ترجمة أنطون سعادة إلى الإنجليزية – رحلة في المجهول؟
االترجمة ليست غريبة عن تراث وتاريخ وحضارات سورية المتعاقبة على مر العصور، فقد شهد فن الترجمة، منذ بدأت الكتابة تغوص في بحور العلم والمعرفة وتسبر أغوارهما، مراحل عدة، وكان المترجمون الأوائل، المخضرمون بين العهود الذهبية الأولى للحضارة الآشورية، وامتداداً لعهود الإمبراطورية الرومانية، قلّة ممن سمحت لهم الظروف الحياتية السفر والتنقل بين أقطار نطق أهلها بلغات مختلفة، كل حسب طاقاته المادية ومدى قربه من أصحاب السلطة في البلدان والمجتمعات التي تواجدوا فيها. ويذهب البعض إلى الجزم بأن الترجمات الآرامية كانت أولى المخطوطات التي انتشرت في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت مدينة تدمر واحدة من أهم مراكز تلك الترجمات. وقد رافق المترجمون آنذاك الناسخين في حلهم وترحالهم، وفي كثير من الأحيان كان الناسخ هو المترجم نفسه. ولعل الترجمات الإغريقية والسريانية واللاتينية كانت الأولى من حيث الانتشار، إلى أن برزت العربية بأشكالها التي تلت الحضارات الآشورية والكنعانية والآرامية.
يقول الباحث الأكاديمي بيتر آدمسون إنه كان لمترجمي بلاد الرافدين الفضل الأكبر في نشر مؤلفات الفلاسفة الإغريق وغيرهم، ليس فقط في أوساط الناطقين بلغة الضاد، بل ظهرت أعمالهم بلغات متعددة. ويضيف آدمسون أن الترجمات كانت على مستوى راقٍ جداً من حيث الجودة والتعبير اللغوي والفني لدرجة أن “قرّاء العربية في بغداد كانوا على اطلاع على أعمال أرسطو بما يعادل اطلاع قرّاء الإنجليزية عليها في يومنا هذا”.
نسوق هذه المقدمة لنطلع القارئ على أهمية الترجمات في نشر الفكر والعلم والمعرفة، سابقاً وحاضراً ومستقبلاً. ولعل أبرز ما يعيرنا به أبناء البلدان والأمم التي هاجرنا إليها، كما هاجر إليها آباؤنا وأجدادنا من قبلنا، بأننا عجزنا عن نقل أفكارنا وثقافتنا بلسان يفهمه أهل تلك البلدان ليعبّر عن غنىً واسعٍ من التراث الأدبي والفكري والثقافي يعود إلى عقود بل قرون من السنين، اللهم، باستثناء عدد من المؤلفات والترجمات التي انتشرت في الأمريكتين أوائل ومنتصف القرن الماضي.
الترجمة، إذاً، هي فنٌّ، ومتى تحولت عن كونها كذلك أصبحت مهنةً أو هوايةً، وخصائص المهن والهوايات تختلف كلياً عن تلك عند الفن والإبداع. وفنُّ الترجمة كي يكون فنّاً بالفعل يجب أن يتمتع بخصائص عدة، منها:
- البراعة والاختصاص والتملك من الأدوات اللغوية كالقواعد والتركيب وهيكلية اللغة،
- معرفة الثقافات ومراجعها في كلا اللغتين، المنقول منها والمنقول إليها،
- معرفة أساليب الفهم والاستيعاب والقبول لدى قارئ النصوص المترجَمة، إنطلاقاً من الميزات اللغوية التي تميز البيئة الثقافية عند القارئ،
- معرفة المصطلحات في اللغتين المعنيتين بترجمة النص،
- كون الفن أداة تعبير وعامل تواصل طبيعيين ومنسجمين،
- نقل المفردات والتعابير بشكل متواز مع نقل فكرة وروح النص المترجَم.
إنطلاقاً ممّا أوردته أعلاه، أود أن أشارك القارئ ما دعاني إلى كتابة هذه المقالة.
منذ أشهر وقعت بين يدي نسخة لترجمة كتاب “المحاضرات العشر” بالإنجليزية، هذا الكتاب الذي يشكل بنسخته العربية واحداً من أهم المراجع في الفكر القومي لتضمّنه التعاليم السورية القومية الاجتماعية إلى جانب شروحات لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. وجاء الكتاب نتاجاً لكتابات أعضاء في الحزب قاموا، بتكليف من الزعيم، بتدوين وقائع المحاضرات التي قدّمها بين الفترة الممتدة من 7 كانون الثاني (يناير) 1948 حتى 4 نيسان (أبريل) من العام نفسه إلى مجموعة من الطلاب الجامعيين الذين حضروا الندوة الثقافية آنذاك.
لا أنكر أني سررت جداً، للوهلة الأولى، لرؤية الكتاب، تماماً كما حدث سابقاً لدى معرفتي بصدور الترجمة الإنجليزية لكتاب نشوء الأمم. سيّما وأنه صودف أن طلبت ابنتي المولودة في كندا ولها من العمر ثلاثون عاماً أن أزودها بمراجع لمؤلفات أنطون سعادة والفكر القومي الاجتماعي باللغة الإنجليزية.
قام بترجمة “المحاضرات العشر” الرفيق الراحل فوزي نجد ونُشر ووُزِّع تحت إشراف عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
كنت على وشك أن أقدم لابنتي الترجمة سابقة الذكر، ولكن، ولحسن الحظ، قررت أن أطّلع بنفسي على مضمونها وأتمعن في أسلوب المترجم بنقله هذا النتاج ذي الأهمية الكبرى، الذي دفعتني قراءته قبل واحد وأربعين عاماً إلى التعرف إلى الفكر النهضوي المميز. إطلاعي على الترجمة، وللأسف، دفعني إلى حجب الكتاب عن ابنتي وعن كل من يسألني عنه، وذلك نظراً للأخطاء والتحريف في المفردات ومعانيها التي ألحقت ضرراً بسعادة وبالفكر الذي دعا إليه.
السؤال الأول الذي يفرض نفسه في حالة كهذه هو “كيف يمكن لعمدة ثقافة وفنون جميلة في حزب فيه من المواهب والطاقات اللغوية والفكرية والثقافية أن تصدر هكذا ترجمة لكتاب ميز النهضة السورية القومية الاجتماعي بمُهره؟”
وقبل أن نبحث في الأصول والواجبات، لنستعرض معاً قسطاً بسيطاً ممّا غفلت عنه العمدة المختصة آنذاك (عام 2005).
لن نتوقف كثيراً عند الأخطاء المطبعية، رغم أهميتها وسهولة تخطيها بمجرد القيام بمراجعة نظرية للكتاب، كالغفلة في الغلاف الخارجي للكتاب حيث وردت كلمة Centures بدل Centuries (قرون)، بل سنمضي إلى افتتاحية الكتاب لنقرأ بالإنجليزية ما معناه “المحاضرات العشر من أجل إنهاء قرون من التراجع والتفسخ في “سورية الكبرى” – Ending centuries of decline and disintegration in Greater Syria -. آمل ألاّ نكون مضطرين لتبيان الخطأ هنا، باعتبار أن مصطلح “سورية الكبرى” قد أُلصق خطأً بدعوة أنطون سعادة الذي قال بسورية الطبيعية أو الجغرافية وليس بـ “سورية الكبرى”.
بعدها ننتقل إلى ترجمة مقدمة العمدة حيث ترد كلمة doctrines في ترجمة “مبادئ” وقد اعتمد المترجم التعبير نفسه. والـ doctrine حسب المعاجم والقواميس تعني مجموعة من المعتقدات أو المعتقد، فكان الأجدى لو اعتُمِدت كلمة principles للتعبير عن المبادئ، عندها لا ضير في استعمال doctrine لتحديد مجموع تلك المبادئ، فسعادة لم يتكلم عن المعتقدات الأساسية والمعتقدات الإصلاحية.
وإذا تمعّنا أكثر في مقدمة العمدة للكتاب نقرأ بالإنجليزية:
The Ten Lectures, … addresses the problems of the Social and political struggle for the Syrian National Cause, and the development of Arab Unity and causes of its predicament.
وهذا يعني:
“… ويتناول كتاب المحاضرات العشر مشاكل الصراع الاجتماعي والسياسي خدمة للقضية القومية السورية وتطوير الوحدة العربية وأسباب الحالات المستعصية التي تعاني منها“.
فلو بحثنا مليّاً بكل ما أوتينا من أدوات البحث في كتاب المحاضرات العشر لعجزنا كل العجز عن إيجاد ولو كلمة واحدة قد تقارب تعبير “الوحدة العربية”، فلأي ثقافة تروّج هذه العمدة؟
بعد الافتتاحية والمقدمة نبدأ بقراءة ترجمة المحاضرة الأولى التي جاءت بأسلوب هزيل جداً ومليء بالأخطاء القواعدية والتركيبات الإنشائية المعقدة، فيضيع الانسياب الرائع الذي ميز أسلوب سعادة في الكتابة والتفصيل، حتى تكاد تشعر وكأنك تقرأ نصاً لمبتدئ باللغة.
ولعل الغفلة الأفظع، وتكاد ترقى إلى مستوى جريمة بحق اللغة والكتاب والمؤلف، ناهيك عن أنها تنال من جوهر المحاضرة الأولى والكتاب بكليته والعقيدة وفكر الزعيم، هي ترجمة كلمة “النهضة”. هذه الكلمة التي قدّمها لنا سعادة بأسمى معانيها، فيقول:
“إن النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو، خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم.”
هذا من الوجهة السورية القومية الاجتماعية، أما من حيث اللغة العربية وأصول كلامها فكلمة “نهضة” هي من مشتقات فعل “نهض”، ويعني فعل الانتقال جسدياً من مكان معين إلى آخر أكثر ارتفاعاً، فينهض المرء من مقعده واقفاً ومن سريره مستيقظاً، ولهذا اختار سعادة كلمة “النهضة” لأنها تعني الارتقاء من حالات سيئة إلى حالات أكثر انتظاماً وعزةً ووضوحا. فهذه الكلمة وردت ترجمتها تحت رعاية العمدة وإطلاع مسؤوليها على أنها “Upheaval“، ولن نعقّد الأمور كثيراً على القارئ ولن نطلب إليه مراجعة القواميس والمعاجم، كل ما عليه هو أن يفتح وثيقة Word المتوفرة على جهاز الحاسوب ويطبع كلمة Upheaval وبنقرة يمينية عليها واختيار المرادفات synonyms يجد التالي:
Disturbance, Turmoil, Disorder, Confusion, Cataclysm, Commotion, Disruption, Mayhem
أما ترجمة تلك المرادفات إلى العربية فهي:
إزعاج، إضطرابات، خلل، إرتباك، كارثة، شغب، تشويش، صخب.
ما هكذا تورد يا سعد الإبل، وما هكذا تؤكل الكتف، وما هكذا ننقل فكرنا القومي الاجتماعي إلى أبنائنا وأحفادنا وأصدقائنا وقراء الإنجليزية الذين نريدهم أن يفهموا ويعوا ما نؤمن به ونناضل من أجله.
فإن شاء المترجمون ورعاتهم تجنب كلمةrenaissance لتمييزها عن مصطلحات استعملها الغرب وخاصة في أوروبة، فلا ضير في استعمال awakening أو resurgence أو rebirth، أي شيء عدا upheaval.
هذا حول كلمة النهضة، ومن بعدها يستمر التهشيم في كافة النصوص والفقرات وبكل الأفكار والتعابير التي ميزت قاموسنا القومي والحزبي، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، لننظر إلى ترجمة هذه العبارة من المحاضرة الأولى، ونوردها أولاً كما جاءت بالنص العربي الأصلي:
“لو بقيت تلك العوامل الانحرافية فاعلة لوصلنا إلى انعدام الثقة بأنفسنا وإلى الشك في مقاصدنا وطبيعتنا وحقيقتنا وفي نفوسنا التي هي الضمان الأخير.”
فجاء نقلها إلى الإنجليزية على هذا الشكل، ولاحظوا هنا كيف أن الترجمة الحرفية والضعيفة في آن واحد، قد فعلت فعلها في القضاء كلياً على الفكرة الرائعة التي أراد سعادة إيصالها :
If the factors of divergence were unchecked, we could have reached to a total loss of confidence in our selves and to a sure doubt in our objectives, in its nature and its reality, we could have reached to doubt in our spirit, which is the final security.
إنها لمن بديهيات الأمور لدى المترجمين أو المنقحين القيام بما يُعرف بالإنجليزية بـ Reverse Engineering ، والتي باتت من أبسط وسائل ضمان الجودة، وتقوم على مبدأ إعادة الصياغة بدقة تماثل إلى حد بعيد المادة الأصلية، فلو نقلنا النص الإنجليزي إلى العربية نحصل على التالي:
إن لم تُكبح عوامل الإنحراف لوصلنا إلى فقدان الثقة بأنفسنا بشكل تام، وإلى شك مؤكد في مقاصدنا وأهدافها وطبيعتها وحقيقتها، ولوصلنا إلى الشك بنفوسنا التي هي الأمن النهائي
قارنوا بين هذه العبارة وتلك في كتاب المحاضرات العشر. هذا ما سيفهمه القارئ الإنجليزي لقول سعادة.
لننتقل الآن إلى العبارة التالية التي وردت في النسخة العربية الأصلية على النحو التالي:
نحن لم نحارب ولا نحارب من أجل أن تكون لنا ولغيرنا حرية فوضوية تخدم لذّات الأفراد المرضى في نفوسهم بل حاربنا ونحارب من أجل تحقيق قضية واضحة وإقامة نظام جديد.
وجاءت ترجمتها إلى الإنجليزية كالتالي:
We do not struggle for others to share power with us because we are struggling for the sake of a great cause; we are struggling to establish a new order for the whole society.
لو نقلنا النص الإنجليزي في هذه الحالة إلى العربية نحصل على التالي:
نحن لا نصارع من أجل أن يقاسمنا الآخرون السلطة، لأننا نصارع في سبيل قضية عظيمة، ونحن نصارع من أجل إقامة نظام جديد للمجتمع بأكمله.
لاحظوا الفرق الشاسع بين النص الأصلي وترجمة المُتَرجِم. إن هذه الترجمة خطيرة للغاية، ليس فقط لأنها تُحرِّف قول سعادة، بل لأنها تحذف منه مادةً قد يكون قد رأى “رعاة المشروع” فيها ما قد يقض مضاجعهم، ولو استطاعوا إلى حذفها من النص الأصلي سبيلاً لما ترددوا، ألا وهي “أن تكون لنا ولغيرنا حرية فوضوية تخدم لذّات الأفراد المرضى في نفوسهم“.
وتكر سبحة الأخطاء والحذف والتحريف وتتوالى الإخفاقات اللغوية والقواعدية التي سقطت إهمالاً من قِبَل العمدة والقائمين عليها. والأمثلة على ذلك كثيرة وليس المجال هنا لتعدادها وتفنيدها بل أريد أن أشارك القارئ عدداً من الطرق والوسائل التي تضمن ترجمة أدق وأكثر تعبيراً عن “روح الكتابة” التي ينطلق منها كاتب النص الأصلي باللغة الأصلية.
لنبدأ بهذه القصة عن الأديب مارون عبّود، الذي شغل في خمسينيات القرن الماضي منصب مدير لثانوية عاليه وكان أحد أبرز معلّميها، وتُعرف حتى يومنا هذا بثانوية مارون عبود. حيث قرر عبود خلال واحد من الأعوام الدراسية أن يوظِّف مواهب الطلاب في الكتابة والتحرير والإنشاء، فدعا كل من رأى في نفسه شغفاً للكتابة في مجلة ثانوية عاليه لكتابة مقالة في العدد الأول. وشدّ ما كان عجب عبود حين وردته مئات المقالات من مئات الطلاب خلال الأسبوع الأول بعد توجيه دعوته. وما أن رأى هذا الكم الهائل من المقالات قرّر أن يعيدها إلى الطلاب مع ورقة دوّن فيها “شروط قبول المقالات”. وجاءت الشروط على النحو التالي، أو ما شابهه كي نكون منصفين للتاريخ:
بعد الانتهاء من كتابة المقالة، على الكاتب أن يعيد نسخها عشر مرّات متتالية، وعند الانتهاء من ذلك يحيلها إلى والديه للتحقق فيها مضموناً ولغة. عندها فقط يسلمها إلى مدير المدرسة للنشر.
بعد حوالي أسبوعين من إعادة المقالات إلى الطلاب مرفقة بشروط النشر، ورد إدارة المدرسة سبع مقالات فقط، اعتبرها عبّود من أروع ما قرأ لطلاب في سن المرحلة الثانوية، وراح يتباهى بين معارفه بغنى المواد التي نشرتها المجلة.
القصة هذه ليست حول ترجمات أو نصوص منقولة بين لغات مختلفة، بل مواد مكتوبة باللغة الأصلية مرّت عبر مصافي تكرير متعددة لتأخذ شكلها النهائي الجدير بالقراءة والتداول، فكم بالحري لو نتحدث عن ترجمة مؤلفات بمنزلة كتاب “المحاضرات العشر” أو “نشوء الأمم” أو غيرهما؟
أريد هذه القصة مدخلاً لمشاركة القارئ مجموعة من الخطوات التي تشكل نفسها آلية إخراج ترجمة لفكر ليس ملكاً لفرد أو مجموعة أفراد، بل هو ملك للمجتمع وللأمة وللعالم أجمع. من هنا تبرز ضرورة أن تمرَّ ترجمة أعمال سعادة عبر قنوات ومراحل لا بد منها.
الخطوة الأولى: تشكيل لجنة/مجموعة تسمى لجنة ترجمة كتاب “اسم الكتاب”، وتتألف من المترجم الأساسي، صاحب الخبرة في الترجمة والكتابة باللغتين المنقول منها والمنقول إليها، والمترجم الداعم، والمحقق اللغوي، والقارئ، وهذا الأخير هو الذي تكون لغته الأم اللغة المترجّم إليها، ولا ضير في ألاّ يكون على معرفة بالنص الأصلي أو اللغة التي كُتب بها، فمهمته الأساسية والوحيدة هو تحديد تناسب النصوص وتوافقها مع المصطلحات والتعابير والمراجع الثقافية التي يفهمها ويتداولها أبناء البلدان التي ستقرأ المؤلَّف المترجَم.
الخطوة الثانية: بعد قراءة النص الأصلي بتمعن تام وفهم لغرض الكاتب (وفي هذه الحالة الغرض هو شرح تعاليم ومبادئ الحركة السورية اقومية الاجتماعية للمقبلين على درس العقيدة من طلاب الجامعات والمدعوين للمشاركة في الندوة الثقافية)، على المترجمين، الأساسي والداعم، أن يستخرجا لائحة بالمفردات والتعابير التي استنبطها سعادة إنطلاقاً من مبدأ طرحه مفاهيم جديدة لم تكن متداولة في سورية، وحتى وإن كانت تلك التعابير شائعة فلم يستعملها أي ممن عاصر سعادة في الإطار الذي أراده هو. ومن بين تلك المفردات المرشح ورودها في هذه اللائحة: النهضة، النعرة، المبادئ، الوجدان القومي، النزعة الفردية، النظامية الفكرية والروحية والمناقبية، وغيرها من المصطلحات التي ميزت ما يُعرف بـ “قاموسنا القومي”.
بعد إعداد هذه اللائحة يصار إلى البحث عن مرادفات لها في اللغة المترجم إليها وقراءة ما كتبه علماء الاجتماع والسياسة وما أخرجه المفكرون في القومية وتطور المجتمعات. وقد يكون لكل مفردة عدة معان فتدرج جميعها ليتم لاحقاً اختيار ما يتناسب منها وروح النص الأصلي، وبالتالي روح النص المترجم.
الخطوة الثالثة: تقسيم النص الأصلي إلى مجموعة أفكار تتميز كل واحدة منها بخصائص معينة ومحددة تتناسب مضامينها وتتناغم في سياقاتها مع بعضها بعضاً. صحيح أن سعادة تميز في كتاباته بالتركيز على فكرة معينة قد يسهب في شرحها أو يقتضب، حسب متطلبات عملية إيصال الفكرة، إلاّ أن كتاب المحاضرات العشر، وكما يوحي اسمه وطريقة كتابته، جاء نتيجة تفاعل الزعيم مع الطلاب والرفقاء الحاضرين، فلم تكن المادة مكتوبة بل جاءت نتاج التسلسل الفكري المنطقي الذي ميّز الزعيم، باستثناء قراءته المباشرة خلال المحاضرات لمقاطع من كتاب التعاليم والخطابات التي أتى على ذكرها. وهذا التسلسل، كما نلاحظه في معظم كتاباته، يعتمد على أسلوب العرض والاستقراء والاستنتاج والاستتباع. لينتقل إلى فكرة جديدة، قد تكون مرتبطة بسابقتها أو لا تكون. ومثال على ذلك نلخصه فيما ورد في شرحه المبدأ الخامس:
“هذه هي حدود هذه البيئة” (العرض)…
“إن هذه الحدود الواضحة… قد دفعت الأصول السورية …” (الاستقراء)
“إن الغرب والتمدن الغربي والثقافة الغربية تبتدئ هنا في سورية” (الاستنتاج)
“هل تحدد الحدود الطبيعية الأمم ..؟” (الاستتباع)
الخطوة الرابعة: يقوم المترجم الأساسي، مستعيناً بتمكنه من اللغة والمراجع والمعاجم والنصوص المدونة، بترجمة كل فكرة على حدا، متجنباً كل التجنب الترجمة الحرفية للجمل، وهذا لا يعني إطلاقاً أن يبتعد عن النص، فقط لتجنب الترجمة الحرفية، بل أن يعتمد على اطلاعه على ثقافة الأجنبي في التعبير عن فكرة معينة. ففي الترجمة التي هي موضوع بحثنا، إلى جانب حذفه كلياً مسألة أن الحادثة وقعت في البرازيل، تجنب المترجم نقل عبارة “إيدي بزنارك” لأنها لو تُرجمت حرفياً لقرأنا ما يشبه “My hand is in your belt” العبارة التي قد تثير استغراب القارئ، لكن هذا لا يعني أن تُترجم بـ “I am with you” كما فعل المترجم، لأن الزعيم لم “يوافقه الرأي” إطلاقاً بل هزأ من حديثه فأتبع ردَّه بحكاية جحا وحظه في إمكانية خطوبة إبنة الملك لابنه.
الخطوة الخامسة: ما أن ينتهي المترجم الأساسي من ترجمة النص/الفكرة يحولّها إلى المترجم الداعم ليضبط ما سقط ضبطه سهواً، أو ليقوم بتعديل في عبارة أو مصطلح، كما ويتحاور الإثنان حول نقاط الخلاف، وقد يستشيران ثالثاً إذا ما دعت الحاجة. كل ذلك لضمان أفضل تعبير وترجمة للأفكار المترجمة.
الخطوة السادسة: وفيها يُحال النص إلى المحقق اللغوي، فالترجمة باتت الآن بلغة يتقنها المحقق بشكل مميز فيقرأها ويحللها ويناقشها وكأنها مكتوبة أصلاً باللغة الإنجليزية.
الخطوة السابعة: وهي الخطوة الأهم ويتم فيها دفع الترجمة إلى من تكون الإنجليزية لغته الأم. وتنطلق أهمية هذه الخطوة من مبدأ أن الترجمة تستهدف أولاً وآخراً قارئ الإنجليزية، فابن بيروت لا يترجم لابن الشام ولا يترجم إبن بغداد ليقرأ إبن القدس. فهذا الشخص هو الذي يعرف المصطلحات والتعابير التي يفهمها الغربي الناطق بالإنجليزية أو غيرها. وهو القادر على إعلامنا حول ما إذا كانت “النفحة الشرقية” التي غالباً ما تميز كتاباتنا بلغة غير لغتنا مقبولةً لدى القارئ الغربي. وقد تأتي أسئلته وملاحظاته على النحو التالي:
“لقد قرأت هذا المقطع عشرات المرّات ولم أفهم ما يريد الكاتب قوله.”
“هل المقصود بـ Upheaval ثورة الشعب وغضبه وهيجانه لأن مقاطع أخرى تشير إلى أن ما يدعو إليه الكاتب هو الخروج من الفوضى إلى النظام والوضوح؟”
“هل يُعقل أن يقول الكاتب لمحدثه “أنا معك فيما تقوله” ثم يتابع كلامه بما يوحي أن ما قاله محدثه هو ضرب من المستحيل؟”
بعد متابعتنا للسرد أعلاه، قد يتساءل متسائل “أولا تظن أنك تعظّم الأشياء أكثر مما تستحق؟” أو “أولا تبالغ بعض الشيء في إبراز مخاطر هذه الترجمة؟” وجوابي على السؤالين هو “لا، وألف لا” فتساؤلات كهذه تعني تماماً القول “لا بأس إن شوهنا الفكر القومي الاجتماعي في أعين الغربيين، ولا ضرر في إبراز أنطون سعادة على أنه من دعاة الثورات الاعتباطية والهيجانات الشعبية والغوغائية والفوضى.”
أوجه في ختام مقالي دعوةً إلى أصحاب النوايا الحسنة، كتلك التي حملها رفيقنا الراحل فوزي نجد، ممن يبغون نقل مؤلفات سعادة إلى الإنجليزية أو أية لغة أخرى، إلى توخّي الحذر وممارسة شتى أنواع الضوابط لضمان أفضل نوعية في الترجمة، فآخر ما نحتاجه هو أن نقدم لخصومنا سلاحاً يرفعونه بوجه أصحاب النظرة الثاقبة إلى الفن والكون والجمال. فأعداء النهضة السورية القومية الاجتماعية متربصون، وما تشويههم لفكر سعادة ودعوته بربطهما بالنازية والفاشية وغيرها، كما حصل ولا يزال يحصل، إلاّ مثالاً على ما يحضّر له أصحاب النفوس الدنيئة ضد هذا الفكر، فحذار أن تقدموا لهم ما يريدون على طبق من فضة!
هذه المقالة، بكل جوانبها، ليست تهجّماً على شخص الرفيق الراحل فوزي نجد الذي قام بترجمة كتاب “المحاضرات العشر” إلى الإنجليزية، والذي نثمّن مجهوده، ومن المؤكَّد أنه قام بتلك الترجمة إنطلاقاً من رغبته في نشر الفكر القومي الاجتماعي بلسان آخر غير العربي. بل الهدف الأوحد من هذه المقالة هو تبيان مدى فداحة النتائج التي قد تترتب عن مغامرة غير منظمة يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد في نقل مؤلفات الزعيم، أو أي من المفكّرين أو الفلاسفة الذين نرغب في توصيل نتاجهم الغني بمضمونه، إلى لغات أمم أخرى.
أوتاوا – كندا في 19/8/17