جوليات المير سعاده “إمرأة في مهب رياح سورية الكبرى”- د فاتن المر
لا يمكن أن تقرا كتاب ريجينا صنيفر من دون أن يعتريك ذلك الدوار والشعور بالضيق والاختناق الذي يصيبك في كل مرة تقرأ فيها عن المصاعب التي كابدها أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، منذ أخذ قرار رهن حياته لتحقيق رؤية جديدة لأمته. تراه مع ريجينا صنيفر، في مغتربه القسري، يوزع المطبوعات على دراجته، ينهض في منتصف الليل ليزيل الماء الذي تسرب إلى المطبعة، يساعد زوجته المنهكة في الاهتمام بطفلتيهما، ويحاول التعويض عن الأزمات المالية التي تحل بهما من جراء طمع هذا أو ذاك ممن وضع ثقته فيهم، تتابع بمزيج من الحزن والغضب قصة الملاحقات والخيانات والخذلان بعد عودته إلى الوطن. تسير معه على درب الثورة، ثم المحكمة، ثم الإعدام. تتماهى مع جوليات المير سعاده، الزوجة الشابة التي لم تتأفف يوماً وعملت نهاراً وليلاً لمساندة هذا الزوج الذي أحبته وآمنت بفكره، تشاركها قلقها وألمها. تشاركها مأساتها عندما تعلن لها الراهبة في دير صيدنايا موت زوجها، تشاركها الحداد والخوف على بناتها الثلاثة، ثم تدخل معها في غياهب السجن، تود لو تخفف عنها… لم تسمح لها حياتها السابقة بأن تتحضر لكل هذا العذاب، وحيدة، خائفة، محاصرة بالظنون، مريضة، تحترق اشتياقاً إلى الزوج الذي رحل وبناتها البعيدات… امرأة ضعيفة، منسية في زنزانتها وسط الانقلابات والتحولات السياسية الكبرى، منسية تسع سنوات، مع ألم الخيبة المتكررة إذ تأمل في كل مرة، أن يطلق سراحها، وتنقلب الظروف عليها وتبقى سجينة.
تربط صنيفر حياة جوليات وأنطون سعاده بالأحداث الوطنية والعالمية بالتطورات السياسية شارحة تأثيرها على حياة هتين الشخصيتين وتفاعل سعاده معها: الحرب العالمية الثانية، الاتفاقات الدولية، السياسات والمصالح الدولية والداخلية، النفط، هجرة اليهود… ترسم الكاتبة بتأنّ المشهد التاريخي لتكتمل السيرة الشخصية لجوليات المير وتصبح أقرب إلى فهم قارئ فرنكوفوني لم ير يوماً أحداث المنطقة من هذا المنظور. أحداث الكتاب مستوحاة من مذكرات جوليات المير سعاده، الامينة الأولى، تسردها صنيفر بسلاسلة من دون أن ترهق الشروح التاريخية والفكرية النص الذي يتمحور حول بطلتها وزوجها. ويتخلل السرد الموضوعي، من وقت إلى آخر، ملاحظات تشير إلى رأي الكاتبة وتحليلها الأحداث. فتبدي إعجابها بقدرة سعاده الهائلة على العمل الدؤوب، قراءة وكتابة واجتماعات وتحصيلا للرزق، ولجوئه الدائم إلى العقل والمنطق في النقاش والشرح.
تصف صنيفر سعاده بقولها: “في الحقيقة هذا الرجل ليس مراوغاً، ولا سياسياً، إنه مفكر، مُنَظِّر، قائد وجد ليؤثر، ليكون له فعل في الواقع. أنطون سعاده يؤثر المعرفة والعلم على ممارسة السلطة المطلقة.” أو تشير إلى أن جوليات دخلت حياته “كمن يدخل في سلك الكهنوت”. وقد تظهر الكاتبة نفحة شعرية مؤثرة في وصف شخصيتيها وسرد مجريات حياتهما، كأن تشير إلى نبع عين القسيس في الشوير وتلجأ إلى استعارة بليغة تشبه مسار سعاده وسط الأزمات بمن يسبح عكس التيار، صعوداً، حتى يلاقي ذلك النبع في الأرض- الأم. وعندما تتحدث عن النظرة الأخيرة التي تلقيها جوليات سعاده على بلادها قبل رحيلها عنها، تقول: “في ذلك اليوم، غادرت جوليات سورية التي أحبتها أكثر من نفسها، وهي ممزقة. غرسوا في أعماق هذه الأرض فيروساً اسمه الطائفية. يأكلها من الداخل. أنهكوا أرضها ولوثوا جذورها بالذهب الأسود. حرفوا وجدان سكانها، سرقوهم من نفسهم ومن تاريخهم وجغرافيتهم. خطوطها الحديدية متسخة، أنهارها ملوثة وجافة، جسورها غزتها الأعشاب البرية ومدنها انغلقت على نفسها. تغادر جوليات هذه الأرض حيث دفن أنطون سعاده في أحد أرجائها، زعيمها، زوجها، حبيبها.”
وغالباً ما تلجأ الكاتبة إلى تقنية سرد تهدف إلى تشويق القارئ وهي الاستباق، أي إعلان مسبق عما سيأتي في الرواية. فمثلاً، بعد أن تروي واحدة من الأزمات التي تعرض لها سعاده وزوجته في المهجر، تشير: “هذه الخلافات والمصاعب ليست مهمة مقارنة بالعواصف التي سيتخبط وسطها الزوجان الشابان”
كما يتجلى شعور الكاتبة وتأثرها بمسار حياة وفكر الزعيم في مواقع عدة من الكتاب، بشكل خاص حين تسأل، بعد أن تروي فصول اغتياله: “هل هي نهاية فصل أم بداية آخر؟ هل نجحوا باغتياله في إسكات صوته وإبعاد ذكرى مشروعه؟” وتجيب: “بدأ كل شيء وسط الصمت الذي تلى موته. كتاباته لم تدفن في تابوته البائس ولا في مقبرة النسيان. هي ما زالت حية، ترسم طريقها لتعود وتظهر وسط أحداث هذا المشرق الممزق”
هكذا ترفرف روح سعاده فوق أفكار مفكرين كثر آثروا أن يلقوا على حياته وفكره نظرة صافية، بعيدة عن الأحكام المسبقة، فغدوا تلك الأجيال التي خاطبها قبل أن تولد، كتاب وباحثون مستقلون، أزهرت فيهم القيم التي نادى بها ومست قلوبهم المأساة التي وسمت مصيره… هو باق ما بقيت هذه الارض وما بقي الفكر.
في المقدمة التي كتبها للكتاب، يذكر المفكر جورج قرم أنه نصح صنيفر بقراءة مذكرات جوليات المير سعاده وأن الدكتورة صفية سعاده أهدتها الكتاب، فكان اللقاء الذي أدى إلى افتتانها بشخصيتي سعاده وجوليات، وإعحابها بصراعهما وإيمانهما، مؤكداً أن في هذه السيرة ما ينصف المرأة ودورها في نهضة المجتمع. أما مقدمة الكاتبة فتشير إلى أن نجاحها في التخلص من وصاية الطائفية سمح لها بإلقاء نظرة جديدة على تجربة سعاده مستعينة بكلمات زوجته الصادقة والمؤثرة، فرأت أنه من الضروري في الوقت الحالي، إعادة تحويل فكر سعاده إلى ورشة عمل ونقاش في مواجهة القناعات القاتلة حتى لا نقع في مأساة “سايكس بيكو” جديد.
وننهي قراءتنا من حيث بدأت الكاتبة: “يا لهذا المصير! مصير الزوجين سعاده يشبه مأساة سورية الكبرى! شخصيتان، شخصية جوليات المير سعاده المنسية من التاريخ وشخصية سعاده التي يسعون بجهد لمحوها من ذاكرتنا. الإثنان يستحقان مصيراً أفضل.”