“ثبُتّ مكاني ولم أهرب” قراءة في سيرة سحر خليفة الذاتية “روايتي لروايتي”

image_pdfimage_print

د فاتن المر

تمثل أمام ناظريّ حين أقرأ كلماتها، برشاقتها ومرحها وتفاؤلها واجتهادها وجديتها، أراها تقفز أمامي فوق الصخور في الطريق الوعر المؤدي إلى نبع “دينة الجرّة” حيث كان أنطون سعاده يختبئ من مطارديه ويلتقي بحبيبته، وهي في أواخر الستينيات من عمرها، نشيطة كمراهقة، مفعمة بالإيمان، متحمسة لاستكشاف كل زاوية من زوايا شخصيته وحياته التي ستضعها فيما بعد بين دفتيّ رواية “أرض وسماء”. أسمعها تشيد به في لقاء في إحدى الجامعات اللبنانية وتعجب من الصمت الذي قوبلت به عبارتها: “كيف تجرأ اللبنانيون على النظر في المرآة بعد أن حكموا بالإعدام على واحد من أهم مفكري وقادة هذا العصر؟” أطأطئ رأسي حين أتذكر سؤالها: “أمن المعقول أن لا يكون هناك متحف لسعاده”؟

 

سحر خليفة، لقائي بها أحفظه مع أجمل الذكريات وأكثرها تأثيراً في حياتي.

 

 

أسلوبها يشبهها، وصراحتها، صراحة الأديبة التي تحوّل كل تجربة شخصية إلى درس يفيد منه قراؤها هي عنوان كتابها الذي ربطت فيه، بأسلوب مبتكر، بين سيرتها الذاتية وقصة كتابة رواياتها ونشرها، بالإضافة إلى ردود الفعل لدى القراء والنقاد. هي ليست مجرد مذكرات تختم بها مسيرتها الأدبية، هي درس آخر تقدمه إلى قرائها، فيه خلاصة تجاربها ونظرتها إلى الحياة وإلى مشاكل المجتمع وتفكير عميق في مسببات الأزمات وسبل الخروج منها. هي ثورة أخرى، تضمها إلى سجل  ثوراتها، في مجتمع لا يحب الإفصاح عن الخصوصيات العائلية، وما يسمى ب “نشر الغسيل”… أذكر أنني، حين بدأت أبحث عن معلومات عنها عبر الإنترنت لدراسةٍ كنت أقوم بها، فوجئت إذ قرأت في كل المقالات التي تلخص سيرتها، عن وضعها العائلي أنها مطلقة، وتساءلت عن سبب إقحام هذه المسألة الشخصية في سيرتها الأدبية. وحين التقيت بها، طرحت عليها السؤال ظانة أن جوابها سيكون اتهام كتاب تلك المقالات بالتخلف. ولكنها أجابتني: “أنا من يطلب منهم كتابة هذا التفصيل، إذ أنني أريد أن أقدم درساً لكل امرأة تجد نفسها عالقة في زواج يكبلها ويكاد يخنقها.”

في “روايتي لروايتي” تبدأ منذ طفولتها، وهي واحدة من ثماني بنات استُقبلن بالوجوم والكدر بسبب جنسهن الذي كان سبباً في إطلاق لقب “أم البنات” المشين على الوالدة المنكوبة التي لم تفلح في دفع العار عنها إلا بعد الولادة التاسعة حين أقبل المخلص المنتظر، المولود الذكر. تكتب: “تعلمت في هذا الجو معنى وجودي وقيمتي في هذا العالم، تعلمت أنني من جنس قليل القيمة، عديم النفع، لا يستحق إلا الرثاء.” ولعل ما ينقذها في تلك المرحلة من حياتها هو لجوؤها إلى القراءة والكتابة والرسم هرباً من واقعها. ولكن الصبية بقيت تشكل مصدر قلق لوالديها بسبب تمردها، فما كان منهما إلا أن قاما بزجها في زواج مبكر من رجل لم تتأخر في اكتشاف نواقصه، ومن أخطرها الإدمان على القمار واللجوء إلى العنف حين لا يفلح في إسكات زوجته وايجاد المسوغات لتصرفاته. صبرت الزوجة الكئيبة قرابة ثلاث عشرة سنة، خوفاً على ابنتيها، وخشية من مجتمع لم يزده الاحتلال إلا قسوة وتحاملاً على أضعف أعضائه. ولكن الكتابة أنقذتها مرة أخرى، الكتابة والعمل الذي أدى إلى استقلالها المادي. حصلت على الطلاق وانتسبت إلى جامعة بيرزيت حيث عملت وتابعت دراستها في علم الاجتماع وحصلت على منحة من إحدى الجامعات الاميركية، فسافرت وأنهت العمل على أطروحتها هناك وعادت وبحوزتها شهادة الدكتوراه. تكتب: “تعلمت الا أتكل على أحد، ولا اتوقع النجدة من أحد، وأن أصارع الأمواج بقدراتي، قدراتي أنا، وما وهبني الله من عقل وصبر ومواهب، ولا أنظر إلى الخلف، بل إلى الأمام، بلا تردد، وباندفاع مقاتل لا يخشى العطب”.

إن السمة الغالبة لحياة سحر خليفة هي النضال، النضال النسوي لتحرير المرأة من قيودها وبالتالي تحرير المجتمع، والنضال الوطني ضد الاحتلال. ذلك النضال الذي جسّدته بحياتها وبكتبها تمثل في سعيها إلى البحث عن جذور الهزائم التي أصابتنا، كأنها بذلك تجيب عن سؤال المفكر الذي ستكن له إعجاباً جماً حين ستكتشف كتاباته: “ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟” تبحث في التركيبة النفسية والاجتماعية للحصول على أجوبة، كتلك التي وصلت إليها بعد تجربة أيام الاحتلال الأولى في نابلس: “أكتشفت أننا شعب مهذار كثير الكلام، قليل الفعل، سقيم التفكير، عديم التنظيم…”

ولكن تلك الاكتشافات والمعوقات العديدة لا تنجح في إضعاف عزم سحر خليفة المشاكسة التي تخوض التجارب، تصطدم بالجدران، ولكنها تعود إلى الوقوف، تراجع خياراتها وتمضي في معركتها. الكاتبة التي رفضت جائزة سيمون دي بوفوار التي أرادوا أن تتقاسمها مع كاتبة إسرائيلية لم تروضها الأيام، وسيرتها التي أودعت الجزء الأول منها في “روايتي لروايتي” أنشودة حب للحياة، تلك التي يختارها المرء لنفسه ويقاتل العالم من أجلها. تقول في حفل تكريم أقيم لها:

“صمدت، وما تراجعت، وبقيت أحفر في التربة حتى أرسخ قدميّ في أرض لي، هي من حقي وحق بناتي، وأزرع بذوراً تنمو في الأرض وتتفتح وتعلو على الضعف. وما جبنت، ولا اختبأت، ولا تقوقعت، بل بذلت الجهد، وساهمت في الثورة والتثوير

 

 

[1]  دار الآداب، 2018

في هذا العددالقراءة “الذكية” !! “بكل إخلاص وعزيمة صادقة” – نجيب نصير >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments