني حتماً المحاسبة أي حكم الشعب نفسه لنفسه، فعشرة ناخبين أغبياء يساوون عشرة ناخبين أذكياء. هذا من حيث المبدأ الحقوقي، ولكن تكريسه كديمقراطية مشتهاة، شرط أن يتعلم الآخرون منها، يعيدنا فوراً الى الفساد والإفساد، حيث يتم تصنيع الإستثناء كقاعدة، ليبدو التحديث إستثناءً “ديموقراطياً”، يجب أن لا يفرض من خارج المنظومة الثقافية، مهما كان السبب ومهما كانت الحاجة إليه. هنا، تفضل “المنظومة الثقافية”، الشريفة سلفاً، الفساد والإفساد على أيّة محاولة للتحديث تقضي عليها وعلى الفساد والإفساد القائم في داخلها. ولا لزوم هنا للعودة إلى تعريف الفساد والإفساد، فما نراه من دماء ودمار في شوارعنا العربية أبلغ من أي تعبير.

“التحديث القسري”. هذا ما يختاره منتجوا الثقافة لدينا كعنوان يدخلوننا بواسطته إلى دهاليز الكلام. ليس التحديث الإجباري، أو التحديث الإضطراري، بل القسري تحديداً. يذكرني هذا بحادثة قرأت عنها، حول إحتجاج سكان منطقة أصيبت بالمجاعة، وتمّ إرسال معونات من أطعمة وألبسة إليها. بعد إنقضاء المجاعة علا الضجيج حول إستغلال المجاعة من قبل المانحين، في محاولة لتزييف وتغيير الخصوصية المحلية بالمأكل والملبس، وصولا الى إتهام الجهات التي أرسلت المعونات، بتغيير الذوق اللوني لهؤلاء الضحايا! ليس المقام هنا خاص بمديح الفعل الخيري الإسعافي، بل في رصد إمكانية حاجة الجماعة لتغطية حاجتها. فالحاجة إلى الحداثة لم تعد ترفاً ثقافياً يمكن لشرعة حقوق الإنسان أن توفر الذرائع الحقوقية لرفضها على أساس “ديموقراطي” عالمي، على اعتبار أن التحديث القسري هو تغيير غير مرغوب فيه بالنسبة للخصوصية الفاخرة التي تمتلكها الشعوب، لتبدو الإحتلالات والإنتدابات الإستعمارية كجثة مطواعة لإستباحات التشريح. فالتحديث “القسري” هو فعل إستعماري خبيث بالضرورة، يستدعي التريث الإستراتيجي، إذا لم نقل المقاومة، كما يستدعي الإستهلاك الإسعافي خصوصاً في مجالي الأسلحة والتكنولوجيات الإستهلاكية. إنها مكاسب سخرتها لنا العناية الإلهية، في إستثناء فريد، ريثما يتمّ النهوض وإستعادة قوانا، بواسطة ثقافتنا الأصيلة، التي يجب أن تعمّ العالم، وتعلّمه قيمة الإنتظار.

في العموم الواضح، أن هناك إقتتال دموي بين إضطرارية التحديث وقسريته. فالقسر مرفوض بالمبدأ بمرجعية إستعمارية على الأقل. بما يعني أن إختيار التحديث ونوعه وشدته وصورته، هو جزء من السيادة التي تعني الكرامة الوطنية. وعند هذا الحدّ يجب أن يقف كل شيء وينتظر السيادة ذات الكرامة الوطنية والخصوصية الهوّياتية لتقرر وتختار دون قسر أو شدة، حتى لو أدى ذلك إلى ملايين الضحايا وخراب البصرة. أما الإضطرار للتحديث فأمر يمكن التفكير به بعد هزيمة القسر، وبعد إحصاء الضحايا والخسائر والمجاعات، والتوجّه لأهل الخير بطلب المساعدة. فإذا لبّوها اتهموا بتشويه الخصوصية والهوية، وإذا أحجموا أو ترددوا اتهموا بالعنصرية والتوحش. إنها الدائرة المفرغة التي حاول أهل التحديث كسرها، فاتُّهموا بالخيانة المستمرة حتى بعد إزهاقهم، وتحولت مقترحاتهم إلى عار مستمر يصم كل من شاهد الملك عارياً.

في التنظير للتحديث القسري ونقضه، هناك فجوة معرفية هائلة. فمع إعتراف هؤلاء المنظّرين بضرورة التحديث، إلا أنهم يزيحون مركز هذه العملية وليس النقاش فقط، إلى مناقشة القسر وعواقبه الوخيمة على التحديث في حال حصوله “قسرياً” خصوصاً بعد رصد تناقضه مع القيم المتوارثة. كذلك الأمر بعد رصد سوء طوية الإستعمار وما ينتج عنه من تكنولوجيات ملغومة، ليتحول موضوع الحوار بمجموعه، إلى دائرة ثالثة، ينظر إليها كمنجز ديالكتيكي يتجاوز ممكنات المعرفة، إلى ممكنات الفهلوة الروحانياتية والتراثوية، كتجربة معرفية لم تسمح المؤامرات بتجريبها. ويمكن لمس وتعريف هذه الدائرة ووصفها بدائرة “الحذر” أو بدائرة الإنذار المبكر الدائم،. في هذه الدائرة، كل إلزام معرفي وما ينتج عنه من إلتزام، ماهو إلا تنويعات على خيانة السيادة، ناتجة عن القسر، سوف تقود إلى فشل، هو أضخم من الفشل الحالي، بمعنى أنه إستسلام وهزيمة. ومن هنا يمكننا رصد التهافت التفكيري لدى هؤلاء، ليس من الباب التأجيلي فقط (على مثال قربت تنحل، شعارك مدى الحياة)، بل من أبواب كثيرة أخرى تحبط دعوى الحاجة إلى التحديث، وأهمّها مآلات الحداثة المؤدية إلى الإنحلال الاجتماعي، والتوحش العولمي، وتنفيذ مآرب الإستعمار التي خطط لها ووضعها منذ أقدم العصور. هذه الفجوة المعرفية تتمثل تماماً بمقولة النهضويين المزيفين، بأن نأخذ من الحداثة ما يناسبنا، ونتخلى عن الباقي ونحاربه، تبشيراً بأنموذج أخلاقي روحانياتي يجعلنا قادة فكرة التحديث، وأنموذجها الرائد، وهذا ما يتطلب حيوياً إزاحة القسر والقضاء عليه. ومع أنه من الواضح عدم وجود علاقة معرفية بين القسر والتحديث، إلا أن لعبة اللغة الفهلوية، حوّلت الإضطراري والضروري إلى قسري، لتتشكل لدى هؤلاء المنظرون رؤية واضحة تماماً عن المتاهة التي يدخلون ويدخلون عامة الجمهور إليها.

يحشد هؤلاء المنظرون، كميات هائلة من المعلومات والأسماء والعناوين والعمليات والتواريخ، للنظر في قسرية التحديث، حتى ليخال المتلقي أنه أمام قوة معرفية طاحنة لا تترك له مجالاً للنقاش الذاتي. فلا يُعدم سطر من إستذكار فوكو أو فانون وإلى ما هنالك من أسماء تحشد على سبيل التهويل، ولا يُعدم موضوع من إعادة سرد مجريات الإستعمار والإنتداب، والنتائج المريبة لهما، وإكتشاف خبايا الوثائق السرية المفرج عنها، وكلّها تشير إلى قسرية التحديث. مما يجعل المتلقي على عداء تام مع مخرجات التحديث كونها إستعمار مصفّى، يبتغي القضاء على أعدائه (وهم بالمناسبة مصدر رزقه)، من ذوي الخصوصيات الفاخرة، والهويات المفبركة من تراث لما يزل يغتال نفسه معرفياً يوماً بعد يوم.

ما صار معلوماً لدى الجميع، أن التحديث بين ظهرانينا قد فشل فشلاً ذريعاً، بدليل الأداء الهمجي لهذه الشعوب. وإذا كان الإستعمار يقسر هذه الشعوب على التحديث، فمن المعلوم أيضاً أنه فشل وانهزم شر هزيمة، ولم يبقَ لنا إلا عقد أقواس النصر إحتفالاً وتحضيراً للتحديث الإختياري، الذي لم ولن تقبل به أية سلطة أو معارضة. فالكل مولود من ثقافة تراثوية تقاليدية، لا تستطيع أن تتخيل أن للإستبداد بديلاً. وهنا بالضبط تظهر فداحة التدجيل في مسألة “القسر”، فالمذابح الطائفية، وكذلك الشعبوية، تبدو كضريبة قسرية ضد القسر الذي تُتهم به الحداثة. وعند هذا الحد، ترتاح هذه الشعوب إلى منجزها غير الصالح لإنتاج هوية ما، سوى الهوية العنفية الدموية، لتتحول شبهة القسرية إلى حالة نضالية وجهادية، تردّ التحديث على أعقابه، مظهرة الجهامة والقسوة، كمنقوع ثقافي يغذي كرامة منتهية الصلاحية.

التحديث في مقامنا هذا، هو التحضيرات الثقافية (الحقوقية أولا) للولوج في عمليات الإنتاج، الصانعة للهوية، التي لا يمكن الدفاع عنها إلا إذا كانت موجودة كمصلحة مشخصة واضحة ومعلنة. وهذا لا يتحقق إلا بوجود الإنتاج، الذي لن يتحقق إلا بوجود التحديث. هذه هي الدائرة التي يجب كسرها عبر البدء بالتحديث، وهذا ما دعى إليه نهضويو هذه البلدان، وتمّت دعوتهم بكل “ديموقراطية” إلى خشبات الإعدام، وأقبية المخابرات، فحرية الإنتحار يجب أن تكون مصونة “ديموقراطياً”، ولا يحق لأحد إعتراضها كما فعل هؤلاء!

ولكن لا أحد يريد تحديثنا في هذا العصر الجديد! لا قسراً ولا عنوةً، ولا كمطلب إستعماري كما جرى سابقاً، ويجري القياس عليه دائما. ففتح الأسواق بمرافقة التحديث لم يعد وارداً هذه الأيام، وكذلك الدعاية والتشويق للإستهلاك. والسلع والتكنولوجيات التي كانت تحتاج إلى تحديث معلوماتي أو ثقافي للمستهلكين، وقد تتطلب الآن عكس ذلك تماماً، كالأسلحة الملائمة بشدة لثقافة الشعوب المتناحرة، فهي مطلوبة جداً وليست بحاجة لا إلى تسويق، ولا إلى تحديث قسري، ولعل المقاطعات التي تفرضها الدول القوية كأميركا والصين وغيرهما، تجعل من أمرالتسويق كونه عرض وطلب معكوساً. فلم يعد مهماً مقاطعة البضائع والخدمات الأمريكية مثلاً، بما أن أمريكا نفسها تمنع عنك بضائعها. والقليلون من يتذكرون قوانين منع معلومات وعلوم “الهاي تك” عن الكثير من البلدان، حيث تحتاج هذه المعلومات إلى بنية ثقافية حديثة للتعامل بها. وهنا يظهر وهم القسرية، كعامل مساعد على تضخيم الذات من قبيل الفخر بمكوناتها الفريدة، لتبدو منتجاتها الثقافية، تنتمي إلى حقل معرفي آخر. فالتحديث حاجة ضرورية للتجمعات السكانية، ولكن القسر يلغي هذه الحاجة، حفاظاً على الكرامة الإنسانية التي تقرّها شرعة حقوق الإنسان. وهذا ما يجعل أي تحديث فاشلاً سلفاً نظراً للتباعد الأخلاقي بين القسرية، ونوايا التحديث. وهذا ما يفسّر الى حد ما، العقوبات التأديبية التي تتعرض لها الكثير من البلدان، بواسطة الحروب الأهلية والدينية والطائفية، وهي عقوبات ذاتية محليّة الصنع، برعاية واضحة من بائعي الأسلحة وتكنولوجيات القتل، حيث يتناقض التحديث مع التسويق وسياساته (الترامبية مثلاً). وهنا يمكن ملاحظة أنه لا أحد مهتم بتحديثنا لا قسراً ولا غيرةً ولا حسداً من رفعتنا الخطيرة. وإن هذه العقوبات التي نمارسها بأنفسنا على أنفسنا، كمظهر من مظاهر عدم التحديث، هو بإدارة من نتوهّم أنهم أصحاب المصلحة في تحديثنا وتخريب خصوصياتنا القاتلة، حيث تبدو هذه العقوبات السادية، تنتمي إلى حقل معرفي آخر، لا نستطيع قراءته إلا إذا “تحدثنا”، وهذا أمر لا يشكل مصلحة لأحد من هؤلاء الأعداء الحاسدين.

التحديث هو تغيير في البنية الثقافية لسكان التجمعات السكانية، كي تقوى على التحوّل إلى مجتمعات (سوسايتي)، وذلك عبر تنفيذ وممارسة ثقافة حقوقية بالخضوع الإجباري لإستحقاقاتها، ودفع أثمان منجزاتها، وليس رفع شعارات كالديموقراطية، والمساواة، والعدالة، من دون سياقات تكنولوجياتية لممارستها، ضمن ما يعرف بالمؤسسات، والتي ظهر وبالممارسة الواقعية أنه بالإمكان تعطيلها وإفشالها، بواسطة منظومات ثقافية (حقوقية)، ملوّثة “بالقدامة”. فإذا لم نرد تحديث ذاتنا فليس هناك من قوة تستطيع تحديثنا لا بالقسر، ولا بالإجبار، ولا حتى بالملاطفة. وعلى مخترعي الألفاظ الشرطية المضافة إلى المصطلحات العامة، أن يتّخذوا من الصومال وأفغانستان أنموذجاً راقياً للتحرر من القسر.