بين الدوائر -أسامة عجاج المهتار
هناك دائرتا احتلال تعصران الوطن السوري وتطحنان الشعب في حركتهما. دائرة خارجية كانت تمتد من مرسين غربا شاملة الإسكندرون وأنطاكية وكيليكيا، إلى ماردين وحكّاري شرقا، فالأهواز جنوبا، لتعود وتمتد غربا إلى قوس الصحراء العربية، الممتد كلسان داخل البادية السورية، وصولا إلى سيناء ومن ثم قبرص. هذه الدائرة تضيق من الغرب الى الشرق بدءا من محافظة إدلب وشرق اللاذقية وشمال حلب، وصولا الى محافظتي الرقة والحسكة في الشرق والشمال الشرقي، فكردستان العراق ذات “الحكم الذاتي“.
الدائرة الداخلية هي الاحتلال الإسرائيلي المتمدد كالسرطان من قلب الوطن السوري إلى أطرافه، احتلالا وهيمنة أمنية مع طموحات اقتصادية وسياسية. وفيما يضيق قطر الدائرة الخارجية، يتسع قطر تلك الداخلية.
ومع دائرتي الاحتلال، هناك دوائر نفوذ. ودائرة النفوذ، حسب التعريف الشائع في العلاقات الدولية، هو ذلك الفضاء الذي تتمتع فيه دولة ما بنفوذ متفرد Exclusive ثقافي او اقتصادي او عسكري أو سياسي، ونضيف من عندنا، ديني أو مذهبي أيضا. دوائر النفوذ المتمددة في سوريانا متداخلة، متصارعة منعكسة حروبا داخلية عندنا. فالنفوذ الوهابي السعودي يصارع الإخواني التركي، والإيراني الولايتي يصارع الوهابي ويهادن الإخواني، الإسرائيلي يلعب على التناقضات كلها. أما النفوذ الثقافي الأميركي الأوروبي فحدث ولا حرج. كلها تتزاحم على شبابنا، وشبابنا، في غياب النظرة السورية المستقلة إلى الحياة، يقع فريستها.
إن المواطن المسكين، من العراق إلى لبنان، يُعتصر بين هذه الدوائر دون أن يدري في معظم الأحيان أن المآسي المتلاحقة هي نتيجة حركتها. كل منطقة نخسرها من سوريا هي منطقة نخسر ريع مواردها لصالح البلد المحتل. وكل امتداد خارجي ثقافي أو ديني مذهبي على حساب ثقافتنا ودياناتنا الأصلية – السابقة للمسيحية الغربية والإسلام – فيه خسارة من استقلالنا النفسي توظف لصالح محتل أو آخر. نحن للآن، لم ندرس بالتفصيل الآثار الاقتصادية والنفسية والاجتماعية لهذه الاحتلالات. إننا لا نعرف، مثلا، انعكاس حريق حقول القمح في الجزيرة على المواطن اللبناني، أو جفاف حوض دجلة والفرات على المواطن في الساحل. إننا نلمس أثرها جوعا وفقرا وهجرة وتلوثا وجفافا. ولكننا لا نربط الأسباب بالنتائج.
هل نفهم الآن السبب الذي دعا سعاده لوضع “الإرادات الخارجية” في طليعة اهتماماته في الخطاب المنهاجي الأول سنة 1935 وقبل انكشاف الحزب:
“إنّ الغرض الذي أنشئ له هذا الحزب غرض أسمى، هو جعل الأمة السورية هي صاحبة السيادة على نفسها ووطنها. فقبل وجود الحزب السوري القومي كان مصير هذه الأمة معلقاً على إرادات خارجية وكانت أنظارنا دائماً تتجه إلى الإرادات الخارجية بعد أن نكيف أنفسنا وفاقاً لها، أما الآن فقد غيّر وجود الحزب السوري القومي الموقف. إنّ إرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء فنحن نقف على أرجلنا وندافع عن حقنا في الحياة بقوّتنا. ومن الآن فصاعداً تدير إرادتنا نحن دفة الأمور. كل عضو في الحزب السوري القومي يشعر أنه آخذ في التحرُّر من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية المخضعة، لأنه يشعر أنّ الحزب هو بمثابة دولته المستقلة التي لا تستمد قوَّتها من انتداب ولا تستند إلى نفوذ خارجي.”
إننا نشعر بالخجل إذ نقرأ هذا الكلام بعد أربعة وثمانين سنة على وضعه كهدف أساس على القوميين تحقيقه. ونحن إذ نعيد التركيز على هذه الأساسيات فلأننا نراها مُهْمَلَة. إن إعادة الحيوية إلى الأمة السورية هي النتيجة الأهم من بنود غاية الحزب. بدونها، لا يمكن تحقيق بقية البنود من استقلال وسيادة ونظام جديد. هذه الحيوية تكاد تنطفئ بين دوائر الحيويات الخارجية المتصارعة علينا. إعادة هذه الحيوية، هي مهمتنا الأولية.