1

حسابات أم محاسبات؟ -د. جورج يونان

بخصوص الانحدارية المتواصلة الأَداء، وخصوصاً في الكبوة الانتخابية الجديدة، وفي حديثٍ صحافي، يرى الأمين الجزيل الاحترام حنّا الناشف، رئيسُ الحزب السوري القومي الاجتماعي، أن حصيد الحملة الانتخابية الفقير كان نتيجة التحالفات وخطأ التقدير في ماكينته الانتخابية وضعفه الإعلامي. فإحصاءاتُ ما قبل الصوت التفضيلي اختلفت عما بعده، والقيادة الحزبية وقعت ضحية مجاملات أضاعت الفرصة لحصادٍ أكبر.

وقد طالب الأمين أحمد أصفهاني بمراجعة التجربة النيابية والوزارية للحزب منذ العام 1990. والحقيقة أنَّه لكي تكون المراجعةُ كاملةً، يجب أن تعود إلى ما قبل ذلك، وبالتحديد الفترة كلها التي تلت اغتيال الزعيم أنطون سعاده .

في السابع عشر من شهر أيّارَ الماضي، أطَلَّ حضرة رئيس الحزب الأمين حنّا الناشف، على الرأي العام وعلى القوميّين عبرَ شاشة الـ (أو تي في) بحديث عن الشؤون العامة بعد الانتخابات، وعن أداء الإدارة الحزبية في هذا الشأن. وهذه المحطة كان لها دورٌ كبير في تهميش تموضع الحزب الانتخابي. فتحدث الرئيس، بدون الدخولِ في أية تفاصيل، عن حسابات الإدارة الحزبية مقابل حسابات كل واحدٍ من المرشحين أنفسهم. وظاهرٌ لكلِّ الناس، وللقوميين خصوصاً، أن “حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر”، ولم يكن هناك لا بيادر ولا من يحزنون لكلِّ أصحاب الحسابات وبلا تمييز. والفشلُ ظاهرٌ للقاصي والداني مهما أوجدنا له من مبررات. فأية حساباتٍ هذه التي نتحدَّثُ عنها؟ وأية إحصاءات؟

كان واضحاً قبل الانتخابات بشهورٍ، وخلال الانتخابات وبعدها، أن هناك، وبلا استثناء، شحناً طائفياً لا مثيل له. وما الدعوات الآن لبناء الدولة وللوحدة الوطنية إلا دعوات لتوزيع المغانم بين الجالسين حول المائدة-الغنيمة. وكان من المفيد أن يكون الحزب قائداً ومنظماً لحركة “المجتمع المدني”؛ فهي أقربُ إلينا من أي تنظيم آخر. لكن، وللأسف الشديد، ارتأت القيادة تنويع تموضعها. وفي أغلب الأحيان كان الإصطفاف في غير موقعه الطبيعي، فكان الفشلُ وتبعهُ الإحباط والخيبة عند القوميين ومحبيهم.

أمّا الحسابات فلا تجري بناءً على الآراء الشخصية من أية جهة كانت مصادرها. الحسابات، في عُرْف المؤسسات السليمة، هي عملية تقييمٍ موضوعية يقوم بها أناسٌ مختصون بهذا العِلِمْ. وهو، في الحقيقة، علمٌ يعتمدُ على جمع المعلومات وتخزينها وتنسيقها، ومن ثَمَّ تحليلها من أجل الوصولِ إلى نتائج تجعل عملية أخذ القرارات صواباً، ونجاحها أكثر احتمالاً. عملية جمع المعلومات لا تقتصر على مفهومها الإحصائي فقط. هي عملية تمحيصٍ وتقييم تنتهي بتقريرٍ مُجَدْوَل للأداء Dashboards يمدّ العاملين في المؤسسة بمعلومات عن مستوى الأداء ويُصنَّفُ على درجاتٍ أربع: سيِّئ، تحت المعدل، فوق المعدل، وممتاز أي 100%. وهناك حدّ أدنى وحدّ أعلى يعرفه العاملون في المؤسسة، ويمكنهم، بلمحة بصر، أن يلتقطوا ذا الأداء السيِّئ الذي تجب معالجته، وذا الأداء الممتاز الذي يُحتفى به عادةً ويُحتذى.

“جمع المعلومات ضرورة أولية للتأهب وللمبادرة وللفعل الناجح، حين يتحدد الهدف وتتوضَّحُ الغاية. وهي عمليةٌ يُفتَرَض فيها أن تكون شفافة وبعيدة كل البعد عن أية أفكار مسبقة. وهي السبيل إلى اكتساب المعرفة في كل المجالات، وذلك بدورها التثقيفي للفريق الذي يجمع المعلومات ويدوّنها ويحلّلها، لكي يعمِّمها على الرأي العام ككل. وهذه المعلومات، للقياديين في هذا المضمار، يجب أن تكون منطلقاً وحافزاً وقوة لهم نحو الغاية الكبرى للحزب السوري القومي الاجتماعي” (حديثٌ سابق). فما هي الحساباتُ التي تحدَّثَ عنها حضرة الرئيس؟ وعلى أية إحصاءاتٍ وأية معلومات اعتمدت الإدارة الحزبية في أخذ قراراتها الفاشلة؟ ومَنْ جَمَعَ هذه المعلومات ونسَّقها وحلَّلها؟ ومن الذي أخذ القرار بذلك التموضع الانتخابي للمؤسسة الحزبية تجاه الشحن الطائفي الذي تحكَّم بالانتخابات؟

قلتُ في حديثٍ سابق إنه، ولا سيّما في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية، تنوعت البرامج الإلكترونية Software Applications التي تخزِّن المعلومات الأولية وتنسقها، وتستنطق ما يتلازم معها من معلومات مخزونة سابقاً، ثم تحللُ كلَّ هذا لتعرضه في تقرير معرفي نهائي يكون منطلقاً لآفاق جديدة في التخطيط والبحث والممارسة المهنية. للقوميين حقٌّ بهذه المعلومات (إذا كانت موجودة)، لأنها طريقٌ لمعرفة ما يجري حولهم، ولتقدير ما يمكن تحقيقه من أهداف وما لا يمكن تحقيقه في مجال التركيز على الغاية الكبرى والإيمان بها بثقة وثبات. المعلومات وسيلة لتثقيف القوميين من أجل تعبئتِهم توخياً لبلوغ أهداف النهضة السورية القومية الاجتماعية. والمعلومات كفيلة بتلافي الأخطاء والمطبات، ناهيك بالكوارث.

ومن الحقائق الثابتة أننا نحنُ الأطباء نستعين، في مهنتنا اليوم وفي سعينا لتشخيص مرضٍ ما، بآلاتٍ وأدوات مكلفة وُضعتْ في تصرُّفِنا. هذه التكاليف قبل الوصولِ إلى التشخيص لا تشكِّل إلا جزءاً يسيراً من كلفة الاشتراكات والمضاعفات التي تنتج عن سوء التشخيص. هذا الأمر ينطبقُ على كل النشاطات في المجتمع وفي الحياة العامة. سوء الإدارة عمليّةٌ مكلفة، ولها عواقبُ كارثيَّة. وقد كان هناك تموضعات سياسية جلبت الكوارث على المؤسسة وعلى أعضائها. الأهمية الكبرى في جمع المعلومات هي التعرُّفُ على حاجات المواطن من حرية في الفكر، وكرامة في العيش، ومدنية الدولة، وحرية المرأة في نطاق المواطنة، المواطنة من حيث هي حقوقٌ ومسؤولية للإنسان في أي مجتمعٍ كان. إن التعَرُّفَ على حاجات المواطن مطلبٌ أساسي في كل المجتمعات اليوم. وهناك فرقٌ شاسعٌ بين العالم الغربي- الشمالي وبين عالمنا الشرقي- الجنوبي. الأول يعتقدُ أن حاجات المواطن لها أولوية على الولاء للأرض. فالمواطنون في اسكتلاندا يمكن أن ينفصلوا عن بريطانيا إذا شاؤوا بدون أن تُشَنَّ عليهم حملة عسكرية. وكذلك الأمر في الاتحاد الأميركي وفي الاتحاد الكندي إذا قررت ولايةٌ ما الانفصالَ عن الاتحاد. هذا ليس دعوةً لتبني هذا المفهوم. ولكن المفهوم الشرقي والجنوبي هو أسوأ منه؛ فلا ولاء للأرض ولا حقوق للمواطن. الولاء للمذهب شامل. والمذهبيون يستطيعون أن يستقلّوا في أية بقعةٍ من الأرض ليفرضوا سلطتهم “الإلهية”. وكلا المفهومين لا يتفقان مع مفهوم سعاده الذي يقول: “الأرضُ شرطٌ أوَّليٌّ للحياة عموماً”. (“الآثار الكاملة. جزء 3، صفحة 29). ويقولُ أيضاً “لا بشر حيث لا أرض، ولا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة”. ومع مفهومه القائل بالإنسان- المجتمع، الذي له حقُّ المعرفة وحقُّ الحياة الكريمة في رُباعية الحرية والواجب والنظام والقوة، هذه الرباعية المتكاملة والمتناغمة التي لا يمكن تجزئة مكوناتها.

يقول راينهولد نايبور Reinhold Niebuhr إنَّ ما يتحكم في مصادر القوة في أيٍّ من المجتمعات المتطورة إنما هو الاقتصاد، وليس القدرة السياسية أو القدرة العسكرية.

أحدُ أهمِّ المكونات للمجتمعات، في بيئةٍ ما، هو الحاجة الاقتصادية.

والاجتماع البشري، يقول سعاده، يُقسم إلى نوعين، كلاهما مؤسَّسٌ على الاقتصاد:

النوع الأول يُدعى الاجتماع البدائي، ورابطته الاقتصادية الاجتماعية هي رابطة الدم. وفي هذا النوع تندرجُ الشعوب والقبائل التي هي في بداوة أو همجيّة.

النوع الثاني هو الاجتماع الراقي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية مستَمَدَّة من حاجات الجماعة الحيوية للارتقاء والتقدم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة؛ وهذا هو الاجتماع الحضاري.

إن التَرَهُّلَ في الإدارات الحزبية المتعاقبة بعد استشهاد الزعيم، وحتى الآن، أدّى إلى تموضعات سياسية لم يكن للحزبِ فيها أية استقلالية. لقد استشهد الأمين أحمد أصفهاني بقولِ الأمين عصام المحايري عام 1991: “إن التطورات التي جعلتنا نشارك في النظام السياسي في لبنان تفرض فكراً سورياً قومياً اجتماعياً مُهيئاً للدخول في لعبة السلطة والقبض على مفاتيح تساعده وتساعد الحركة في تنمية قدراتها، وتساعد الأمة على تحقيق تطورها السياسي والعلمي والثقافي”. فهنا الطامة الكبرى. وهذا ما وصفه الشاعر أدونيس في حلقاته عل شاشة “الميادين”؛ وهو توظيف المبادئ من أجل وصولِ بعضهم إلى السلطة السياسية. فالأمين المحايري له تاريخ طويل في هذا التموضع السياسي، سواءٌ أكان في موقفه غير المعروف من اعتقال الزعيم وتسليمه إلى السلطات اللبنانية أم في تواطُئه الصامت خلال التحضيرلاغتيال المالكي الذي، وباعترافه في مرافعته أمام القاضي بدر الدين علّوش في دمشق، كان له علاقة بمشاريع انقلابية همس بها شارل مالك في أذن هشام شرابي ومنه إلى الأمين المحايري. زِدْ أنّ دورهُ (أي المحايري) في مهزلة “الطوارىء – المجلس الأعلى” لم يكن إلا صراعاً على السلطة. هذا، فضلاً عن الانقسام الذي قام به في لعبة الانضمام إلى “الجبهة الوطنية” في دمشق. كل هذه المواقف لم تكن إلا تموضعات سياسية لم يكن للمؤسسة أية مصلحة فيها، ولم يكن لها استقلالية في أخذها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المحاولة الانقلابية في لبنان؛ فلم يكن فيها استقلالية، إنما جاءت بإلحاح من انقلابيي دمشق الذين كانت كراسيهم تهتز تحتهم، وكانوا لا يثقون بعضهم ببعض. وأين استقلالية الحزب في هذه الانتخابات وقد هُزِمَ في عقر داره في المتن، وبالأخص في دارة زعيمه؟ أين استقلاليته في بعلبك ـ الهرمل؟ وفي الشوف؟ وفي عكار؟ وفي الجنوب حيثُ النجاح الهزيل وحيث الفارقُ وَصَلَ إلى أكثر من أربعين ألف صوت! نحنُ، في صراعنا ضد العدو الغاصب، مع المقاومة. أما في عملنا النهضوي فلنا رسالة، حدَّتها المبادىءُ الإصلاحية، بهدف خلقِ الإنسان – المجتمع القادرِ على تحقيق الهدف الأكبر والأساسي.

وهُزال مجالس العمد، في العمل النهضوي، فاقعٌ على مدى السبعين سنة الماضية. سأتجنَّبُ  الحديث عن بعضِ العُمَدِ، لأن الحديث عنهم مؤلمٌ، ومن الجراح ما لم يندملْ بعد. أمّا عنِ بعضِهم الآخرِ، فهل من يُخبرني ما دورُ عمدة الخارجية وما هي إنجازاتها؟ عمدة الثقافة فشلت في احتضان النخبة الفكرية في الحزب، وهجَّرتها إلى خارج المؤسسة. وعصر بيروت الذهبي لم يشرق إلا بفضل هذه النخبة من مسرحيين وموسيقيين وشعراء وأدباء وصحافيين وغيرهم من فنانين ومبدعين. الحداثة في الشعر والأدب، هذا التيار، يقولُ أدونيس “كان يستمدُّ أصوله من كتابٍ لم يكتبْهُ، ويا للمفارقة، ناقدٌ أدبيٌّ، وإنما كتبَهُ قائدٌ سياسيٌ-فكريٌّ هو أنطون سعاده”. هذه العمدة اليوم عاجزة عن دعم مجلة راقية كمجلة “فكر” برغم كل الدعم الذي قدمه جنودٌ مجهولون ومن أموالهم الخاصة. وعمدة الإذاعة لا تزال تعيش في العصر الحجري، تصرف الأموال الطائلة على ورقية في عصرٍ لم تَعُدْ الورقياتُ مقروءةً. أما عمدة عبر الحدود فقد كان بإمكانها أن تكون من أهم وأغنى العمد بحكم مسؤوليتها في تنظيم الإمكانيات والكفاءات الموجودة في المهاجر، ودراسة أسباب الهجرة والعمل على استثمار هذه الإمكانيات وتوظيفها في مشاريع انتاجية تدرّ على أصحابها الربح المشروع، وتؤمّن للمؤسسة وارداً معقولاً يجنِّبها التسول، وتؤمّن وظائف للعاطلين عن العمل وللأجيال الجديدة المتخرجة من الجامعات، وتُبْعِدُ عنهم أفكار الهجرة والتغرب.  لقد أمعنت القيادات في الأحزاب العلمانية، وبالأخص في الحزب السوري القومي الاجتماعي، في تجاهلها الضروراتِ المعيشيّةَ للجسم الحزبي. لقد كان عليها “وضع خطط ومشاريع مرحلية ثمَّ ثابتة تخاطب حاجات المجتمع ومتطلباته المُلِحّة”. بيد أنّها لم تحصِ الكفاءات المهنية الموجودة في الجسم الحزبي من أطباء ومهندسين وفنانين وصحافيين وقانونيين ومحاسبين ورجال فكر ومستثمرين، ومن أصحاب حرفٍ شتى، ومن قدرات مالية محلية واغترابية لاستثمارها في مشاريع إنمائية توفر فرص العمل لكثير من الناس. ولو قامت بذلك، لاكتنزَت التجربة، وكبرتْ وتزايدَت الخبرات، واغتنى المجتمع، وتوقَّف نزيف الهجرة والاغتراب.

هذه الأمور تتطلب رؤية وشفافية في الأداء لاكتساب ثقة القوميين. ولكنّ المؤسسة، وللأسف الشديد، غائصة في الحزازات المحلية، وفي التموضع السياسي الذي يخدُمُ القيِّمين على المؤسسة فقط. هذا الواقع يُقابله ما فعلته الأحزاب الطائفية من خدمات على حساب الدولة؛ فقد جذبت إليها شرائح كبيرة من المجتمع.

أما الموضوع الآخر الذي عالَجَتْه تجاربنا الروحية على مدى سبعة آلاف سنة، ولم تتَّعظ به القيادات القديمة في الحزب، فهو تمسكها بالسلطة على مدى عقودٍ عديدة وعدم سماحها لكفاءات الأجيال الجديدة بالمساهمة في تطوير الإدارة الحزبية. وفي تجربتنا الروحية على مدى آلاف السنوات عبراتٌ لم تستوعبها القيادات المتحكِّمة بالسلطة، وأعتقدت بأن لها حقاً روحياً بالخلود في السلطة. حاول جلجامش أن يبحث عن خلود الإنسان الفرد، وحاولت عشتار ثنيه عن ذلك باعتبار أن للإنسان دوراً شاءته الآلهة بإعادة عملية الخلق الأولى. فطلبت منه، وهي إلهة الخصب، إخصابها إذ ليس المطلوبُ خلودَ الفرد، بل خلودُ البشرية عن طريق ولادات جديدة وأجيالٍ جديدة تُغيِّرُ الكون. مات جلجامش وبقيت عشتار خصيبة في هذا الكون.

كان سعاده يقول: “إني أخاطبُ أجيالاً لم تولد بعد”. فماذا فعلتم بهم؟