حيث لا يجوز السكوت
تعرفت إلى سعاده في منتصف عام 2010، وكانت صدفة عبر فضاء الفيسبوك أنا لها شاكرة. أعود بالذاكرة إلى تلك الفترة حيث بدأت المعرفة من خلال نقاش على صفحة صديقٍ لي وزميل في لائحة القومي العربي حينذاك – وهي لائحة بريدية تُعنى بالشأن القومي العربي، أعضاؤها موزوعن في القارات الخمس ومركزها الأردن. وقد كان النقاش حول العروبة وماهيتها وآليات تحقيقها ورؤيتها، أما الطرف الآخر من النقاش فقد كان شاباً لبنانياً ذكر عدة مرات أن الحديث بالقومية العربية هو نشاز فكري، ومشروع محكوم بالفشل لعدم مسوغات وجوده وفعاليتها، ولانتفاء آليات تطبيقه، وأن الأصل هو تبين الهوية الحقيقية للأمة والانطلاق منها وهكذا تكون القومية السورية الاجتماعية هي الطريق لا القومية العربية.
كنت اتابع النقاش بصمت، إلى أن عجز زميلي عن الرد، وبات يستشهد بعصمت سيف الدولة وميشيل عفلق دون أن يذكر شيئاً من قناعته هو ولماذا يدافع عن القومية العربية وماذا تعني له، في حين كان ذلك الشاب هادئًا ويطرح كلماته ببرود غريب استفزني للدخول في النقاش. عندها وجدتني اعجز عن النقاش في شيء لا أعرفه فحديثه عن القومية الاجتماعية كان جديداً بالنسبة لي حيث لم أسمع بهذا المصطلح أو بأنطون سعاده من قبل. لذلك كله طلبت منه أن يوقف النقاش حتى لا اخوض بما لا أعرف فأقع في الخطأ دون أن أعلم. عندها ضحك وقال: “إذن كش ملك لكم وللعروبة، والان أتوقف.” وتفضلي اسألي حول القومية الاجتماعية وسأجيب، ولنا نقاش آخر بعد ذلك. امتدت الأسئلة والإجابات والحوارات حول القومية الاجتماعية نهجاً وهدفاً وغايةً ومبادئ، تاريخاً مليء بالتضحيات والعطاء المنقطع النظير، شهداء وفدائيين تقدموا للشهادة في سبيل الأمة، إلى أن جاء آب/ 2012 وبت مقتنعة مؤمنة بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية فتقدمت بطلب الانتماء لمؤسستها وكان لي ذلك.
تغيرت رؤيتي لكثيرٍ من الأمور، وتغيرتُ أنا، وبات سقفي الأعلى هو الأمة كلها لا فلسطين وحدها، وها نحن اليوم في العام 2020، فماذا تغير منذ لحظة الانتماء إلى يومنا الحاضر؟ سؤال اسأله لنفسي كل يوم، وأجد إجابة واحدة لا غير: لم يتغير شيء فيما حولي إلا للاسوأ، وتغيرت أنا كثيراً على كل صعيد؛ فالعقيدة تزداد عمقاً، والحلمُ بالنهضة السورية القومية الاجتماعية يكبر، والايمان بقضية تساوي وجودنا يعظم كل يوم. إلا أنني وبرغم كل ذلك أجدني اليوم مضطرة للحديث في أمرٍ لم أظن يوماً منذ انتمائي إلى غاية اللحظة أنني سأخوض به، انطلاقا مما أشعره مسؤولية الكلام حيث لا يجوز السكوت.
منذ فترة ونحن نتابع ما يحدث ضمن الساحة الحزبية من انهيارات أسقطت كل شيء إلا الثوابت الصادقة الممتدة في العمق لدى بعض القوميين الاجتماعيين. إن مرجعيتي الوحيدة في كل ما أنطلق منه هو الفكر السوري القومي الاجتماعي والمعلم الأوحد سعاده، ولا ارى أمامي من هو فوق النقد أو التعرية إن استحق. وبهذا أرى أنه لا بد من أخذ الموقف اليوم من كل ما يحدث وعدم الوقوف على الحياد لنرى أين تدور الدفة فندور معها!! حيث أن المسؤولية لا تقع على المسؤولين وحدهم في تقرير مصير حزب الأمة كلها وإنما على عاتق كل سوري قومي اجتماعي أقسم وانتمنى ليكون جندياً يرصف طريق النهضة وتقدمها.
إن ما وصلناه اليوم من سقوط على كافة الصعد يمكّنني من القول إن هذا ليس حزب سعاده الذي انتميت إليه، فحين تقدمت بطلب الانتماء للحزب كان ذلك نابعاً من إيمان حقيقي أن هذه المؤسسة قادرة على الفعل والتغيير ولم يخطر في بالي للحظة أن هذه مؤسسة مرتهنة بقرارها ووجودها لعاملين سلبيين: إرادات من خارج الحزب تتحكم بها ساعة وتعبث بها ساعات، ونزعات فردية متناحرة تسهل عمل تلك الارادات.
اليوم ولكل الرفقاء وأبناء الأمة في كل كياناتها أوجه خطابي، احترموا أنفسكم قبل أن تطلبوا احترام الآخر، ولا تزاودوا على وطنية وانتماء غيركم قبل أن تنظروا لأنفسكم. نعم، نحن سوريون قوميون اجتماعيون ولنا أن نفخر بما نحن عليه، ولكن أين نحن من الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ أين نحن من غايته وأهدافه ووجوده وزعيمه؟ وضع سعاده أسساً واضحة لما أراده لهذا الحزب أن يكون عليه ويفعله، ووضع غايةً واضحةً تحدد من نحن، وماذا نريد، وما هي أولوياتنا وتراتبيتها “بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيت سيادتها، وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها، والسعي لإنشاء جبهة عربية”
فماذا أنجز هذا الحزب من بعد اغتيال سعاده إلى يومنا هذا؟ ماذا حققنا من تلك الغاية؟! والإجابة هنا بكل تجرد “لا شيء”. فما حدث هو أن حزب الأمة صار حزب فلان أو فلان، وبعض القوميين الاجتماعيين ممن يفترض أن يكونوا أصحاب الإرادة الحرة والنفسية الراقية صاروا أزلاماً لهذا وذلك، فلم تعد المشكلة مشكلة شخص بل نهج فساد نخر جسد هذا الحزب حتى بات متهالكاً على ذاته، تتساقط جدرانه الواحد تلو الآخر.
هذا الانحطاط المناقبي والخروج العقائدي على كل ما وضعه سعاده سمح لغير السوريين القوميين الاجتماعيين بالتدخل في الشأن القومي الداخلي، وإدارته بحسب أجندات خاصة وللأسف كان من بين القوميين من باع نفسه وعقيدته مقابل منصب هنا أو حساب بنكي هناك، في الوقت الذي قدم سعاده روحه فداءً في سبيل ما آمن به.
أجدني اليوم في حالة أرفض بها القول أنني أنتمي لما يسمى اليوم الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهذه المؤسسة لا تعنيني بشيء، وليست هي ما تقدمت طواعية للانتماء ضمن كوادرها وتحمل مسؤولياتي أمامها. فإن كان لنا من بقايا ضمير ووجدان قومي ينهض بنا وننهض به، علينا أن نقف اليوم ونعلن الرفض لكل ما هو قائم، ونقول كلمة واحدة مفادها إننا نحن القوميون الاجتماعيون أبناء العقيدة، نحن من آمنا بسعاده نهجاً وحياة حقٌ لنا وحدنا أن نعيد بناء هذا الحزب المتهالك ونصوب البوصلة نحو الهدف، فإما يكون القرار اليوم أو لا يكون بعد هذا أبداً.