1

الى هؤلاء اللاطئين تحت سقف الطائف والطائفية-الامين هنري حاماتي

الامين الراحل هنري حاماتي

إثنتا عشرة سنة بالتمام مرّت على نشر هذه المقالة للأمين هنري حاماتي في جريدة السفير اللبنانية. تحدّث فيها عن كيفية تعامل لبنان واللبنانيين مع اتفاق الطائف. ما أشبه اليوم بالأمس! فلبنان واللبنانيون اليوم ضائعون في مهب رياح التسويات والصفقات، وأبناء شعبنا في هذا الكيان الهزيل والسقيم يعانون اجتماعياً وأخلاقياً واقتصادياً. وتبقى الحالة، وللأسف، هي نفسها حتى مع “القوى الثورية العقائدية” التي تكلّم عنها الأمين الراحل والمفترض أن تكون الحركة الخلاص.

يسر مجلة الفينيق أن تعيد نشر هذه المقالة لما تتضمنه من تحليل صائب لمجريات الأحداث، ماضياً وحاضرا.

الحالة الحاضرة في لبنان هي حالة جماعات بشرية لا تعرف معنى النظام، تقودها قيادات لا مصلحة لها في وجود نظام تنتظم فيه حياة المجتمع والدولة. ونحن اليوم، بعد كل المآسي التي عشنا بلاياها، ما زلنا تحت سقف مفهوم فاسد لفكرة النظام. وفي أقصى ما توصلت إليه ثقافتنا السياسية، نعتقد، بيقين تام، إن الوحدة الوطنية هي الضرورة الأساسية الأولى لوجودنا، فيما هي، في صورة أقطابيتها التي دأبنا على إعادة روتشتها كلما تلطخت، منذ العام 1943 هي السبب الرئيسي لبلوى حياتنا؛ فسادًا وتخلفًا وتذابحًا وإفلاسات.

اجل، نحن “تحت سقف” نظام فاسد، لأننا “تحت سقف” مفهوم فاسد للنظام.

ما من شك في أننا نحن اللبنانيين أذكياء جدا، نحن، في المستوى الفردي، أذكياء وكرماء وشجعان ومؤهلون، وهذا يفسر نجاح اللبنانيين – بل تفوقهم- خارج لبنان، أينما حلوا في مجتمعات العالم الراقية المنظمة، على اختلاف أنظمتها السياسية.

نعم، نحن مؤهلون في المستوى الفردي، كُلًّا منظوراً إليه مفردا، ولكننا في المستوى الجماعي، هنا في موطننا، نحن صفر. وقد تكون هذه معضلة حسابية يرفضها العقل العادي إذ كيف يكون مجموع آحاد مساويا صفرا؟

نحن في المستوى الجماعي صفر، ولهذا، بعد اكثر من 63 عاما على استقلالنا، لم نتمكن من إنشاء نظام سياسي ديمقراطي حقيقي في بلادنا، رغم ذكاءنا وشجاعتنا ومؤهلاتها المميزة.

إن حل المعضلة الرياضية الماثلة لأبصارنا اليوم في حالتنا الحاضرة، جوابا على السؤال : “كيف يكون مجموع آحاد مساويا الصفر”؟ هذا الحل يكمن في التعرف إلى حقائق اجتماعية سياسية تاريخية أولية، أولاها إن الفكر السياسي الذي خبرته الأمم الحية المتطورة في ثوراتها ونهضاتها، وأنشأت به أنظمتها السياسية الراقية، تأسس على مفهوم مصلحة المجتمع، من حيث هو الحقيقة الإنسانية الكلية للشعب الواحد، لا على مفهوم جماعات منقادة قطعانا مطيعة، في حظائر ظلامية مسقوفة، تمتلكها – عيشا وأمنا ومصيرا ووجدانا – زمرة من القتلة واللصوص والوصوليين والعملاء- طبقة يوحدها “التناحر” أساس نظام “التوافق” الخبيث الذي لم يعرف أذكياء الشعب اللبناني سبيلا للخلاص منه.

هل استمعت يوما إلى واحد من قادة “أطراف التناحر” ولاحظت انه نسي الكلام عن تمسكه المطلق ب “التوافق تحت سقف الطائف؟”

لا بالطبع ! فالتوافق ضرورة لقيام نظام التناحر، إذ ما فائدة التناحر اذا هو لم يوصل إلى التوافق على جبنة الحكم؟ تماما كما التناحر ضرورة لقيام التوافق، فإذا هم لم يتناحروا فكيف يصير “التوافق” ضرورة وطنية في مصلحة هؤلاء اللبنانيين الأذكياء الكرماء الشجعان المؤهلين … المساكين؟

يتظاهر اللبنانيون في حشود مليونية في الساحات العامة، ينظمها أهل الحكم، أهل التوافق، تظاهرات تناحرية لا يتعارض مضمونها الفكري السياسي بكلمة واحدة مع هذا النظام ذي الوجهين النقيضين: وجه يستقطب قطعان الطوائف إلى الحظائر الظلامية “بالتناحر” ووجه يضمن لمالكي القطعان الطائفية بقاء النظام “بالتوافق”.

غبي من يعتقد ان هذا النظام الخبيث الفاسد له علاقة بالديمقراطية، فالديمقراطية مبدأ ونظام:

  • هي مبدأ حكم الشعب نفسه.
  • وهي نظام فصل السلطات.

فأول مقتضيات قيام نظام ديمقراطي هو أن يختار الشعب نظام حكمه في استفتاء شعبي عام. والشعب اللبناني لم يُستفتى يوما في شان نظام حكمه، فكيف يكون هذا النظام ديمقراطيا اذا لم يكن الشعب قد اختاره لنفسه، ليحكم نفسه، بل فرض عليه فرضا؟ وكيف يكون هذا النظام ديمقراطيا اذا كان قد استعيض فيه عن نظام فصل السلطات بنظام توزيع السلطات على مالكي الحظائر الطائفية؟

وبعد… كل المشكلة تكمن فيما ندعوه هنا الشعب: هؤلاء الناس الذين هم أفراد المجتمع وأعضاء الدولة، والذين عانوا الويلات من نظام التناحر والتوافق وبلاياه، ولما تتظاهر فيهم إلى الآن قوى حية يتماثل فيها قبس من فكر اجتماعي سياسي يرشدهم إلى العمل بمنهاج صادق صارم لتغيير الأحوال، في اتجاه قيام نظام ديمقراطي حقيقي يحل الإرادة الشعبية المتولدة من وعي علمي معرفي لمصلحة المجتمع والدولة محل إرادة طبقة القتلة واللصوص والوصوليين والعملاء، المتابعة في عسفها وإجرامها في نظام التناحر والتوافق الضامن مصلحة أطرافها المشتركة.

في دول العالم الراقية، يتعلم الشعب الديمقراطية، مبدأ ونظاما، في مدارس الدولة الابتدائية، في دروس عادية تدعى  دروس التربية المدنية. وعندنا لا يسمع الشعب – حتى في تظاهراته المليونية – كلمة واحدة في نقد نظام التناحر والتوافق، وفي شرح أصول النظام الديمقراطي الحقيقي.

فأين يتعلم اللبنانيون كيف يكون النظام الديمقراطي؟

ابسط منطق إن يؤكد أهل النظام صلاح نظامهم حين يشعرون بان الشعب بات يشاهد ان نظامهم يروكب، وأن مؤسساته تنهار، وأن الدولة ما عادت قادرة على الحركة والفعل وباتت في “كوما”. فمن مصلحتهم، إذن، أن يعلنوا أن نظامهم متوعك، فقط. أو في “كوما” عابرة – إن شاء الله – وأن غرفة عناية فائقة، كغرفة الطاولة المستديرة للحوار، كفيلة باستعادته الى الحياة، فليطمئن اللبنانيون !!

نتكلم عن القوى الحية، اذا وجدت، وما من احد يجرؤ على إنكار وجود قوى حية في لبنان مع هذا ألكم الهائل من المواطنين المثقفين المخلصين، نتكلم عن هذه القوى كرهان تاريخي أوحد للخلاص، لان عملية التغيير الجذري تقتضي قوى حية فاعلة تصنعها.

القوى الحية هي معقد الأمل الأول والأخير، فإذا هي لم تخرج من سكونها إلى الحركة والفعل بقيت البلاد رهن أهل “التوافق والتناحر” ورهن الإرادات الأجنبية المخترقة وجودنا وحياتنا بهم. وعندنا في لبنان كل الظروف التاريخية المواتية – وفق قانون التحدي والاستجابة – لخروج القوى الحية من سكونها:

  • عندنا جرائم الحكام وتواطؤهم على أقدس المصالح الوطنية، واستلابهم خيرات البلاد!
  • عندنا أنشطة السفارات، وأنشطة السفراء المتابعين بلا كلل ولا وهن مصالح دولهم في مكاتب وزرائنا!
  • وعندنا الوصاية الدولية المذلة في قرارات دولية اصدر فرماناتها الإقطاع الدولي الرابض على ارضنا وبحرنا وجونا، جيوشا للحصار والمراقبة والتأديب والعقاب.
  • وعندنا، إذن، كل ما يستثير عقلا عاقلا ونفسا أبية، وكل ما يستنفر مناقبنا وعزائمنا وقوانا العاقلة… وأخيرا كل ما تحتاج إليه بلادنا من قوى شعبنا الحية، هذا الشعب الذي اثبت ويثبت هنا في لبنان – كما في فلسطين المحتلة والعراق المقاوم – انه شعب قادر على المواجهة ومستعد للتضحية حتى بالدماء التي تجري في عروقه!

نقول، عندنا في لبنان اليوم كل الظروف التاريخية التي تدعو القوى الحية في شعبنا من سكونها إلى الحركة والفعل، لتدمير نظام التناحر والتوافق، وبناء نظام ديمقراطي حقيقي جديد. القوى الحية هي ههنا، أمامنا، تتلطى تحت سقف الطائف، حائرة مترددة مدارية، مسترضية… لا تجرؤ حتى على التداعي إلى لقاء جدي، حول مشروع جدي، تاريخي…

الم نتعلم بعد من تجارب الماضي إن مقاومة إسرائيل ومقاومة النظام الفاسد معركة واحدة؟!

وأبشع ما في صورة الزمن الحاضر، وأوفى ما فيها تعبيرا عن هذا الزواغ الرهيب، منظر قوى عقائدية ثورية أنشئت أصلا لغرض سحق نظام التناحر والتوافق: منظر معيب يؤلف زاوية وضيعة من صورة هذا الزمن الرديء.