1

درس انتخابي من بريطانيا: أحزاب السلطة تستوعب الشعبويين- توما توما

في الظروف العادية، ما كانت “الفينيق” لتتناول موضوع الانتخابات المحلية في أي مكان في العالم، لولا أن الانتخابات المحلية التي جرت في بريطانيا مطلع شهر أيار أظهرت مؤشرات تتجاوز المسائل الحياتية المعتادة التي تدور حولها اهتمامات الناخبين. وهذا ما يجعل لاتجاهات الرأي العام البريطاني أهمية خاصة في وقت تتصاعد حدة النزعات الشعبوية اليمينية العنصرية في غالبية دول العالم، وبالتحديد في القارة الأوروبية العجوز.

خلال السنوات القليلة الماضية برز على الساحة السياسية البريطانية “حزب الاستقلال ـ المملكة المتحدة” ((UKIP ذو التوجه اليميني المعادي للمهاجرين، أو في أفضل الأحوال الداعي إلى الحد من حركة الهجرة إلى بريطانيا. واستطاع في زمن قياسي أن يؤمن لنفسه تياراً شعبوياً قادراً على أن يستقطب من الحزبين الرئيسيين: المحافظين والعمال. كما أنه تبنى الدعوة للخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي، متناغماً في ذلك مع جناح كبير ومؤثر في حزب المحافظين الحاكم. وقد أدى ذلك إلى أن يدعو رئيس الحكومة آنذاك ديفيد كاميرون إلى استفتاء عام أسفر عن اقتراع غالبية البريطانيين لخيار الخروج من الاتحاد… لكن هذا ليس مجال بحثنا الآن.

حقق “حزب الاستقلال” تقدماً مهماً في عدد من الانتخابات العامة والمحلية والفرعية، وكذلك في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. غير أن نجاحه الأكبر تمثل في جعل برامجه ومواقفه جزءاً أساسياً من التفكير السياسي والاجتماعي على مستوى الأحزاب جميعها، بل باتت القيادات الحزبية على تنوع مشاربها تنافسه في تشددها الشعبوي في محاولة منها لاستعادة زمام المبادرة. ومع أن هذا الحزب لم يحقق خرقاً في الانتخابات النيابية العامة بسبب طبيعة النظام الانتخابي البريطاني، إلا أنه استقطب ملايين الأصوات في الاستفتاء والانتخابات المحلية وانتخابات البرلمان الأوروبي.

نعود الآن إلى الانتخابات المحلية الأخيرة. فقد أظهرت النتائج أن “حزب الاستقلال” الذي دخل المعركة بـ 126 مقعداً في المجالس المحلية لم يفز إلا بثلاثة مقاعد فقط، أي أنه عملياً خسر تواجده بالكامل. والسؤال المهم هنا هو التالي: لمصلحة أي من الأحزاب صبّت أصوات مؤيديه؟ إن دراسة توجهات الناخبين تشير إلى أن هذه الشريحة الشعبوية ذهبت بمعظمها إلى حزب المحافظين الحاكم، بما يستكمل التوجه العام الذي لوحظ في الانتخابات العامة السنة الماضية حيث “أنقذ” الصوت الشعبوي حكومة المحافظين بقيادة تيريزا ماي بإعطائها برلماناً معلقاً بدلاً من هزيمة متوقعة.

الوجود التمثيلي لـ “حزب الاستقلال” يكاد يتلاشى على الساحة البريطانية، لكن نزعاته الشعبوية اليمينية بالصبغة العنصرية المعادية للمهاجرين ما زالت حاضرة بقوة في بعض السياسات الحكومية. ولا يقتصر هذا المنحى على بريطانيا وحدها. ذلك أن السياق العام الذي كشفت عنه الانتخابات المحلية البريطانية نلحظ مثيلاً له في إيطاليا والمجر وفرنسا حيث انتصرت “الشعبوية” بالتحالف مع أحزاب اليمين الرئيسية، أو بطرح بديل عن الأحزاب كلها كما حدث مع الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون. في حين أن ألمانيا نجت مؤقتاً لكن مع مزيد من التوجه نحو برامج مستوحاة من الشعبويين.

واعتماداً على مراقبة التيارات الفكرية والاجتماعية والسياسية السائدة في الدول الأوروبية، نحن نعتقد أنه بقدر نمو النزعات الشعبوية وتوسعها في المجتمع بقدر ما ستجد الأحزاب التقليدية الحاكمة نفسها أمام التحدي الكبير الذي يتطلب المواءمة بين سياساتها المعلنة وبين رغبات الشعبويين بكل ما فيها من تطرف عنصري. ويبدو لنا حتى الآن أن هذه الأحزاب قد اختارت التبني التدريجي لتلك الرغبات، على أساس أن العودة إلى بيت الطاعة المُجرّب أضمن بكثير من بيت جديد لا أسس له!