الهوية السورية “إشكالية العروبة والإسلام؟” – نزار سلوم
** هذا المقال ينشر بالتزامن مع موقع سيرجيل “https://sergil.net”
مقدمة
يتم راهناً، استعادة الخطاب الاستعلائي للتيار (العروبي الإسلامي)، في تجاوز غير مفهوم للوقائع التاريخية والأحداث التي وقعت ونتائجها، والتي كان هذا التيّار نفسه مسؤولاً عن وقوعها وعلى نحوٍ مباشر، في مِنَصّة الهلال الخصيب من شرقها إلى غربها!
سنقوم في مقالات متتابعة بمقاربة إشكالية المنظومة السياسية/ العقائدية للتيار (العروبي الإسلامي)، وهو تعبير نستخدمه بدلالته التي تشير إلى منظومة سياسية تزاوج العروبة بما هي دعوة هويّاتية لعالم يمتد من الحدود مع إيران شرقاً وصولاً لشاطئ المحيط الأطلسي غرباً، والإسلام وفق سرديته التاريخية، التي تتبناها العروبة، كدعوة دينية أنتجت دولتها/ خلافتها، ولا يمكن أن توجد دونها أو تتشارك مع غيرها.
الإشكالية الرئيسية هنا، تتمثّل في محتوى الهويّة، وفي ذلك (التنمّر الفكروي) على الهويّة السورية وتاريخها، والعلوم الاجتماعية والحفريات الآثارية وتاريخ الحضارات. كما تتمثّل في جانبها الآخر، في ذلك (العِناد) الذي يتشّهى دائماً إنتاج (الغزو المستمر) منطقاً وأسلوباً.
أولاً – إطار تاريخي عام
خطأٌ شائعٌ، يُتخم فاتحة السرد التاريخي لأحداث القرن العشرين التي توالت على أمتنا. خطأٌ مُعَمَمٌ في الكتب المدرسية والجامعية كما في السرديات الإعلامية.
يتمثّل هذا الخطأ في ذلك الوصف لما فعلته اتفاقية سايكس – بيكو 1916، بأنها أدّت إلى تجزئة (الوطن العربي)! والذي كمصطلح يعود إلى الأدبيّات الأيديولوجيّة لحزب البعث العربي الاشتراكي وغيره من الحركات المنضوية تحت يافطة التيّار القومي العربي. يعني المصطلح بوضوح تلك الجغرافيا الممتدة من جبال البختياري شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، والذي يتكوّن في واقعه الراهن من 22 دولة تشمل جزر القمر والصومال وجيبوتي.
الخطأ الذي نقصده هنا، لا يتناول (طبيعة) فعل الاتفاقيّة (التجزئة)، بل (مجال ومكان) هذا الفعل، حيث أنّها – أي الاتفاقيّة – تعاملت مع جغرافيا سياسيّة تُعرف تاريخيّاً باسم: الهلال الخصيب، الذي يُطابق مرتسم سورية الطبيعيّة ومعناها. ومن المؤكّد ألاّ مجال في قراءة الاتفاقيّة على غير هذا النحو، وألاَّ مجال لتأويل كلام واضح وخرائط سياسيّة محددة بالخطوط والألوان، ومع ذلك… الخطأ موجود ومُعَمَمٌ ومستمر!!
يشكّل استخدام مصطلح (الوطن العربي) في هذا المجال، وعلى هذا النحو المتعمّد، نوعاً من التعدّي الأيديولوجي على واقع تاريخي واضح وصريح، في محاولة دائمة لإشاعة مُناخ مُضلل لمعنى الهويّة الذي يقع أسير اختلاطات، يُستهدف منها فرض محتوى محدد وعلى نحوٍ استبدادي، عادة ما يتوسّل (الدين) المدجج بحمولات مقدسة، لتكريس (هيمنة إيديولوجيةٍّ)، ستقدّم نفسها بتشاوف واستعلاء بكونها ذلك الوضع الذي يدمج ويوالف ما بين (العروبة والإسلام)، والتي ستشهر أسلحتها الرادعة لأي سؤال يخصّ حقل الهويّة ومعناها، باعتبارها (يقيناً مقدّساً) خارج الأسئلة والتساؤلات والعلوم ونسبياتها والقياسات ومنطقياتها!
حاول السوريّون الوقوف والعمل في سبيل عرقلة ووقف تنفيذ معاهدة سايكس – بيكو 1916، التي آلت إلى مقررات مؤتمر سان – ريمو (نيسان 1920)، حيث أقرّ مبدأ الانتداب والوصاية على خريطة جيوسياسيّة، ستجرى عليها تلك الجراحة التي استولدت الكيانات السياسيّة التي أخذت شكلها النهائي مع منحها الاستقلال، لتتعثر في حياتها وقدراتها وبناها السلطويّة والتحديّات التي واجهتها، ولتصل إلى الواقع والهيئة التي هي عليها الآن.
تمثّلت المحاولة السوريّة هذه، بالمؤتمر السوري العام (1) وحكومته (حزيران 1919 – تموز 1920)، والتي انتهت مع دخول الجيش الفرنسي دمشق بعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920.
يعطي المؤتمر وصفاً لهويّته، فهو (سوريّ)، ويتشكّل من أعضاء ومندوبين يمثّلون مناطق بلاد الشام: سورية الطبيعيّة ما عدا العراق، مع مطالبته الدائمة بالاتحاد مع العراق. وفي مختلف وثائقه، يكرر وصف سورية بالأمّة، غير أنّه في القانون الأساسي – الدستور، الذي وضعه، يورد في المادة الأولى منه اسم (المملكة العربيّة السّوريّة) في تعبير مركّب، ليعود في المادة الثانية ليكتفي باسم (المملكة السّوريّة)، ثم ليعود للتعبير المركّب في المادة الخامسة مع تقديمه الصفة السّوريّة على العربيّة، الأمر الذي يشير إلى حضور (السّوريّة) كمحتوى للهويّة مع اختلاط بـ (العربيّة) أحياناً. فيما سيحافظ تعريفه لـ (الفرد) من (أهل المملكة السّوريّة العربيّة) على وصفه بـ (السوريّ) دون مرادفته بالوصف (العربيّ).
وفي حين يشير ذلك كلّه، إلى أرجحيّة المحتوى السّوري في معنى الهويّة، إلاّ أنّه وبالمقابل، يشير إلى بداية حضور للوصف (العربيّ) لهذه الهويّة، وإن كان من مستوى ومنسوب ضعيف ومشوش.
المشروع العربيّ
يدين الفكر القومي العربي، إلى نجيب العازوري (1873 – 1916)، في اعتماد مصطلح (الأمّة العربيّة)، الذي يرد في عنوان كتابه (2) الذي وضعه باللغة الفرنسية عام 1905(يقظة الأمّة العربيّة)، بالرغم من أنَّ المعنى الأيديولوجي السائد الآن لهذا المصطلح لا يطابق المعنى الذي قصده العازوري، حيث أعتبر أنَّ الامبراطوريّة العربيّة الجديدة التي سوف تنفصل عن الدولة العثمانية، يجب أن تمتد حدودها الطبيعيّة (من وادي دجلة والفرات حتى برزخ السويس، ومن البحر الأبيض المتوسط حتى بحر عُمان). أي تتشكّل من (الهلال الخصيب) و (الجزيرة العربيّة). ويحسم العازوري، بدايةً، إلى أنَّ (سلطاناً عربيّاً، سوف يحكمها حكماً ملكيّاً دستوريّاً متحرراً). غير أنّه يعود ليفصل ما بين (الهلال الخصيب) و (الجزيرة العربيّة)، فيهب الأول لأسرة الخديوي الحاكمة في مصر، ويقترح إقامة خلافة دينية يتولاّها خليفة من سلالة النبي في بلاد الحجاز.
ليس من المؤكّد، ما إذا كانت أفكار نجيب العازوري، هي من ساعدت الإدارة البريطانيّة على صياغة استراتيجيتها الخاصّة بمواجهة الامبراطوريّة العثمانيّة، خصوصاً بعد إعلان هذه الأخيرة دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا في 29 تشرين أول 1914، أو أنَّ العازوري هو من استمد أفكاره، في وقت مبكّر، من مصادر فرنسيّة وانكليزيّة أثناء إقامته في باريس، وخصوصاً أنَّ الأوساط السياسيّة والأكاديميّة الأوروبيّة كانت، في ذلك الوقت 1905، تشهد نشاطاً معرفيّاً وثقافيّاً خاصّاً بما يمكن أن يكون مستقبل أوروبة، حيث تشير السرديّات الإعلاميّة إلى أنَّ هذا النشاط أثمر تلك الأفكار التي ظهرت في مؤتمر: كامبل بنرمان (3) – نسبة لاسم رئيس وزراء بريطانيا آنذاك) الذي عقد في لندن في أيار 1907.؟
في أيّة حالة، ستشكّل (الثورة العربيّة الكبرى) التي بدأت في 10 حزيران 1916، الإطار الذي من خلاله سيبدأ (المشروع العربي) بالارتسام في سورية. حيث تم تصميمه في الإدارة الإنكليزيّة ووجد طريقه للتنفيذ بدايةً، عبر كتشنر – وزير الدولة لشؤون الحرب – ومن ثم مكماهون المندوب السامي في مصر الذي توّلى مراسلة (4) الشريف حسين لترتيب وتأمين انخراطه في إطار هذا المشروع، ومع اطلاق الشريف حسين أمير مكّة رصاصته الأولى بدأت القيادة العسكريّة الإنكليزيّة المباشرة له، وسط انخراط السوريين في جيشه، حيث رأوا فيه خلاصاً من الإمبراطوريّة العثمانيّة.
وما بين 10 حزيران 1916، و2 تشرين ثاني 1917(وعد بلفور)، تكون بريطانيا قد (دشّنت/افتتحت) في سورية مشروعين متوازيين: المشروع العربي والمشروع الصهيوني، وسيلتقي لاحقاً قائد المشروع العربي في سورية فيصل بن الحسين مع قائد المشروع الصهيوني في جنوبها: فلسطين، حاييم وايزمن، ليتوصّلا إلى وثيقة تفاهم تؤمّن التعايش بينهما.
سيجد (المشروع العربي) لنفسه مكاناً في القانون الأساسي، الذي وضَعه المؤتمر السوري، عبر استخدام تعبير المملكة العربيّة السوريّة أحياناً، كما على نحوٍ خاص في نصّ المادة الخامسة التي حصرت المُلك في سلالة الملك فيصل الأول المُتَوّج على سورية بعد قرار الاستقلال الذي اتخذه المؤتمر وأعلنه في 8 آذار 1920. وبالرغم من التطورات المتلاحقة والسريعة التي أعقبت قرار الاستقلال وصولاً إلى سقوط دمشق تحت سيطرة قائد قوات الشرق الجنرال الفرنسي غورو في 24 تموز، إلاِّ أنَّ فيصل الذي غادر دمشق نهائياً، تم تتويجه ملكاً في بغداد بقوّة الانتداب الإنكليزي، الذي استولد أيضاً الكيان الأردني (1921)، على شكل إمارة يحكمها الأمير عبد الله بن الحسين، والذي تُوّج ملكاً بعد منح الأردن الاستقلال عام 1946.
مع بداية حقبة الانتداب الإنكليزي – الفرنسي، وترسّيخ واقع التجزئة، الذي سيسمح للمشروع الصهيوني بتنفيذ خططه في فلسطين، ستُصاب (الهويّة السوريّة) بتراجع في الوعي العام، وخصوصاً مع الإجراءات المتوالية التي تقوم بها الكيانات السياسيّة والتي أصبحت أمراً واقعاً مع (الاستقلالات الممنوحة) لها في تواريخ مختلفة جنباً إلى جنب مع إعلان المشروع الصهيوني عن قيام دولته (إسرائيل) في أيار 1948.
هوامش
الصورة: تجمع الصورة الأمير فيصل بن الحسين والدكتور حاييم وايزمن باللباس العربي. وقد نشر هذه الصورة السياسي الإسرائيلي المعروف موسى بيلين مع مقال له في جريدة هآرتس، قام بترجمته ونشره على مدونته الدكتور عدنان أبو عامر في 12 كانون ثاني 1919. يتحدث بيلين عن اجتماع حصل في أيار من العام 1918، بين وايزمن والشريف حسين في العقبة، ثم يقول بأنَّ الحسين نشر (في الصحيفة الرسمية لمدينة مكّة المسمّاة: القبلة، إعلاناً مذهلاً بموجبه بارك عودة [إخواننا اليهود إلى أرض إسرائيل])، ومن ثم حصل الاجتماع الذي تم بموجبه التوصّل إلى ما يُعرف باتفاقية فيصل –وايزمن، في لندن بتاريخ 3 كانون ثاني 1919، على هامش مؤتمر السلام الذي كان منعقداً في باريس. الصورة مأخوذة في دمشق عام 1918.
-
يعتبر كتاب (المؤتمر السّوري العام) للسيدة ماري ألماظ شهرستان مرجعاً مهمّاً للمؤتمر وسيرته وما قام به. يمكن مراجعة الصفحات من 245 وحتى 262، بشأن القانون الأساسي. الكتاب صادر عن دار أمواج في بيروت عام 2000.
-
كتاب نجيب العازوري نُشر بالفرنسية تحت عنوان “Le réveil de la nation arabe”، وقامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر بنشره في العام 1978، بترجمةٍ من الدكتور أحمد أبو ملحم.
-
يرد اسم مؤتمر (كامبل بنرمان) بوصفه تتويجاً لتحضيرات سياسيّة وعلميّة أكاديميّة واستراتيجيّة، شاركت فيها وفود من العديد من الدول الأوروبيّة، وجاءت أعمالها لتجيب عن تساؤل رئيسي يتمثّل في الكيفية التي تمكّن من استمرار أوروبة متفوقة ومسيطرة على السياسة العالميّة. يتم الحديث كثيراً عن وثيقة صدرت عن هذا المؤتمر، ويتم التداول بمضمونها، غير أنّه وإلى الآن، لم ينشر أي مصدر هذه الوثيقة، كما لم تنشرها الحكومة البريطانية، أو لم تسمح بنشرها؟
-
مراسلات (حسين – مكماهون)، اشتهرت بهذا الاسم في التاريخ السياسي، وهي كناية عن رسائل متبادلة ما بين أمير مكّة الشريف حسين، وهنري مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر. ومن خلالها يتبدى الوعد البريطاني بالعمل على إقامة دولة عربية في الأراضي التي ستجليها الإمبراطورية العثمانية، إنْ أعلن الشريف حسين الثورة عليها. كتبت هذه الرسائل ما بين 14 تموز 1915 و10 آذار 1916، وقد بلغت 10 رسائل في مجموعها. ويعتبر كتاب (يقظة العرب) لكاتبه جورج انطونيوس، مرجعاً كلاسيكياً في هذا المجال، حيث يمكن مراجعة مختلف الوثائق الخاصة بهذه الحقبة.
يتبع…