خليل حاوي… أسطورة الانبعاث
في الوقت الذي كان سعيد عقل يرحّب بمناحيم بيغن في بيروت، معتبراً الجيش “الإسرائيلياني” مخلصًا للبنان وللبنانيين، كان خليل حاوي يضغط على زناد بندقية صيده، وفوهتها موجّهة إلى رأسه وصوته يعلن رفضه للذل والخنوع والاستسلام. خليل حاوي، البنّاء الراصف للحجارة والناحت للصخور، المربّي، المدرّس، الدكتور، الشاعر، حياته بدأت بقصيدة بلون نهر رمادي تحوّل إلى أحمر صباحَ السادس من حزيران عام 1982. منذ ذلك اليوم وخليل حاوي يعبر كل يوم جسرًا جديدًا إلى زمان ضياعنا، فينتحر مرّة أخرى لكنه يأبى إلاّ أن يولد من جديد على صوت “فارسٍ يمتشق البرق على الغول”.
في التاسع من تشرين أول من العام 2011، كان لي شرف حضور ندوة تكريمية للشاعر خليل حاوي في مركز السينودس الإنجيلي، عين القسيس- الشوير، كان قد نظّمها اللقاء الثقافي في ضهور الشوير، تحت إشراف مؤسسه الأديب والمبدع أدهم الدمشقي، بالتعاون مع مجموعة من الناشطين في اللقاء. وأعترف أن معرفتي بتفاصيل حياة حاوي كانت يومها ضئيلة إلى حدٍ ما، ولم تتعدّى مجرّد إدراكي بأنه انتمى للحزب القومي الاجتماعي، وأنه عاصر الزعيم، وقصيدته عن أليعازر، وأنه ناظم قصيدة الجسر التي أنشدها مارسيل خليفة:
يعبرون الجسر في الصبح خفافًا
أضلعي امتدّت لهم جسرًا وطيد
من كهوف الشرق ، من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد
أضلعي امتدّت لهم جسرًا وطيد
في تلك اللحظة، في قاعة ذاك الدير الشويري، ومع تلألئ الشموع المتراقصة مع صوت ربيعة أبي فاضل ومنير أبو دبس ووجيه فانوس وغيرهم، تكاد تشعر أن أنطون سعاده وخليل حاوي يحرسان المكان بإيمان وعز، وأنك أصبحت مشدوداً وبرغبة قوية لقراءة كل حرف في كل جملة في كل قصيدة من قصائد خليل حاوي.
كثيرون كتبوا عن خليل حاوي، محلّلين شعره ونثره وكتاباته. منهم من قارنه بشعراء أجانب ومنهم من “بالغ” في إظهار تأثّره بمن سبقه في سورية والعالمين العربي والغربي. نحن هنا لن ندخل في تحليلات كهذه على الإطلاق، بل ما نريده هو تسليط الضوء على هذا المَعلم الأدبي المبدع الذي ميّز شعره عقودًا من التراث الشعري، امتدت من عشرينيات القرن الماضي حتى بداية ثمانياته.
الأمر الذي ينطوي على أهمية بالفعل هو معرفة طبيعة العلاقة وعمق التأثر الذي حصل عند حاوي نتيجة معرفته بالزعيم واطلاعه على أفكاره، خاصة تلك المتعلقة بنظرته للحياة والكون والفن، وآرائه حول الصراع الفكري والصراع الحيوي النهضوي، وما تركته تلك النظرة عند حاوي من أثر في حياته، وفي ظروف غير طبيعية كرفضه “حتى التصور بأنه سيواجه حالة يستوقفه فيها جندي يهودي مدجج بالسلاح في شارع في منطقة الحمرا من بيروت العاصمة” – وجيه فانوس في ندوة تلفزيونية على قناة الغد المصرية.
خليل حاوي ظاهرة شعرية فذّة جديرة بالاطلاع عليها والتعمق بها وسبر أغوارها، خاصة من قِبَلِ القوميين الاجتماعيين، فهي تعكس حالات المجتمع الإنساني، من فرح وألم ومعاناة وبطولة وقيامة… وموت.
يقول الدكتور ربيعة أبي فاضل في كتابه “أثر أنطون سعاده في أدباء عصره” (تموز 2002)، متحدّثاً عن الثورة عند خليل حاوي التي “كانت تحتقن في النفوس وتعمل فيها، ولكنها لم تتنفس حتى قدم أنطون سعاده بعقيدته، ورأى فيها خليل وجيله كثيراً من الأنفاس الجبرانية فالتحموا بها.” ويضيف أبي فاضل بأنه “ليس من شك في أن لسعاده بعد جبران، دوراً فعّالاً في تحول شخصية خليل حاوي من مجرّد إسكافي إلى أستاذ جامعي يحمل هم أمته، ويشحنها بطموح النهضة والحياة.”
أما محمود شريح فرأى أن سعاده وحاوي اتفقا إلى حدود بعيدة في ربط أصالة الشاعر وجذورها بالروح القومية واللغة القومية، “فالهدف عند سعاده وحاوي هو إحداث نهضة هي عند الأول قومية اجتماعية تعيد إلى الأمة حيويتها وقوتها، وهي عند الثاني فكرية تنسل من تلك النهضة القومية، وتؤكد على بعث الإنسان فينا.”
ثمّة تقارب وثيق بين رؤية خليل حاوي إلى الشعر وما ورد في كتاب الصراع الفكري في الأدب السوري عند أنطون سعاده، فنقرأ لحاوي: “… إذا لم تتفتح الحياة من جديد بحيث تنشأ لنا نظرة أصيلة في الوجود، تصلح لأن تكون أساساً لبناء ثقافة جديدة، فلن يتمكن الشاعر من الخلق المستمر الذي ينتهي به إلى بلوغ مستوى سواه من شعراء العالم. وما لم يحصل ذلك فلسوف يقع الشعر العربي، مرة أخرى، في آفة الاجترار والزخرف والتقليد.” (مجلة “شعر”. عدد 4، أيلول 1957)
وللتعبير عن مدى الحزن الذي أصاب حاوي بعد اغتيال سعاده، نظم قصيدة، وجدها أخوه إيليا حاوي بين أوراقه وضمّنها في كتابه عن الشاعر، ومما جاء فيها:
كـوني ليَ، الليـلَةَ صَـدْراً حَنـوُنْ يأسُـو شَـجِيّاً سـحقَتْهُ الشّـجونْ
بي جهشَـةُ الطـفـلِ، وبـي ذلـةُ السـائل، بي تَفَجـعٌ، بـي جُنُـونْ
بعـضُ عـزائي تُحِـسـّي الأسـى، لا أن تسـاقيـني الغَـوى والفُتُـون
لا أن تـروّي مـن دمـي رَغْـبَـةً مَلهـوبةً تَلْهَـثُ مـلءْ الجّـفـونْ
يبـوحُ قلـبـي، عَلَّـهُ يَـطْـهَـرُ يَبُـوحُ بالضُّـعْف لِمَـنْ تغـفـرُ
هــــلاّ ذَكَرْتِ لَيْــلَةً أطْلَعَتْ دَوَاهِـيـــاً، واللـه لا يُبْصِــرُ
لَيـلَةَ شـاءَتْ فـي السّـمـا قـوَّةٌ مُـنْـذِرَةً يـا هَـوْلَ مـا تُـنْـذِرُ
لَيـلَةَ ضلَّـتْ أرضُـنـا وانْتَـحَتْ كَهْفـاً إليـه النُّـورُ لا يَـعْـبُـرُ
لَيْلَـةَ غَـارَ النَّـجْـمُ كيْ لا يَـرى، لَيلَـةَ غِـيـلَ البطَـلُ الأسْـمَـرُ
ويقول جوي سليم في مقالة له تحت عنوان “الميثولوجيا في فكر سعادة: الخصوبة والفداء في «الحقيقة النفسية» لسوريا” في جريدة الأخبار – عدد 13 تموز 2019:
“كان خليل حاوي يرى أن الأساطير المتمثلة في التراث الشعبي «تعبر عن نفسية شعبنا وتطورها خلال التاريخ». وقد كتب حاوي في إحدى قصائده: يا إله الخصب
يا بعلاً يفضّ التربة العاقر
يا شمس الحصيد
يا إلهاً ينفضّ القبر ويا فصحاً مجيد
أنت يا تموز، يا شمس الحصيد نجّنا
نجّ عروق الأرض من عقم دهاها ودهانا
أدفئ الموتى الحزانى.
وكتب في قصيدة أخرى:
أدونيس يرتمي في الليل شلواً غاله الوحشُ الجموح
والمسيح، ذنبه أن الذرى البيضاء في عينيه
يعيا دونها الفكر الكسيح.”
إنطلاقاً ممّا شهدناه في هذا التعبير الحي لمفهومنا للحياة ولتراثنا الثقافي ولفلسفة سورية، يصبح حريّاً بكل قومي اجتماعي التعمّق في درس مدى الأثر الذي خلّفه سعاده لأدباء وعوا حقيقة وجودهم والنظرة الجديدة للفن والأدب والفكر، أمثال سعيد تقي الدين وفؤاد سليمان وكمال خير بيك وغيرهم، وخلافاً لآخرين، أمثال سعيد عقل، ممّن نظموا أشعاراً في شخصيات أساطير غريبة عنّا وعن تراثنا وتاريخنا وأساطيرنا.
سنحاول في أعداد قادمة أن نسلّط الضوء على مَعلمٍ آخر من أدبائنا الذين قدموا نتاجات تماشت مع وعيهم الصحيح للفكر القومي الاجتماعي.