1

الوحد السورية: الضرورة والتحديات”قبرص سوريةٌ حتمًا- الأمين سيمون حاجوج

المقدمة

وَضعتُ هذه الدراسة في العام 1978 باسم مستعار هو الرفيق “سيمون حاتم” ودفعتها إلى النشر في مجلة (صباح الخير- البناء). وقد نُشرت في العام ذاته على خمس حلقات متسلسلة، لاقت في حينه استحسان وقبول الذين اطلعوا عليها في المحيط الضيق في تلك المرحلة السرّية من العمل القومي الاجتماعي في الشام.

وفي وقت لاحق قام الأمين جبران جريج بإدراج هذه الدراسة كاملة في المجلد الرابع من مؤلفه (من الجعبة). تلاه الأمين محمود غزالي فأدرجها مختصرة في كتابه (كهنة أم جواسيس). حيث أشار كل منهما في مؤلفه إلى أن مجلة (صباح الخير_ البناء) هي مصدر الدراسة وأن كاتبها الرفيق “سيمون حاتم”، إلا أن أي منهما لم يكن يعرف في حينه الاسم الحقيقي لصاحب الدراسة.

ثم وقعت مؤخراً على كتاب شيق من إعداد محمد قبيسي بعنوان (حوار مع الجيل الجديد) صادر عن دار فكر للأبحاث والنشر موجه إلى الجيل الجديد يتناول فيه المؤلف مختلف مفاصل العقيدة السورية القومية الاجتماعية بشكل مبسط وممتع، وقد تضمن فيما تضمن فقرة بعنوان (قبرص سوريّة حتماً) مقتبسة من دراستي المذكورة أعلاه بحجم صفحة ونصف الصفحة.

ولا شك بأن تضمين هذه الدراسة في أعمال هامة لقامات فكرية يزخر بها الحزب السوري القومي الاجتماعي قد منحها قيمة مضافة زادت في عدد قرائها وشجعني على العودة إليها وتعديلها وصياغتها من جديد ونشرها باسمي الحقيقي في كتاب مستقل.

وهنا أود أن أشير إلى أن غياب كتاب مستقل يتناول المسألة القبرصية، على ما أعلم، باستثناء بض الدراسات والمقالات المتفرقة هنا وهناك، هوا ما زاد في اندفاعي لوضع هذا الكتاب. إلا أن جملة من الظروف، الخاصة والعامة، والتي كان آخرها الأزمة العاصفة التي تمر بها الشام – حيث أقيم – قد جعلت من العمل لإتمام هذا الكتاب عملاً متقطعاً امتد على فترات متباعدة، إلى أن عزمت أخيراً على الانتهاء منه علّه يسهم في إلقاء الضوء على هذه المسألة وتوضيح أبعادها في وعي القارئ سواء كان من المؤمنين العاملين للقضية السورية القومية الاجتماعية أو من المهتمين بها وبالمسائل المتفرعة عنها.

توطئة

إن ما تواجهه الأمة السورية، بدءاً من اغتصاب فلسطين وأجزاء أخرى من الأرض السورية، وصولاً إلى ضرب العراق ثم محاولات تفتيت الشام ولبنان، والتي وصلت إلى مرحلة باتت تهدد مصير الأمة ومستقبلها في ظل الظروف المحيطة، محلياً وإقليمياً ودولياً، والتي أقل ما يقال فيها أنها تحمل المزيد من الأخطار، كل ذلك قد يجعل من طرح المسألة القبرصية، في نظر البعض، ضرباً من ضروب الرومانسية الفكرية، أو ربما استحضاراً لمسألة من عالم آخر وإقحامها في ساحة اهتمامه، أو مثاراً للدهشة والاستغراب بسبب جدّة هذه المسألة أو عدم وضوحها بالنسبة إليه.

إلا أن تناول الحقوق القومية والبحث فيه وإظهارها وإعلانها لا يتوقف على الزمان والمكان، ولا يرتهن لظروف أو شروط. وحسبنا في ذلك أننا نقتدي بأنطون سعاده عندما أطلق النهضة السورية القومية الاجتماعية في ثلاثينيات القرن الماضي في ظل ظروف قاسية من الاحتلال الفرنسي والبريطاني لسوريا، غير عابئ بالمعارضة التي واجهته، ولا بدهشة واستغراب البعض، ولا بالحرب الشعواء التي شنت عليه وعلى حركته، بل كان إصراره الشديد وتصميمه على توضيح حقوق الأمة السورية وإقرارها وإعلانها على الملأ، والعمل من أجلها، هو الهاجس الذي شغل تفكيره والبوصلة التي وجهت عمله.

من هنا فإن طرح المسألة القبرصية في هذه الظروف ليس غريباً بقدر غرابة أن تغيب هذه المسألة الهامة عن وعي واهتمام البعض من شعبنا لعقود طويلة، وعدم وضوحها بالنسبة للبعض الآخر، على الرغم من أن أحداثها تجري في جزيرة قريبة من البر السوري وتكاد تلتصق به، فضلاً عن أن هذه الأحداث وتطوراتها والنتائج التي تمخضت عنها تتطابق مع مثيلاتها في مناطق سوريا الطبيعية الأخرى، وهذا يعني أن لتلك الأحداث والتطورات والنتائج معادلٌ (سياسي وقومي واجتماعي وحضاري وتاريخي) في الدول السورية الأخرى، وهي متداخلة مع هذا المعادل وداخلة في إطاره دخولاً لا انفصام فيه لا حالياً ولا في المستقبل.

ولكن لماذا غابت هذه المسألة عن وعي بعض السوريين؟ وللإجابة نقول إن لهذا الغياب أسباب عديدة تحتاج، من أجل حصرها والوقوف عليها، إلى بحث تاريخي لن نخوض فيه هنا، بل نكتفي باستعراض ثلاثة من هذه الأسباب فقط:

  1. السبب الأول يعود إلى أن بعض السوريين لم تتسنَّ له فيما مضى، ولأسباب مختلفة، فرصة الاطلاع على أفكار النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أطلقها أنطون سعاده، وعلى مبادئ وعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، والذي كان له الفضل في كشف وإبراز حقيقة أن جزيرة قبرص تقع ضمن حدود البيئة الطبيعية السورية التي نشأت فيها الأمة السورية، وبالتالي هي جزء لا يتجزأ من الوطن السوري، وأن موقعها الجغرافي يلعب دوراً مؤثراً في الأمن الاستراتيجي والوحدة الجيوسياسية لسوريا الطبيعية.
  2. السبب الثاني يتعلق بدور النخب السياسية والثقافية في دولنا السورية، أفراداً أو منظمات مجتمع مدني (أحزاب وجمعيات ونوادي وغيرها) سواء في مرحلة النضال التحرري أو في مرحلة ما بعد الاستقلالات، لجهة قصور أو تقصير هذه النخب في إبراز أهمية قبرص بالنسبة لسوريا الطبيعية، خصوصاً إذا علمنا أن مراحل النضال في الدول السورية قد تزامنت وترافقت في حينها مع تطورات المسألة القبرصية قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وبالتالي فإن الفرصة كانت سانحة أمام تلك النخب كي تعمل على دمج النضال التحرري لشعبنا في قبرص في إطار النضال القومي السوري العام في حركة تحرر واحدة قادرة على النظر إلى قبرص كموقع استراتيجي يجب، في الحد الأدنى، الاحتفاظ به، إن لم تكن قادرة أو راغبة بالنظر إليها كقطعة من الوطن السوري لا يجوز التنازل عنها.
  3. أما السبب الثالث فيرجع إلى السياسات التعليمية والثقافية والإعلامية التي كانت تنتهجها الحكومات الوطنية المتعاقبة في عهود الاستقلال تجاه المسألة القبرصية وتطوراتها، حيث لم تكن توليها ما تستحقه من العناية والاهتمام الكافيين لغرسها وترسيخها في وعي السوريين واهتمامهم، بل كانت في أغلب الأحيان تتعامل معها بشيء من السلبية واللامبالاة كأية مسألة لا تعنيها في أية بقعة من العالم، فتكتفي في أغلب الحالات بإعلان موقف سياسي متعاطف لا أكثر، في وقت كان من الممكن لهذه الحكومات إعارة المسألة قدراً أكبر من الاهتمام يتناسب على الأقل مع كونها مسألة ساخنة تجري أحداثها في حيز جغرافي قريب جداً من دول البر السوري. في الوقت الذي كانت فيه هذه الحكومات تبدي اهتماماً ملفتاً تجاه أحداث تجري في مناطق وكيانات تبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن محيطنا وبيئتنا الطبيعية كجيبوتي وإريتيريا وساقية الذهب والصحراء المغربية وغيرها مما لا يشكل أي خطر أو تأثير على حياتنا ومستقبلنا في هذه البيئة.

وإذا ما دققنا النظر في هذه الأسباب وغيرها لوجدنا أن رابطاً واحداً يجمعها يعود إلى مرحلة الصراع الفكري السياسي في عهود الاستقلال، أواسط القرن الماضي والذي اتصف بأنه صراع عاصف ومحتدم، ولكنه كان محكوماً، نتيجة حداثة عهد السوريين بالعمل الفكري السياسي- بعد خروجهم من البراد العثماني الذي دام أكثر من أربعمئة عام وتحررهم من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني-، بثقافة إلغائية أقرب ما تكون إلى (ثقافة القبيلة) التي ترفض الآخر ولا تقبل بوجوده وتسعى باستمرار إلى إلغائه، مما كان يضفي على مواقف بعض أطراف هذا الصراع في أغلب الأحيان طابعاً كيدياً قبلياً متشدداً بعيداً عن العقلانية والموضوعية التي يقتضيها العمل السياسي الفكري في سبيل تحقيق المصالح القومية العليا.

ولا يفوت المطلع على مجريات تلك المرحلة في مختلف الدول السورية (في لبنان والشام مثلاً) ملاحظة أن تلك العقلية هي التي كانت وراء محاولة إلغاء أو إقصاء قوى سياسية قومية فاعلة تميزت بالعلمانية والعصرية عن ساحة الصراع الفكري السياسي، كم جرى للحزب السوري القومي الاجتماعي في عامي 1949 و1955 والذي اضطره في حينه إلى الانشغال بالدفاع عن نفسه ووجوده على حساب نشاطه في صفوف الشعب لشرح وتوضيح القضية السورية القومية الاجتماعية والمسائل المتفرعة عنها والتي منها بطبيعة الحال المسألة القبرصية، موضوع هذا الكتاب.

وهذا بدون شك يصب في خدمة الحرب الطويلة التي تشنها القوى الاستعمارية على أمتنا للحد من حركة ونمو الوعي القومي فيها وذلك استباقاً واتقاءً للخطر الذي يشكله هذا الوعي على مصالح تلك القوى.

من هنا فإن العمل على استدراك ما فاتنا في المراحل الماضية بشأن المسألة القبرصية بات حاجة ضرورية للإبقاء على حقنا في قبرص حياً في عقل ووجدان الأمة السورية بأجيالها المتعاقبة، فلا تخبو شعلة هذا الحق في النفوس، ولا نغرق في تداعيات الأحداث الجارية فننسى حقوقنا القومية الأخرى، وهذا ما يتطلب إعادة النظر في سياساتنا العامة السابقة نحو قبرص وتصويبها والارتقاء بها إلى المستوى الذي تحظى به مسائلنا القومية الأخرى (فلسطين، الاسكندرون، كيليكيا، الأحواز، وغيرها)

ولا شك بأن اختيار المدخل لأنسب لعملية إعادة النظر يتطلب درساً لمجمل الأوضاع والظروف المحيطة محلياً وإقليمياً ودولياً للتوصل إلى صياغة (مشروع سياسي قومي) يشكل المدخل الأكثر ملاءمة لهذه العملية توجه الدعوة للانضمام إليه إلى كافة دول الأمة السورية وبينها قبرص بحيث يراعي هذا المشروع تحقيق الأهداف التالية:

أولاً- تشكيل برنامج قومي للحد من مظاهر الاختلاف والتباين بين الدول السورية والسعي إلى رفع مستوى التنسيق والتكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بينها على طريق تحقيق الوحدة القومية.

ثانياً- خلق حالة تعبوية تسهم في دعم قدرة الدول السورية على مواجهة التحديات المصيرية الناتجة عن الهجمة الاستعمارية الجديدة على أمتنا والتي تهدف إلى تنفيذ سايكس بيكو جديدة تقوم هذه المرة على التفتيت المذهبي والديني خدمة للمشروع الصهيوني.

ثالثاً- صياغة مشروع استراتيجي يتيح للأمة السورية، بما هي كتلة جيوسياسية واحدة، وبما تمتلكه من موقع استراتيجي ممتاز، وإمكانات طبيعية وبشرية، فرصة لعب دور فعال، سواء في إطار النظام الإقليمي أو في إطار النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب والذي تدل كل المؤشرات على أنه بات في طور التشكل والولادة في المستقبل القريب.

رابعاً- تشكيل بديل أكثر واقعية وعملية في الظروف الحالية الناشئة عن تداعي مشروع العروبة الوهمية وانتهاء دور وصلاحية الجامعة العربية التي تمثله، وبالتالي بروز الحاجة إلى إنشاء جامعة عربية جديدة قوامها أربع أمم عربية تتمثل فيها الأمة السورية، مرحلياً، بهذا المشروع المقترح، ومستقبلاً بأية مؤسسة قومية متقدمة قد تنبثق عنه. وذلك في إطار “السعي لإنشاء جبهة عربية” كما هو وارد في غاية الحزب.

وفي هذا الإطار فإن توجيه الدعوة إلى قبرص أو على الأقل إلى القوى الحية الفاعلة فيها للانضمام إلى هذا المشروع والمشاركة في أنشطته وفعالياته قد يكون الخطوة الأولى في عملية إعادة النظر في سياساتنا العامة نحو قبرص.

وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن كتاب (قبرص حصن سوريا في البحر) يستند إلى حقيقة أن المسألة القبرصية هي إحدى المسائل الداخلة في نطاق القضية السورية القومية الاجتماعية والمتفرعة عنها، وبالتالي فإن البحث فيها يستوجب التركيز بشكل رئيسي على وجهتها الحقوقية، توضيحاً وتحديداً، انطلاقاً من مقولة أنطون سعاده “شرط الحقيقة الوضوح وشرط الوضوح التحديد والتعيين” بقصد إثبات حقنا القومي في هذا الجزء الهام من الوطن السوري من جهة، والرد على باطل من يزعمون خلاف ذلك، وينكرون على الأمة السورية هذا الحق من جهة أخرى. ومن البديهي أن يتطرق الكتاب أيضاً إلى جوانب أخرى هي بطبيعتها متفرعة عن الناحية الحقوقية وتصب فيها، كي ترتسم في النهاية ملامح الصورة واضحة جلية في أذهان السوريين ووجدانهم القومي.

إذاً فإن هذا الكتاب يستند من الوجهة الفكرية إلى عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي المعبرة عن حقيقة الأمة السورية بأجيالها السابقة واللاحقة، وهو ما يقودنا تلقائياً إلى المبدأ الخامس من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي المتضمن حدود الوطن السوري الذي يشمل قبرص في نطاقه كجزء لا يتجزأ من البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. حيث ينص هذا المبدأ على أن: “الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تميزها عما سواها، تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي، وجبال البختياري في الشمال الشرقي، إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق. وتوصف بالهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص”.

وهذا يعني من الوجهة الحقوقية أن الوطن السوري هو ملك للأمة السورية التي هي وحدها صاحبة الحق في ملكية كل شبر من أرض الوطن السوري والتصرف به والبت بشأنه. ويعني أيضاً أنه لا يجوز لأي فرد أو مؤسسة أو هيئة، وطنية كانت أو أجنبية، حاضراً ومستقبلاً، التفريط بهذا الحق أو الانتقاص منه باقتطاع أي جزء أو شبر من هذا الوطن.