1

المرحلة الإقليمية في الحرب السورية

دخلت معركة الغوطة الشرقية مراحلها النهائية، وبات انتصار القوات الحكومية على الأبواب سواء بالعمل العسكري أو بالمصالحات المحلية أو بالسماح للمسلحين وعوائلهم بالمغادرة إلى مناطق الشمال السوري. هذا يعني أن العد العكسي قد بدأ لإسقاط كل الجيوب “الداخلية” السورية من الغوطة الشرقية إلى مناطق الحجر الأسود والقدم ومخيم اليرموك القريبة من دمشق. وفي وقت لاحق، سيتم التركيز على جيب آخر إلى الشرق من مدينة حماه، ليصبح “الداخل السوري” خالياً من أي وجود مسلح فاعل

*

ونقصد بـ “الداخل السوري” كل المدن والبلدات التي لا تماس لها مع الحدود الدولية المعترف بها لـ “الجمهورية العربية السورية”. ويدخل في هذا التصنيف المدن الكبرى التي سبق للقوات النظامية أن استعادت السيطرة عليها مثل حلب وحمص وحماه، وأيضاً الجيوب التي تهدد العاصمة السورية. وبعد إحكام السيطرة على هذا “الداخل”، سيكون من الطبيعي أن يتحول الاهتمام الحكومي نحو المناطق الحدودية الخارجة بمعظمها عن سلطة الدولة، إذ أنها خاضعة لمجموعات متنوعة من المسلحين.

لا أحد ينفي أن الجماعات المسلحة التي قاتلت في الداخل السوري وعبر المناطق الحدودية حظيت بدعم وتمويل وتسليح من قوى إقليمية ودولية مختلفة. وما زالت تلك الرعاية مستمرة على أكثر من صعيد. لكنها باتت الآن أكثر خطورة وأشد تعقيداً لأن المناطق الحدودية مفتوحة على الخارج ما يصعّب مهمة القوات الحكومية في استرجاع سلطة الدولة على كامل أراضيها وصولاً إلى الحدود الدولية. وباستثناء الحدود مع لبنان، التي تأمنت بعد طرد الجماعات المسلحة من جرود عرسال ورأس بعلبك، فإن الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية هي الآن مباشرة أو مداورة تحت سيطرة دول الجوار التي تدعم المسلحين وتتدخل علناً في الشأن السوري أمنياً وسياسياً.

ويزداد الأمر تعقيداً بوجود القوات الأميركية على الأراضي السورية شرقي الفرات، والتي تشكل في الواقع حاجزاً يُراد له أن يفصل بين العراق وسوريا، بحيث يمنع تكامل القوات المسلحة لكلا البلدين في حربهما ضد الجماعات المسلحة التي تراهن عليها واشنطن كرأس حربة في مشروع ذي أبعاد استراتيجية على المدى المنظور. ومن المثير للإهتمام في هذا السياق، أن الولايات المتحدة تواصل تعزيز قواتها في العراق وسوريا، وتنسق مع تركيا الطامعة في الشمال، وتشجع القوات الأطلسية على إرسال المزيد من “الخبراء العسكريين” التابعين لحلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى العراق… ما يؤشر إلى مخططات تتجاوز تداعيات الأزمة السورية.

إذا أرادت القوات السورية النظامية وحلفاؤها تحقيق الهدف المعلن باستعادة سيادة الدولة على كافة أراضيها، وطرد جميع المسلحين والقوات الأجنبية غير الشرعية، فلا خيار أمامها سوى التوجه نحو المناطق الحدودية بعد إنجاز مهمة تنظيف “الداخل” السوري من الجماعات المسلحة. لا أحد يتوقع أن يتم القضاء كلياً على المسلحين في “الداخل”، لكن من يتبقى منهم لن يكون قادراً على تهديد دمشق والمراكز المدينية الأخرى. وهكذا تكون القوات الحكومية قد حمت خطوطها الخلفية تمهيداً لمواجهة هي أخطر بما لا يُقاس من كل ما عرفته سوريا حتى الآن.

تركيا (في الشمال) والولايات المتحدة الأميركية (في الشرق) والأردن و”إسرائيل” (في الجنوب) لن تقف مكتوفة الأيدي في هذه المواجهة المصيرية الحاسمة. (ترى هل يُعاد تحريك الحدود الغربية مع لبنان؟) هذه الدول تنسق في ما بينها على مستويات عدة، لكن أيضاً لكل منها مشاريعها الخاصة. ولذلك فإن القوات السورية النظامية لن تواجه الجماعات “السورية” المسلحة ميدانياً فقط، بل ستكون في تماس مباشر مع أطراف خارجية فاعلة لن تتخلى عن أدواتها المحلية إلا في إطار حل سياسي متوقع يضمن لها حصة دسمة في كعكة التسوية النهائية.

إن المعركة المزدوجة لبسط الدولة السورية سيادتها على أراضيها، ولمنع التقسيم الحاصل الآن من أن يتحول إلى واقع دائم، تتطلب مخططات تختلف عما سبقها في السنوات السبع لهذه الحرب الكارثية. ومن غير المعقول أن تتوقف المواجهات العسكرية خلال هذه الفترة، لكن سوريا الآن في ظروف ذات طابع مختلف تستدعي الحذر من ناحية، وتراهن على انتصار الوعي القومي في صفوف السوريين من ناحية أخرى. وهذه ستكون المسؤولية المباشرة والعاجلة الموضوعة على عاتق القوى الحية في المجتمع السوري، إلى جانب العمل العسكري لدحر آخر بؤر الإرهاب والتكفير في المنطقة.

من الطبيعي أن القوى الإقليمية والدولية التي زرعت الفتنة في المجتمع السوري ستحاول حصد ثمار تدخلاتها على الأقل في المجال السياسي بعدما فشلت في رهاناتها العسكرية المباشرة. ولذلك فإن المطلوب الآن موقف سوري موحد لجهة التوصل إلى حل سياسي يقوم على المواطنة الحقة وعلمانية المجتمع. فقط في مثل هذه الحالة، نستطيع أن نلزم الحلفاء بما نريده نحن… وفي الوقت نفسه نضع حداً للتدخلات الأجنبية الخبيثة التي تريد العبث بوحدتنا ومصيرنا القومي.