1

تعايش 2

بين الثالث والخامس من شهر شباط 2019 وخلال زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس الى أبو ظبي، تم لقاء وحوار مع شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب نتج عنه وثيقة سميت “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”. وفي 14 من نيسان الحالي نظم تيار المردة – سدني محاضرة قيمة جداً للدكتور عماد برو ناقش فيها تلك الوثيقة وقدم إضاءة معمقة وموفقة جداً لقيمتها المعنوية والعملية والقانونية. تلت المحاضرة مداخلات عديدة متنوعة ومختلفة من الحاضرين وبينهم نخبة من الأساتذة المثقفين المهتمين بالشأن العام. فيما يلي مداخلة شحادي الغاوي في الموضوع

أولاً:  لا يسع أي إنسان فرد متمدن ومتحضر وعنده حد أدنى من الشعور الإنساني إلا أن يقبل ويوافق على هذه الوثيقة التي تتضمن دعوة الى ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر والقبول به ورفض الإرهاب والظلم والتمييز والتعصب، والعمل من أجل السلام والأمن والحرية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والمسنين…الخ. ولكن لا يسعنا إلا القول إن البشر، ومنذ آلاف السنين، كانوا قد توصلوا الى إدراك هذه القيم، وإن العقل الانساني ميز بين الخير والشر منذ زمن بعيد، قبل أن يرسل الله له مسيحاً أو رسولاً. فقد كُتب على واجهة أحد معابد تدمر منذ ألفين وخمسمئة سنة جملة باللغة الآرامية التدمرية جملة تقول “لا تشتم الهاً لا تعبده”، فكم بالحري إذا كنت وإياه تعبدان الهاً واحداً ولا تختلفان إلا بطريقة النظر إليه؟ كما وأن أكثر من نصف البشرية توصل اليوم الى إدراك ما تضمنته الوثيقة دون الحاجة في ذلك إلى بابا ولا إلى شيخ أزهر. إن قداسة البابا وسماحة الشيخ الطيب قد تأخرا جداً في حوارهما بعد ألف وخمسمئة سنة من وجود المسيحية والمحمدية معاً في التاريخ، وهما لم يتوصلا الى شيء جديد غير معروف سابقاً، وأن الأدبيات العمومية التي ضمناها لوثيقتهما تتناقلها ألسنة تلاميذ المدارس عندنا ويعملون عليها في فروضهم المدرسية كل يوم.

 

شيخ الأزهر والبابا بعد التوقيع على الوثيقة

شيخ الأزهر والبابا بعد التوقيع على الوثيقة

ثانياً:  أما وعن لقاء البابا وشيخ الازهر، فإن الناس أملوا لقاءهما في اليمن أو في غزة أو في دمشق حيث المعاناة من الإرهاب والظلم والتعصب والحروب والحصار والتجويع، وليس في أبو ظبي، في كنف حكومة تبذل مالاً لدعم الإرهاب وتساهم في حرب اليمن، وحيث النفوذ الاميركي الداعم للإرهاب ومموله ومديره ومستثمره. أما وأن يلتقي البابا وشيخ الأزهر ليتحاوران ويتوصلان أخيراً الى وثيقة تدين التعصب والإرهاب والظلم والحروب وعدم الاعتراف بالآخر، فإن الناس كانوا يأملون منهما أن يبحثا في الأمور التي تفرق بين الناس وتمنعهم من “التعايش” بين بعضهم، وليس فقط في الأمور العامة البديهية المعروفة من جميع الناس المتمدنين المتحضرين.

لقد أمَل الناس وانتظروا من البابا أن يطلب من شيخ الأزهر أن يتخذ موقفاً واضحاً وعلنياً من مسألة تكفير المحمديين للمسيحيين: هل المسيحي مشرك وكافر كما هو جاري على ألسنة أغلب المشايخ ورجال الدين المحمديين، أم لا ؟ وإذا كان الشيخ الطيب يؤمن فعلاً “بالتعايش” وبالسلم وبالاعتراف بالآخر والقبول به، ويؤمن بمحاربة الإرهاب والتعصب والتفرقة، ويعمل فعلاً بمفهوم المواطنة حسب ما تدعو اليه الوثيقة، فأضعف الإيمان أن يعلن بوضوح وصراحة وعلنية أن مفهوم المواطنة لا يتفق أبداً مع تكفير المواطنين بعضهم لبعض، وأن أول وأبسط خطوة يجب اتخاذها هي أن يوعز الشيخ الطيب إلى جميع رجال الدين المحمديين وأئمة المساجد أن يكفوا عن تكفير أبناء وطنهم الذين هم من غير دينهم أو مذهبهم، وأن يدعوا المؤمنين إلى نبذ التأويلات الفاسدة وألى تدبر القرآن الصحيح الذي جاء مصدقاً للرسالة المسيحية في آيات صريحة مثل : “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون” (العنكبوت) وغيرها الكثير. وإذا كان قد وجد في الجزيرة العربية من كفر من أهل الكتاب عندما أساء تأويل الانجيل، فإن الشيء نفسه قد حصل بين المسلمين حيث كفر من أساء منهم تأويل القرآن. ففي التاريخ الاسلامي حوادث كثيرة تتحدث عن الردة والمرتدين. وبديهي ألا يعني ذلك أن الردة الى الكفر قد شمل جميع المؤمنين بالانجيل أو بالقرآن.

وهكذا يجب تفسير الآية من سورة الحشر التي تقول: “هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم” وإن حوادث سوء تأويل بعض أهل الكتاب في الجزيرة العربية لكتابهم هي حوادث مثبتة في التاريخ، فقد وُجد منهم من قال بتثليث الآلهة (الآب والأبن والروح القدس) بدل القول بتثليث الصفات أو الأقانيم لإله واحد. ولهؤلاء، وليس لغيرهم، نزلت الآية: “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسّن الذين كفروا منهم عذاب أليم”(المائدة).

وكان الناس بالمقابل يأملون وينتظرون من الشيخ أحمد الطيب أن يطلب من البابا فرنسيس أن يتخذ موقفاً واضحاً وعلنياً من مسألة اعتراف الكنيسة، أو عدم اعترافها، بمحمد نبياً صحيحاً هدى الناس للإيمان بالله. هل المسلمون المحمديون مؤمنون بالله أم لا، هل دينهم صحيح أم لا؟ وإذا كان البابا يؤمن فعلاً “بالتعايش” وبالسلم وبالاعتراف بالآخر والقبول به ويؤمن بمحاربة الارهاب والتعصب والتفرقة ويعمل فعلاً بمفهوم المواطنة حسب ما تدعو إليه الوثيقة، فأضعف الايمان أن يعلن بوضوح وصراحة وعلنية أن مفهوم المواطنة لا يتفق ابداً مع تشكيك المواطنين بصحة دين وإيمان بعضهم البعض. وأن أول وأبسط خطوة يجب اتخاذها هي أن يوعز بابا روما الى جميع رجال الدين المسيحيين الواعظين في الكنائس أن يكفوا عن ادعاء احتكار معرفة الله والإيمان به وإنكار هذه المعرفة وهذا الايمان على غيرهم من أبناء وطنهم المسلمين

.

  إن الكنيسة الكاثوليكية قد برأت اليهود، منذ عدة  سنوات، من جريمة قتل المسيح، بالرغم من أن رؤساء اليهود وجمهورهم كانوا يهتفون، حسب ما يقوله لنا الانجيل “دمه علينا وعلى أولادنا من بعدنا”. فالكنيسة بذلك تكذّب النص الانجيلي نفسه وتقول أنها كانت مخطئة في إدانة اليهود وأن خطأها امتد طيلة الفي سنة! فلماذا لا تعترف الكنيسة بمحمد نبياً وبدينه ديناً سماوياً هدى ملايين البشر الى الله بعدما كانوا في ضلال مبين، وفي هذا الاعتراف لا يوجد تكذيب لأي نص إنجيلي².

إن الكنيسة الكاثوليكية قد اعترفت بنبوة جميع أنبياء اليهود، ومنهم لوط، واعترفت بكتاب اليهود كتاباً مقدساً، وذلك في مجمع الاسكندرية بعدما كانت تحرّم قراءته طيلة عهود طويلة ولا تعتبره مقدساً. أفلم يحن الوقت اليوم بعد ألف وخمسمئة سنة من وجود المحمدية وكتاب القرآن  لاعتراف الكنيسة الكاثوليكية به وبدينه ديناً حقيقياً ؟!

إن الوثيقة تحدثت كثيراً ومطولاً عن قيم المحبة والتسامح والاعتراف بالآخر والقبول به ودعت الى الأخذ بمفهوم المواطنية المتساوية ونبذ التعصب والتفرقة الخ…  لكن الموقّعان على هذه الوثيقة قد اكتفيا بهذه العموميات الأدبية، وأكاد أقول الشعرية، ولم يتخذا أي خطوة عملية لتحقيق شيء من محتواها وذهب كل منهما في طريقه… وكفى الله شر المؤمنين.

ثالثاً: إن الدعوة الى التعايش اليوم بعد ألف وخمسمئة سنة من وجود المسيحية والمحمدية معاً، يعني بكل وضوح أن حالة التناقض أو التقاتل أو التفرقة أو التباعد كانت هي السائدة طيلة هذه السنين الطويلة، وأن المسؤولين عنها هم رجال الدين أنفسهم الذين حوّلوا الدين من نعمة الى نقمة.

وأما التعايش يا سادة فهو ما يحقّر الانسان ولا يرفعه. إن التفاعل الاجتماعي والإتحاد في الحياة بكل مصالحها هو ما يميز الإنسان ويشرفه، وليس التعايش. إن التعايش هو مرحلة بدائية تخطاها الانسان المتمدن ليصل الى مرحلة التفاعل الانساني الذي يليق به ويشرفه. وهنا نريد أن نعترف بالجرأة والصراحة التي عبّر فيهما قداسة البابا وسماحة الشيخ عن الحقيقة الجارحة في وثيقتهما عندما أعلنا: “إن الارهاب البغيض الذي يهدد الناس ويلاحقهم بالفزع والرعب ليس نتاجاً للدين بل هو نتيجة لتراكمات المفاهيم الخاطئة لنصوص الأديان…وكذا تأويلات طائفة من رجالات الدين ممن وظف بعضهم الشعور الديني لدفع الناس للإتيان بما لا علاقة له بصحيح الدين من أجل تحقيق أهداف سياسية…واستخدام الدين لتبرير أعمال القتل والتشريد والارهاب والبطش والعنف والتطرف والتعصب الاعمى”

إن الاعتراف بمسؤولية طائفة من رجال الدين عن تبرير القتل والتشريد ونشر الارهاب والكراهية والعنف والتطرف والتعصب الاعمى، هو الشيء الجديد الوحيد في تلك الوثيقة. ولكن الناس يطلبون أكثر بكثير من مجرد هذا الاعتراف. إن الناس يطلبون تدابير عملية لتحمّل مسؤولية إزالة نتائج ما فعله رجال الدين، وأقل هذه التدابير المطلوبة هو منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء، وإزالة الحواجز الحقوقية السياسية والمدنية والنفسية بين مختلف الطوائف والمذاهب.

السلام على روح سعادة الذي قال: “إن الدين هو للإنسان وليس الإنسان للدين، وإن اقتتالنا في الأرض على السماء قد أفقدنا الأرض والسماء معاً”

شحادي الغاوي- سدني في 14-4-2019

.