جان سيباستيان باخ … الألماني العنيد! – محمد الحصني
أخطأ نيتشه، في كتابه هذا هو الإنسان، وهو يهوي بمطرقته على نتاج الفلسفة والموسيقا
الألمانية، واصفاً الشعب الألماني بكل ما هو معاكس للإبداع والفن: “إن كبار الموسيقيين الألمان بالتحديد هم أجانب: سلافيون وكرواتيون وايطاليون وهولنديون أو في حالات أخرى ألمان من الجنس العنيد الذي اضمحل من أمثال باخ وهاندل وشوتز”.
أخطأ نيتشه لأن باخ يعود بأصوله إلى مورافيا وهي جزء من تشيكوسلوفاكيا الحالية التي هرب منها جده الطحان عازف العود فايت باخ إلى ألمانيا، واستقر في فيمار. وإذا وضعنا أهواء مطرقة نيتشه عن الثقافة الألمانية، لماذا وصف نيتشه مواطنه الألماني باخ بأنه من الجنس الألماني العنيد والذي اضمحل؟
عائلة باخ العنيدة:
تعتبر سلالة أجداد باخ وأحفاده أكبر سلالة موسيقية في تاريخ الإنسانية بدون منازع، فللأسرة التي تعود بجذورها إلى عام 1560م، وتمتد إلى آخر فرع ينتهي في عام 1871م تقليدان تم الحفاظ عليهما بحرص؛ التقليد الأول: العمل في الموسيقا وعزف الآرغن والكمان، والتقليد الثاني هو الزواج المبكر، و(مرتان في حال موت الزوجة الأولى)، وإنجاب الكثير من الأولاد. فصاحبنا باخ كان الثامن بين عشرين أخ، وأنجب بدوره عشرين ولداً. أصاب آل باخ من التعدد والانتشار في الموسيقا بحيث أصبح واجباً تمييز رؤوس العائلة الموسيقية بدلالة الجغرافيا، فهناك باخ ميلانو وباخ لندن وباخ برلين، وباخ مدينة هاك.
كانت فرنسا وقتها تستعرض جماليتها القومية في المسرح الغنائي وموسيقا الحجرة وكانت ألمانيا، وبدون ضجيج، يقودها خمسة عمالقة نحو سيادتها الموسيقية الخاصة. ومن هؤلاء الخمسة كان جان سيباستيان باخ ممثلاً عائلته في ألمانيا التي كانت تحيا ذلك الزمن بين موسيقا الشمال الألماني القاسية والجافة وموسيقا الجنوب الألماني الطليانية الهوى.
العنيد جان سيبستيان باخ 12 آذار 1685-28 تموز 1750م
تيتم باخ في التاسعة بوفاة أمه، فتعهده أخوه الأكبر يوهان كريستوف (عازف الأرغن في بلدة أوردروف) لأن والده تزوج قبل مرور عام على وفاة زوجته.
كانت حياة باخ النقيض لكل ما نعرفه عن حياة الموسيقيين! فبينما تنقل الموسيقيون من بلد إلى آخر وراء الشهرة أو زيادة معرفتهم والخبرة لم يخرج صاحبنا من ألمانيا أبداً! لم يفكر حتى بلقاء ابن جلدته هاندل (الأكبر منه بـ ثلاثة اسابيع) الذي كان يبني مجده الموسيقي في انكلترا، من يستطيع تخيل المنافع من لقاء الكبيرين باخ وهاندل؟
لم يتضور باخ جوعاً، ولم يعان القسوة والحرمان على العكس من موسيقيي عصره ولاحقيه. لم يذق باخ طعم المجد والنصر فهو لم يبحث عنهما، ولم يلتفت إلى نشوة التصفيق. لا يوجد في تاريخ باخ رسائل عاطفية أو علاقة نسائية غامضة حاول إخفاءها. فهو ببساطة القروي المحترم وعازف الأرغن المتدين والمحتشم السيد باخ والأب المهتم بعائلته.
رغم ندرة الموسيقيين الألمان الذين اتصفت حياتهم بالسعادة فقد كان باخ منهم، فعناوين أعمال من طبيعة (بين الدموع والأحزان) سوناتا التشيلو لبيتهوفن لم تعرفها أعمال باخ، لا بل أن موسيقا باخ بكاملها تخلو من التوتر أو السوداوية أو الشكوى من آلام الحياة، ثمة رضا ورصانة وتعقيد مريح يطبع أعماله بكاملها، وثمة من ينبه إلى أن التنفيس عن آلام الحياة في موسيقا ذلك العصر كان يقدم في إطار الأعمال الدينية ومن خلال الشكوى المسيحية الأزلية من تعاسة الحياة. وهذا كان أمراً مستساغاً في نظر مجتمع ذلك العصر.
لم يتلقَ باخ تعليماً أكاديمياً رغم حصوله عام 1702م على الشهادة التي تؤهله لدخول الجامعة. كان نبلاء ألمانيا في عصره متحمسين للمدرسة الفرنسية في الموسيقا، ولا ينظرون بعين الاعتبار إلى المدرسة الألمانية الناشئة بالإضافة إلى نظرة المجتمع التي لا تحترم الموسيقي المحترف لعلاقته بسيده الإقطاعي وباعتباره خًادماً، وهو نمط من التبعية التي كلفت باخ السجن! فعندما سعى إلى ترك الخدمة في بلاط فيمار 1717م وألح على تقديم استقالته سجن لمدة شهر وطرد بعدها، دونت وقائعها في وثائق البلاط، وينقلها بالحرف مارتن جك في كتابه يوهان سباستيان باخ على الشكل التالي: “ألقي القبض على عازف الأرغن في البلاط وعازف الأوركسترا الأول الأسبق باخ في 6 فبراير بسبب إصراره على طلب ترك الخدمة. كما وقعت عليه عقوبة الحبس، وأودع في غرفة قاضي القرية. وفي الثاني من ديسمبر تم إبلاغه بقرار فصله من عمله مذموماً ومدحوراً بواسطة سكرتير البلاط، ثم أخلي سبيله)
طبيعة رحلات باخ وراء تعلم الموسيقا:
لا يصح تسميتها برحلات لأنها اقتصرت على دراسة أعمال عظماء عصره مثل فيفالدي أو يوهان باشيلبيل. أما جانب الرحلات فقد استمع في مدينة لونبيرغ إلى عازف الارغن المتميز بويم، ثم سافر إلى هامبورغ ليستمع إلى عازفها المحنك والعجوز رانيكن. لكم أن تتخيلوه طالبا فقيراً يقطع مسافة الثلاثين ميلاً على الأقدام. ثم نحو سيلل ليقطع مسافة ستين ميلاً حيث استمع إلى موسيقا فرقة البلاط المؤلفة من عازفين فرنسيين، تعزف موسيقا خفيفة وبراقة تختلف عن أسلوب مؤلفي الارغن الألمان ذي الطابع القاسي التي عرفها لدى بطله بويم او باشيلبيل أو بوكستيهود أو شوتز.
ذهب ليزور أحد أبطاله؛ العازف الشهير العجوز بوكستيهود في مدينة لوبيك. كان باخ يتطلع إلى أن يخلف بوكستيهود في منصبه، وكانت وراثة هذا المنصب تقتضي أن يتزوج باخ إحدى بنات بوكستيهود، ويبدو أن العرض لم يكن مشجعاً.
العنيد باخ في خدمة الكنيسة والملوك:
عندما كان باخ في طور الشباب كانت بلاده قد خرجت توّاً من حرب الثلاثين عام بين الإنكليز والنمساويين والإسبان، وكانت ألمانيا تنوء تحت وطأة الانقسامات بين أربعمئة دويلة يحكمها الأمراء والمطارنة والملوك.
تنقل باخ بين هذه المدن واستلم فيها أدواراً من مغني كورس إلى عازف كمان وأرغن حتى أسندت إليه في الثامنة عشر مهمة عازف ارغن وقائد كورس كنيسة في آرنشتادت بمرتب 8 جنيهات سنوياً مما يكفيه أن يسد رمقه ويشتري بعض المدونات الموسيقية. تعرض باخ فيها للانتقاد لتجربته أساليب مختلفة للموسيقا الدينية على الارغن ولإصراره على مرافقة ابنة عمه ماريا باخ في كورس الكنيسة، حيث كان العنصر النسائي ممنوعاً في ذلك العصر من الغناء في الكنيسة.
انتقل باخ إلى ميلهاوزن وعمل في كنيستها بذات مرتب سلفه ولكن بزيادة في الشعير والحطب! وفيها تزوج باخ من ابنة عمه (التي أزعج وجودها محافظي مدينة آرنشتادت) وكانت تكبره بستة أشهر وهي الزوجة التي أعطته أربعة اطفال من أصل سبعة حملت بهم.
انتقل باخ بعدها إلى بلاط ساكس فايمر وعمل فيه كعازف ارغن ومساعد قائد اوركسترا بضعف المبلغ الذي حصل عليه في ملهاوزن وهناك تعرض للسجن الذي تحدثنا عنه.
انتقل باخ 1717م إلى مدينة كوتن وحصل فيها على منصب قائد اوركسترا وموسيقي حجرة البلاط وبقي فيها حتى عام 1723م، ونحن ندين لفترة كوتن بأجمل أعمال باخ مثل كونشرتات براندنبورغ التي أهداها إلى أمير براندنبورغ (الذي كان يوصف بأنه مجنون بقالب الكونشيرتو) مع مجاملة مغرقة بروح إقطاع ذلك العصر، حيث كتب بالفرنسية كما ينقلها عماد مصطفى في كتابه أصداء أورفيوس (لا توجد في أعماق قلبي رغبة أكبر من أن أحظى بتقديم أعمال لكم، ولخدمتكم. إنني المغمور بعطفكم يا سيدي أتقدم إلى سموكم الملكية بكل فروض الولاء والتبجيل) تقاضى باخ خمسة بنسات عن كل كونشيرتو! كان زواجه من آنا مجدالينا في كوتن عام 1721م (بعد وفاة زوجته ماريا عام 1720م) وهي ابنة عازف بوق. أنجبت آنا 13 طفلاً ما بين 1729-1742م.
تحدي مدينة لايبزغ:
انتقل باخ بعدها إلى مدينة لابيزغ التي وصفها جوته بعده بسنوات أنها باريس الصغرى. اجتمع مجلس المدينة في أبريل من عام 1723م ونظر في أسماء المرشحين لوظيفة رئيس منشدي كنيسة القديس توماس، وكان اسم باخ بينهم، فقال مستشار محكمة المدينة كما سجلت الوثائق: علينا ان نقنع بمحدودي الكفاءة ما دمنا قد فشلنا في اجتذاب الأفذاذ!
كانت لايبزغ تعرف صعوداً فنياً وأدبياً يتصارع فيه وجه ديني بروتستانتي يمثله النبلاء والكنيسة ووجه دنيوي يمثله برجوازيو المدينة التي يحكمها اصلاً أمير كاثوليكي! كانت لايبزغ بتياراتها هذه تحدياً لباخ، فقد اختير على أساس أنه أحد المحافظين موسيقياً. وكان الطلب واضحاً في عدم المبالغة في استخدام الأسلوب الأوبرالي والمسرحي عند التأليف، وهو ما اعتبره باخ لا ينطبق على شخصه لأن ما يطلبونه هو عينه روح عصر الباروك المبتذل.
كانت اللعبة التي حاكها أنصار التجديد في المدينة هي
في اختصار أسماء المرشحين إلى أربعة بينها اسم باخ وجورج فيليب تيليمان الذي قدم عرض له في هامبورغ بزيادة في الراتب فاعتذر لمجلس مدينة لايبزغ، أما الاثنان الآخران فقد اعتذرا عندما رفض البلاط الذي يعملان فيه مغادرتهما إلى لايبزغ، فبقي باخ المرشح الوحيد.
يختصر اختبار التعيين الذي قدمه باخ في كنيسة القديس توماس روح باخ المتحدي، حيث قدم مقطوعتين كانتاتا “يسوع ضمنا إليه” ولا تشتمل على أي غريب على محافظي لايبزع، ثم كانتاتا “أيها الإنسان وابن داود” وأغرقها بكل ما يعتبر مروقاً في ذلك العصر.
كتب باخ في مدينة لايبزغ، بالإضافة إلى الأعمال الدينية أعمالاً تتناول حياة الناس اليومية البسيطة “كانتاتا الفلاحين” ونص اسطورة ألفه (صراع بان وفيبوس) لمثقفي المدينة والجامعة وهما إله الرعي والمراعي وإله الموسيقا والشعر، فظهر بهذه الأعمال وغيرها شخصاً بعيدا عن إدارة ظهره للدنيا.
بقي باخ في لايبزغ حتى وفاته 28 يوليو 1750م عن عمر ستة وستين عاماً بعد عمليتي عيون فاشلتين قام بهما دجال انكليزي يدعى جون تيلور، ولنا أن نتخيل عمليتين أجريتا قبل اختراع المخدر!
الموسيقا مع الألماني العنيد باخ:
كتب الكثير عن مميزات موسيقا باخ في عصره، وكيف كانت جهوده مقدمة لنهاية عصر بكامله (الباروك)، حيث أوصله إلى ذروته، ومقدمة لعصر جديد (الموسيقا الكلاسيكية) مع هايدن وموتزارت وبيتهوفن، لا بل إن بعضهم اعتبره مقدمة للعصر الرومنتيكي مع برامز وشوبارت وشومان.
كانت أعمال الأرغن في ألمانيا مقسمة بشكل اقليمي، بين ارغن الشمال وارغن الجنوب، فكانت أعمال باخ على الأرغن نهاية لهذا التقسيم. كما أن مجموعته التي أطلق باخ عليها اسم (ثمان وأربعون بريلود للكلافير المعدل تعديلا جيداً) قدمت لكل راغب في عزف مقطوعاته على آلة الكلافير القديمة (البيانو) تعديلاً جديداً للكلافير لتصبح جميع النغمات متماثلة ومريحة بعذوبتها، وإن لم تكن الموازنة دقيقة حسابياً، لكنها كانت طريقة باخ المبتكرة لحث الناس على ضبط آلاتهم في عصر كان يشكو في هذه النقطة.
إن مقارنة رصيد باخ في الكونشيرتو مع رصيد فيفالدي “ملك الكونشيرتو في عصر الباروك” يظهر الفارق بينهما، حيث ألف فيفالدي اكثر من 200 كونشيرتو، بينما كان باخ مقلّاً
جداً. لم يكن باخ يقدم على التدوين إلا بعد التمحيص الطويل، فيدرس حلول فيفالدي السهلة شكلاً، ولكنه لا يستخدمها أبداً، وهو ما يناسب شخصية باخ في التأليف، فأعمال باخ كانت دائما قيد الدراسة والتعديل الذي يستمر على مدى سنين. فلا نعلم هل كان تجنب باخ لطابع فيفالدي مرده الحرص على تقديم الذوق الألماني الذي يعتمد على تعدد الألوان أكثر من الاعتماد على الأناقة؟ أم أنه يضع المعايير البعيدة عن الحذلقة ليبرز حضور ألمانيا في الكونشيرتو الأوربي؟ وهو ما استرشد به جيل هايدن وموتزارت وبيتهوفن فيما بعد!
وصف بعضهم هذا الاسلوب أنه ارتداد إلى العصور الوسطى في البحث عن الأصالة، ووصفه بعضهم الآخر أنه قفزة إلى جيل بيتهوفن، ولكل منظوره وكلاهما صحيح لأن أسلوب باخ في التأليف مغاير لزمانه.
إذا ساقك قدرٌ غامض إلى زيارة باخ، سيكرم وفادتك بمائدة تجتمع عليها أسرة كبيرة العدد، ثم يستعرض المخطوطات التي تتعلق بتعليم قوالب زمانه وقد كتبها لكل ولد من أولاده تقريباً ليرشدهم إلى أسرار هذا القالب. ثم حول الموقد سيقرر أب الأسرة أن يقدم لك مقطوعة يعزفها الجميع وبمرافقه أبنائه
وصوت زوجته الجميل، وقد يغتبط فيك إلى حد يسمعك فيه بعض ألعابه الموسيقية المركبة والتي تبوح بصوفية خاصة للمثابر ورب الأسرة باخ.