1

حرب العصابات في الاقتصاد ونشوء المتحد الأتمّ

زيد قطريب

تعديل استراتيجي جوهري، لابد أن يحصل على صعيد الاقتصاد في سوريا الطبيعية، ويتلخص بتطبيق الاستراتيجيا العسكرية على الاستراتيجيا الاقتصادية، أي تطبيق أسلوب حرب العصابات في الاقتصاد مثلما تم استخدامه في جبهات القتال.

كان من السهل على إسرائيل قصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، وفي حرب لبنان لم يعانِ كيان العدو في قصف صواريخ الجيش الشامي وبعض الألوية التابعة له أثناء تنقلها بين منطقة وأخرى، فالأهداف كانت كبيرة وواضحة وسهلة المنال. لكنها خسرت في حرب تموز التي اتبعت أسلوب حرب العصابات. هذا الأمر يمكن تطبيقه على الاقتصاد. إسرائيل تقلق من أي معمل حديث يمكن أن ينشأ في أي كيان سوري، مثلما تقلق من أي سلاح عسكري متطور. لكن حرب العصابات في الاقتصاد، تعني اعتماد المشاريع الصغيرة الموزعة في النسيج الاجتماعي حيث لا يمكن النيل منها عبر قصف أو حصار أو منع استيراد. بكل بساطة، لابد من تحويل الانتاج إلى منهج تفكير وعمل.

إنها رؤيا، تشبه حال الأمة السياسية والاجتماعية في التاريخ، حيث كان التشظي إلى ممالك وكيانات لا يلغي إمكانية التوحد والاجتماع سواء في حال الخطر أم في حال توفر فائض القوة عند أحد الكيانات فيهرع إلى لملمة الأشلاء وإعادة تشكيل الجسد الواحد. في الاقتصاد يعني هذا أن اقتصاديات المتحدات الصغيرة مقدمات للمتحد الكبير، ريثما يتمكن أحد تلك المتحدات الصغيرة من الفيضان ليغمر المتحدات الأخرى في المتحد الأتم. الاتجاه المفضل في ذلك هو للاتجاه الأفقي في الاقتصاد، أي الرساميل الصغيرة التي تؤسس دوائر انتاجية صغيرة مختصة بنوع واحد من البضاعة المتصلة ببيئة كل متحد، وذلك بهدف التأسيس الصحيح للاتجاه العمودي الذي غالبًا ما انشغلت به الكيانات السورية كشكل، من دون تأسيس هادىء وقوي.

في عام 1945 أسّس خمسة تجار شوام “الشركة الخماسية” برأسمال مشترك، وحققت الشركة منافسة عربية وعالمية في انتاج النسيج بكافة أنواعه، ثم أتى قرار التأميم عام 1961 أيام عبد الناصر، وكان اللافت هتاف بعض العمال الناصريين، عند قدوم سيىء الذكر عبد الحميد السراج الشركة للإشراف على تنفيذ التأميم، بالنداء: “تسقط الشركة الخماسية.. أمّم.. أمّم”، لم يدرك أولئك العمال أن الشركة سوف تصبح خاسرة ثم تتلاشى ويخسر أكثر من خمسة آلاف عامل أسباب معيشتهم نتيجة جرّهم عنوةً إلى اشتراكية التعتير والفساد. بالطبع لا يعني ذلك دعوة إلى انفلات الرأسمال الفردي أو التحول إلى اقتصاد الرأسمالية المتوحشة، بل هو مثال كان يمكن أن ينجح ويطبق في بقية القطاعات فيما لو كان النظام الاقتصادي قائمًا على أساس اجتماعي وبرعاية الدولة القومية التي توزع الثروة بناء على الانتاج.

 اليوم، أصبحت جميع شركات القطاع العام الشامية خاسرة، وهي في الغالب مطروحة للاستثمار والبيع للقطاع الخاص الذي سبق وتمت مكافحته بالتأميم. لقد توقف معمل السكر ومعمل الأحذية ومعمل الكونسروة وغير ذلك كثير من المعامل والشركات التي صُورت للناس على أنها ضمان للأمن الغذائي ولرفاهية الشعب. وهم اليوم يعودون إلى الخصخصة وبيع أملاك الشعب بلا رؤيا استراتيجية حيث يمكن أن تدور الدائرة بشكل عكسي ثانية مثلما حصل مع الشركة الخماسية سابقًا!

تنشأ في سوريا اليوم ظاهرة يمكن أن نسمّيها اقتصاد المنزل. وهي صورة مصغرة عن المشاريع الصغيرة المعتمدة في الأساس على المواد الغذائية وانتاجها وتعبئتها ومن ثم بيعها في الأسواق المحلية والمدن المجاورة. وتعتبر النساء عماد هذا النوع من الأعمال الذي يتصل بمنتجات المؤونة والأجبان والألبان وتربية النحل وزراعة الفطر المنزلي إلى جانب خياطة النسيج والحياكة. وقد طرحنا أكثر من مرة إشكالية بقاء مساحات هائلة من دونمات الأراضي المملوكة من قبل الدولة، جرداء قاحلة غير مستثمرة، وعدم المبادرة إلى تأجيرها إلى فلاحين خبراء من أجل زراعة العلف الذي تستورده الشام ويتسبب غلاؤه بارتفاع أسعار اللحوم بشكل كبير. تلك الأراضي الممتدة بين دمشق وحمص أو باتجاه درعا وطريق بغداد وبيروت، يمكن أن تتحول إلى رئات اقتصادية حيوية إذا ما تم تقسيمها وتنظيم الخدمات فيها وتخصيصها بقروض انتاجية لأصحاب المشاريع الزراعية والحيوانية التي لا تتطلب رؤوس أموال كبيرة، لكن الذي كان يجري على الأرض دائمًا هو انتشار الكتل الاسمنتية على حساب الزراعية وقطع الأشجار، مع غياب مشاريع الري الاستراتيجية. لماذا لا تكون الشام الأولى عالميًا في تصدير النبيذ وهي تزرع أفضل أنواع العنب؟ أو لماذا لا تتصدر انتاج العطور وفيها أهم مشاتل الورود الشامية التي تستوردها الدول المصنعة للعطر؟ لماذا لا يتم تشجير سلسلة جبال قاسيون الجرداء بالزيتون البعل ويمتد ذلك إلى القلمون بأشجار تناسب الطقس؟ هل صحيح أن توزيع أراض مخصصة للمشاريع الصغيرة يحتاج إلى معجزة؟ ما نودّ قوله إن خط الدفاع عن الأمن الغذائي هو الأساس في بناء الصناعات الأخرى ومن دون الأمن الغذائي فإن كل مقولات الاستقلال الاقتصادي والسياسي تبقى مجرد أوهام.

اعتماد حرب العصابات في الاقتصاد، أي المشاريع الصغيرة، يحتّم اعتماد الانتاج الزراعي كقاعدة للانتاج الصناعي والتكنولوجي والعسكري، فهو القادر على ضمان الأمن الغذائي، وهو المجال الحيوي الذي يمكن أن ينشط به الشعب نظرًا للبيئة المناسبة وتوفر المياه ومجموعة الخبرات الكبيرة لدى السكان في عملية الانتاج الزراعي والحيواني على مر التاريخ. أما في الانتاج الصناعي المرتبط غالبًا باستيراد الآلات والمواد الأولية من الخارج، فإن التعطيل يصبح سهلاً أمام العدو، سواء بالقصف أم بالحصار، وهذا لا يعني بالطبع الامتناع عن الانتاج الصناعي الذي لابد أن يغير استراتيجيته هو الآخر كي لا يبقى هدفًا سهلاً. ما نعرفه أن الصناعيين في حلب تمكنوا من صناعة كل شيء بحيث أمكن للخبرات هناك أن تستغني عن الاستيراد بشكل كبير، لكن المشكلة كانت دائمًا في عدم اكتمال الرؤيا الاستراتيجية والفساد الذي يقطع الطريق.

اليوم يبدو مشروع زراعة الصعتر الذي أطلقته “إعادة البناء” في منطقة القاع، خطوة أولى على طريق الاستراتيجية الصحيحة المقصودة هنا والتي يمكن أن تطبق في مختلف المناطق السورية لتصبح نهجًا معتمدًا من قبل جميع المؤسسات الرسمية والحزبية والاجتماعية. لنتخيل أن تقرير برنامج الغذاء العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، يقول إن نحو 12.4 مليون مواطن سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بزيادة قدرها 4.5 مليون عن العام الماضي! هذا كله يحدث في أرض خصبة يمكن أن تُطعم العالم لو أُحسن استثمارها بالشكل الأمثل.

عام 1948 قال سعاده في الندوة الثقافية: “إني أرى أنّ غير المنتج لا يمكن أن يعامل معاملة المنتج ويأخذ نصيبه من الإنتاج.” فما بالنا اليوم نرى المستهلكين وقد تحولوا إلى أسرابٍ من الجراد، يقضون على كل شيء؟