1

الهوية والمجتمع (1) نجيب نصير

لم تحسم الثقافات الناطقة باللغات العربية أمرها حول موضوعة الهوية، ولربما تاه المنظرون والمفكرون والبحاثة بين طبقاتها ودروبها المتشعبة. فالأمر هنا شائك جداً، بالإضافة إلى كونه متوسعاً ومفتوحاً على مساحات تأصيلية واسعة ومفاجئة، تتوسطها اللغة كنظام رمزي وسيط قابل للتمدد والإنكماش حسب القوة القادرة على فرضه. وهنا تبدو الهوية محاصرة تماماً بين قوسين متباعدين جداً، تمور داخلهما أفكار وتنظيرات متباعدة، تبحث في غالبها في ضرورة وجود الهوية أكثر مما تنحو نحو إكتشافها وتحديدها. وكأن الهوية موجودة سلفاً وما على الفرد أو الجماعة إلا إعلانها والإنضواء تحتها كتحصيل حاصل. وهذا أمر يجب العودة إلى  التمحيص فيه وبحثه وإكتشافه وقراءته قراءة واقعية معاصرة، تفيد في توليد المجتمع المعاصر القادر على البقاء والإستمرار.

والهوية شأن (مفهوم) حداثي مدني، ظهر وظهرت ضرورته معه برعاية النهضة التفكيرية لعصر الأنوار، الذي أرسى مفاهيم معرفية قابلة للتطبيق والممارسة، في بنية محددة أسمها السوسايتي التي ترجمت إلى العربية بمفردة “مجتمع”، والسوسايتي “المجتمع”، لا يقوم بتاتاً على التشابه الأصالي أو الأثني أو الديني أو التقاليدي، بل يقوم على المصالح وانسجامها. والهوية تقوم على، أو تنبثق من النجاح في انسجام المصالح المتمثل بالإنتاج وإستمراره. وعلى هذا الأساس الرئيسي تكون الهوية شأناً واضحاً ومعلناً يمكن إنجازه بالإرادة للإفادة منه في إذكاء الإنتاج الذي يشكل حصن الشبع والمنعة لإي “مجتمع” بالضرورة. على هذا يظهر تيه الثقافات الناطقة باللغات الغربية في مقاربة موضوعة الهوية، حيث أعتبر منظروها أن الهوية (ومن ثم الهويات) موجودة بغض النظر عن وجود “المجتمع” المعاصر (السوسايتي) من عدمه. وهذا خطأ عضوي، فمفهوم الهوية هو مفهوم أنواري ومن ثم حداثي، يحصل للسوسايتي (المجتمع المعاصر) ولا يحصل للتجمعات السكانية الأصيلة أو الأصلية ذات المميزات التراثية / الفولكلورية / التقاليدية مهما كانت قديمة. وهنا لا تفيد الإحالة إلى تداخل الهويات وتشارك دوائرها في التخفيف من حدة الإنشقاقات والشروخ “الهوياتية”، بل تفيد في تمييع المفهوم والهوية معاً، وتزيد من الإحتقان الخلافي داخل الهوية الكبرى المزعومة.

لا يبدو مفهوم الهوية وتعريفها واضحاً في التداول الثقافي العربي، فبين المعجمية التراثية والتعريف المفهومي الإنساني هناك مساحات خلافية واسعة. فبين تعريفها لغوياً كـ (حقيقة الشيء وتميّزه عن غيره)، وبين تعريفها (هي مجموعة من المكونات الإنسانية والاجتماعية التي تمنح صفة حقوقية قانونية ما) مسافة واسعة، تتلخص في محاولات ترويض الحداثة كي تنسجم عنوة مع التراث، في عملية ترويضية إستبدادية على الرغم من تبعثرها المفهومي وفوضاها المعرفية، لتتحول الهوية بين جنبات هذه العملية المترامية إلى أيديولوجيا عصابية عدوانية بالضرورة، نتيجة للإفتراق المعرفي المبدئي بين تصورات مختلفة وخلافية للهوية، من دون التعريج على أصل وأسباب وجودها المعرفي. وصارت إلى مجموعة أبحاث ودراسات وتنظيرات مماحكاتية تجرد الهوية من معناها المجتمعي المجدي، إلى تهويمات تائهة في الرمال الصحراوية.

ليس تبسيطاً أن نعرف الهوية بإنها منتوج معرفي مصنوع في مجتمع معاصر (سوسايتي)، قائم على الإنتاج الإبداعي المتمايز فكراً وغلالاً وصناعة، مجتمع قائم على المصالح وانسجامها، تتمايز داخله الشخصية الفردية، وكذلك الشخصيات الجماعاتية بصفات فولكلورية أو إثنية أو دينية بصفات فريدة أو مشتركة مع مجموعات أخرى في مجتمعات أخرى وربما في عوالم أخرى، حيث تفترض وتفرض هوية المجتمع المعاصر مكونات ثقافية حقوقية / قانونية في ظل المساواة والتساوي، لتصبح الهوية أحد أسس المواطنة، والتميز (وليس التمايز) حقاً من الحقوق المجتمعية، ولترتقي هذه الهوية حسب تطور وارتقاء الإنتاج الإبداعي المحقق للشبع والمنعة.

لأن الخوض في الهويات المعرفة لغوياً، والذي يؤدي إلى تثبيت الصفات والمكونات المعرفية والثقافية الموروثة، لإنها متوافرة بحكم الأمر الواقع فقط، يتعاكس تعاكساً خلافياً مع المقصد التغييري الإرتقائي لإشهار الهوية مجتمعياً، ما يوقع المستفيدين من إشهار الهوية في فصام معلوماتي لا معنى حياتياً أو تطبيقياً له، يؤدي إلى تشرذم البنية المجتمعية الجنينية أساساً تحت عناوين هوياتية مزيفة معرفياً، وإرهاصية تفكيرياً بسبب حضورها العفوي الوراثي في الواقع. فالهوية تعبير مقصود من الإرادة المجتمعية، وهي متغيرة إرتقائياً. فإذا كان الفقر أو السكن العشوائي يشهر هوية تفصيلية جانبية، فعلى هذه الهوية أن تتغير، وكذلك الجهالة والتقاليد البالية واللامساواة والكرامة الإنسانية المتهتكة إلخ… من هذه المكونات غير المطلوبة معرفياً في تكوين وإشهار الهوية كمفهوم مجتمعي معاصر. ففي المقام الأخير يجب أن تكون الهوية شأناً جامعاً وليس مفتتاً ومقسماً. وقد تصالحت البشرية في عصرنا هذا على أن تكون الثقافة الحقوقية هي الثقافة الجامعة، إتكاءً على عقد إجتماعي، تصنع من الفرد هيئة اجتماعية كاملة الحقوق والواجبات، لا تقف دونه ولا تتعارض معه مجموعة من الفولكلوريات كهويات مفتعلة تفيد تقويض المساواة.

المدينة الفاشلة

 يتشابك مفهوما “المدينة” و”الحضر” في تعريف “المدينية” العربية. وتختلط النظرة  التفسيرية إلى الواقع “المديني” العربي كما آلت إليه في أيامنا هذه عبر تداول تعريفاتها خلال الفترة الزمنية التي نمت خلالها. فهناك، وحسب السرديات والأدبيات التوصيفية، “المدينة” التي هي عكس الريف الزراعي. وكذلك هناك “الحضر” الذي هو عكس الريف الرعوي، حيث تتأسس الرؤية إلى “المدينية” حسب المصدر المزوّد للسكان، وحسب سبب التزويد. فاللجوء والنزوح القسريان، وكذلك هجرة الريف (رعاة ومزارعون) إلى المدينة بسبب أعطاب مزمنة في الاقتصاد الريفي، وأيضاً بسبب تركيبة السلطات العربية وحاجتها إلى الموظفين، بالإضافة إلى التزايد السكاني مفلوت العقال، وكذلك المخيال الاجتماعي الذي يصور المدينة كبهرجة خدماتية سهلة. هذا وبغض النظر عن عراقة البلدة أو حداثة عهدها، تضخمت البلدات العربية إلى ما يسمى مدناً، وحمل سكانها صفات مكوناتهم التقليدية “كهويات” ثقافية تفترض سلوكاً مخلصاً لها، وتفرض آليات أداء إجتماعية (وليس مجتمعية) تحافظ على البنية التقاليدية ذات الخبرات المخزنة في النظام الرمزي، من لغة ولهجات وطوائف وممارسات وفروض إجتماعية وفنون (الشعر والغناء والرقص إلخ). هذا المخزون الرمزي والسلوك الذي يطلقه هو ما يطلق عليه لغوياً هوية أو هويات، وهي في حقيقتها ميزات فولكلورية خالصة يمكن الإحتفاظ بها أو تطليقها إختيارياً دون أن تؤثر على الاجتماع المديني تأثيراً حقيقياً.

تاريخياً ولغوياً، كانت المدينة (وحتى المملكة في بعض المراجع) هي أي مكان يثبت فيه المعمار، مهما كبرت أو صغرت مساحتها أو تهافت معمارها، تستقر فيها مجموعة سكانية متنوعة الأصول، متنوعة  الإختصاصات (زراعة، تجارة، مهن وحرف، كهانة، فنون)، تتشارك فيه الحماية وإقتسام الأرزاق والخدمات، ضمن منظومة حقوقية متفق عليها في ما بين أهل المدينة (المملكة) كحكومة أوالية قبل وجود مفهوم الدولة. وتتميز المدينة بنظام معرفي تواصلي متمايز عن ذاك السائد في الأرياف والبوادي والصحارى، يجعل من نوعية الحياة (الفردية والجماعية) مختلفة عن هاتيك الموجودة في الأماكن المذكورة، حيث يخضع سكانها لقانون العيش المشترك التبادلي في السلع والخدمات، والذي يفرز نظاماً عاماً يمارسه الأفراد لمصلحة الجميع من دون اللجوء إلى قاعدة “توازن الرعب” كدستور مديني بدئي يمارس من أجل الحفاظ على السلم الأهلي من جهة، وعلى جريان المصالح من جهة ثانية، مما ولد عادات وتقاليد ومهارات وخبرات وفولكلوريات على كافة أصعدة النشاط البشري، يعطي لهذه المدينة أو تلك تمايزاً في إتجاهين: الأول مع “مدن” الإقليم وهو تمايز في التفاصيل. والثاني مع الريف بغض النظر عما إذا كان زراعياً أم رعوياً، أي مستقراً أم متنقلاً. وعليه فقد اختلفت النظرة إلى المدينة، فالمدينيون ينظرون إليها بطريقة تكرم وتفتخر بالقيم المدينية ويتعصبون لها، بينما ينظر إليها الريفيون كمجرد حضر تحللوا من القيم والعادات والتقاليد الأصيلة، وهو ما يشكل ظاهرياً ولغوياً صراع هويات، ولكنه في حقيقته مخاض طويل وعسير يأخذ شكلاً من محاولات الترويض  والإخضاع بين الريف والمدينة، وكذلك بين المدن في ما بينها حسب حيويتها وقدرتها على التمدد والسيطرة.

إن تجارب مثل العيش الطابقي، والاشتراك بالخدمات (مياه، كهرباء، صرف صحي، إستخدام شوارع إلخ)، وتوفير وإنقاذ الوقت “العمر” من عمليات العيش التقاليدية، تحتاج إلى علاقات حياتية جديدة، التي بدورها تحتاج إلى ثقافة جديدة. والحالة المزرية التي تظهر فيها مدننا العربية تعبّر تماماً عن تلك الهويات الممزقة التي تمثل ثقافة ممزقة بين إستحقاقات العيش في المدينة وإستحقاقات الخصوصية. لذلك نلحظ (مثالاً) أن البيوت نظيفة من الداخل بينما الشوارع مزرية. إنه تعبير صارخ عن الفقدان الفادح في الثقافة المنتجة للهوية المدينية.

طبعاً عبر التاريخ تطور الوجود المديني وأخذ أشكالاً أكثر تنظيماً ووضوحاً وعلانية، وذلك بفضل التجارب البشرية المعرفية والتطبيقية التي تراكمت عبر العصور، ولكنها لم تزل من حيث الأساس مكاناً لإقتسام الخدمات المصلحية المشتركة. ومن ثم تطورت معها علاقة الريف بالمدينة مع تطور تكنولوجيات العيش البشري الناتجة عن الإرتقاءات التفكيرية المجتمعية، حيث أضحت المدينية مجالاً مفتوحاً على كل جنبات المجتمع من خلال التطبيقات المصالحية لعمومه المتعاقد إجتماعياً مع دولة. وأضحت التقاليدية والفولكلوريات، كهويات جزئية، موضع إحترام وتفعيل لا بل وإحترام في شرط إندماجها مع النظام الحقوقي العام الذي يتجلى بهوية إيجابية معلنة ومنتجة.

في عالمنا العربي، لم يسر الأمر كما آل إليه في التطبيقات الناجحة للعقد الاجتماعي وما يتبعه من هوية جامعة في مدن وأرياف هاتيك التجمعات السكانية المحلية. ففي “المدينة” العربية هناك تعدد واحتكاك هوياتي متفاوت الشدة إذا لم نقل سلبياً في غالبيته العامة، لأنه لا يخضع لمستحقات العقد الاجتماعي العام من جهة، ويكسر السلم الأهلي كما تعاهدت عليه المدينية من جهة أخرى. وتتعايش المجموعات “الهوياتية” بشكل مزدوج، خضوعاً لأجهزة “الدولة” العربية مرةً، والمتأثرة جداً بالفرز “الهوياتي” هذا، وتفعيل توازن الرعب بين هذه “الهويات” مرات. ولا يقتصر الأمر على الفرز التأصيلي القبلي أو القروي لهذه الجماعات، بل يمتد إلى الفرز على أساس العادات والتقاليد والطوائف والمذاهب، والطبقات أيضاً، بحيث نرى أنفسنا أمام مدينية مستعارة تبحث عن هوية جامعة ولا تدركها. وهكذا نرى الفرد المهتم بالبر والإحسان وعمل الخير بناء على متطلبات هويته الصغرى، هو نفسه من يأخذ بالثأر ويقوم بجرائم الشرف ويمارس الوساطة والمحسوبية والفساد بناء على خصوصيات “هوية” متوافرة بحكم الأمر الواقع. وهكذا تتحول الخصوصيات الفولكلورية التي تسمى “هويات” إلى حصان طروادة يقوّض النظام المديني من داخله، وعندها تفشل المدينة بأن تكون مدينة عبر فشلها في تسيير العلاقات المدينية في تطبيقاتها المصلحية الجامعة. فالهويات الجزئية هذه تفرض سلوكاً لامساواتياً بين أعضاء المجموعة (الكوميونتي) المدينية، سلوكاً يقوّض أركان التطبيقات المصلحية للعيش. كما يمعن في العزلة الإبداعية تفرغاً لإستحقاقات الثقافة التقاليدية الخصوصية، وهذا ما يحتاج إلى تربية عبر برامج خاصة تتضمن التدريب الحقوقي على العيش في المدينة.

من طرف آخر، لا تبدو المدينة العربية أنها استطاعت أن تدمج موجات القادمين إليها في بنى وخدمات ومصالح مدينية واضحة وعلانية، وذلك بسبب مجموعة كبيرة من الأسباب تتعلق بالإمكانيات المادية والمعرفية المتوافرة، والتي شكلت بطريقة ما هوية صغرى متناقضة مع نفسها، واستوعبت موجات القادمين بالتنازلات الظاهرية المقوضة للعيش المديني (إنتشار العشوائيات مثالاً، وكذلك إستباحة الملكيات العامة، وترشيد إستهلاك المياه، وتنظيم النسل، وغيرها). وهي تنازلات إسترضائية تعبر عن عدم نضوج هوية المكان المديني العربي، وهو ما حشر المدينة العربية في أزمات متتالية ودائمة، لتبدو مأزومة بنفسها بسبب الأداء السلوكي الناتج عن ثقافة هوياتية مبعثرة لم تستطع المدينة ترشيدها أو رعايتها ولا سكبها في إطار إنتاجي عام .

لقد تضخمت البلدة العربية لتصبح مدينة من ناحية الكم لا النوع. فالمدينة العربية لا تشبه أية مدينة معاصرة في العالم، ليس من ناحية الشكل بل من الناحية الثقافية المولدة للسلوك المديني. هذه الثقافة التي تعتبر الحاضنة التربوية التي تنتج الفرد المديني الذي يمارس إستحقاقات العيش فيها، فإذا كانت هذه الحاضنة التربوية خاضعة لثقافات جزئية فولكلورية أو تقاليدية متوارثة ومبجلة، فمن المؤكد أن الفشل سوف يظهر عند كل زاوية ممارساتية للعيش (التعامل مع الشواطئ والغابات كملكية عامة مثالاً تبسيطياً)، حيث تعيش المجموعات الهوياتية قانونها الخاص الذي يتلاعب بالقوانين العمومية من داخلها ويسيطر عليها حتى ولو بالعنف، ويسود سلوك “مديني” خنيث، غير واضح الجنس والنوع، يستظل عقداً إجتماعياً واهياً تنتج عنه أزمات معيشية يتحمل وزرها السكان. وتشتغل السلطات في إدارة هذه الأزمات إلى ما لانهاية له، حيث لا حل إلا بالقطع الثقافي مع الهويات الموروثة والمنتقلة إلى الفضاء المديني أو الإستمرار بتوالد الأزمات وإستمرار إدارتها. ولا يقال هذا الكلام من أجل تفضيل مجموعة “هوياتية” عن أخرى، أو ترتيبها طبقياً أو تحضرياً، ففي العقد الاجتماعي الواهي يساهم الجميع في تخنيث الثقافة المجتمعية بجعلها ثقافة غير محددة المعالم، ودون وضوح يذكر.

ربما كان الفن هو كل ما تبقى من الهوية الجامعة للمدينة، ولربما هو الفرصة التربوية الوحيدة التي يمكنها الإستمرار بدورها إذا سمحت له ثقافة الهويات الصغيرة بذلك. فثقافة هذه الهويات استطاعت أن تنتصر عليه وتدخله غرفة العناية المركزة، وما شح الإنتاج الفني وتخلفه إلا نتيجة لمحاولة السيطرة على الجماهير عبر ضخ ثقافة ما قبل المدينية بين جنباتها. فالفن الإبداعي يبقى الإنتاج الأرقى والأكثر إنسانية بين كل المنتجات المدينية، وللولوج إلى عالم المدينة الحديثة لا بد من المرور عبر مختبر الفن بالضرورة. فالفن بمساحته المعرفية المفتوحة ومنتجاته الثقافية قادر تربوياً على المساهمة بشكل تأسيسي وأساسي في تطوير وإرتقاء تلك الهويات الجزئية، مع المحافظة عليها كفولكلور كي تنسجم مع منجزات المعرفة المدينية من جهة، وإستحقاقات تلك المعرفة من جهة ثانية، من أجل النجاح في إرساء وجود إجتماعي غير مهدد بالأزمات الوجودية أو على الأقل إيجاد الأمل في العثور على حل لهذه الأزمات بديلاً عن إدارتها.

الهويات ليست شأناً ثابتاً طالما هي منتوج ثقافي، والثقافي محكوم بالإرتقاء أو الخراب. والإرتقاء إلى الثقافة المدينية ليس إرتقاءً عمودياً أو إرتقاء أصالياً، بل هو إرتقاء في خدمة الحياة في شكلها الموجود. فالسيارة  وقيادتها (مثالاً) لا تنفصل عن قوانين المرور وكذلك عن الذوق والأخلاق الأصليين، وعلى مستخدمها أن يقبل بها (سيارة وقوانين مرور) ككتلة متكاملة وإلا وضع نفسه فردياً وجماعياً في دائرة الخطر “الأزمة”. وقيادة السيارة بأية طريقة يختارها المرء هي تعبير أصلي عن هويته التي وصلت أو لما تصل بعد إلى مستوى قيادة السيارة على طرقات مشتركة، يسير عليها أناس يمتلكون ذات الحقوق في العيش والكرامة على قدم المساواة. ربما كان هذا المثال عمومياً بعض الشيء، ولكن تطوير الهوية وحتى تغييرها هو جزء من وجودها كمعرفة. فالهويات المتوارثة هي هويات ناتجة عن تطوير وإرتقاء هويات سابقة لها، وإستعصاؤها في التقليد المستمر هو موات لها ناتج عن موات الإبداع القادر على تطويرها. إذ يبدو جمودها كإنعدام لوجود الإمكانيات العقلية والمعرفية والحضارية للتفاعل معها تفاعلاً معرفياً وجودياً. لذلك نرى وبكثرة عمومية العنف في المدينة العربية، ولا أقصد هنا العنف الفيزيائي فقط، بل أقصد أيضاً حالات الرشوة والإبتزاز والوساطة والإستبداد والفرز الطائفي والمذهبي والقبائلي، والعسكري / المدني ومخالفات البناء وإلى ما هنالك من ممارسات هي في حقيقتها عنف يتجاوز العنف الفيزيائي في أثره الكارثي. فالشرطي الذي يرتشي وكذلك الذي يجبر المواطن على رشوته هو قسر وعنف عميقان، وهو كذلك تعبير عن ثقافة فاسدة تنتج هوية فاسدة تحتاج إلى تطوير وإرتقاء. فللهوية تأثير في السلوك راقياً كان أم منحطاً، وعليه يمكن تعديلها وتغييرها إما تنويرياً معرفياً إيجابياً أو تعتيمياً جهالياً سلبياً.

إذا لم يكن التطوير تنويرياً بإتجاه الثقافة المدينية، فإن الهوية (مهما كانت جزئية أو عمومية) تسقط ركناً أساسياً وتأسيسياً من أركانها. وعلى التجمع السكاني تحمل عواقب سلبية هويته (هوياته)، وتحمل عواقب الوجود الاجتماعي الخنيث، فلا هو في العصر ولا في الماضي، ولا هو مع المصالح المشتركة ولا يستطيع العيش بمصالح فردية، ولا هو مع التقدم في العلاقات المعاصرة ويتأفف ويشتكي من التخلف، يطالب بالمساواة ولا يوافق عليها، يشتهي التكنولوجيا وليس بقادر على قيادها وإستعمالها، يرغب في المكاسب والخدمات وليس على إستعداد لدفع أثمان إستحقاقاتها. فالمدينة والعيش فيها كل متكامل ثقافياً وسلوكياً، ناتج عن عقد إجتماعي واضح ومعلن وملزم، ومنتج أيضاً التطويرات اللازمة لهذا العقد الاجتماعي. ولا يمكن لهذا العقد الضرورة أن يعيش ويستمر إلا بتحويل هاتيك الهويات الجزئية الصغرى منها والكبرى إلى فولكلوريات متداولة تفيد بمعاني الأصالة والإفتخار والتلذذ بها كمنتجات ثقافية سابقة حلت محلها منتجات ثقافية جديدة ومتجددة تعلن هوية تدل على أصحاب هذا الإنتاج وتمايزهم.