1

المدرحية علم وفلسفة- الحلقة التاسعة والاخيرة نظرة

نظرة سعاده المدرحية الى الحياة

من مصدرها الى غايتها

أولاً – في مصدر نظرة سعاده الى الحياة والكون والفن.

عندما كان سعاده يشرح المبدأ الاساسي السابع في 22 شباط 1948، ” تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الامة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي”، كان المناخ الثقافي والسياسي في ذلك الوقت هو مناخ متأثر بشكل كبير بنتائج الحرب العالمية الثانية على كافة الصعد، الثقافية والاقتصادية والسياسية. لذلك نلاحظ أن سعاده قد تطرق في شرحه إلى رد تهمة تأثره بالحركات الفكرية والفلسفية التي كانت سائدة آنذاك، وهي الليبرالية والشيوعية والنازية والفاشية. ركّز سعاده في شرحه على الاستقلال الروحي للحركة القومية الاجتماعية الذي هو “شيء واضح جداً ومبدأ فاعل وله فاعلية عظيمة في حركة الحزب. هو يوجه الفكر والشعور الى الحقيقة الداخلية، الى حقيقة هذه الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكل طبيعته بكل مواهبه بكل مثله وأمانيه”. وأضاف قائلاً: “ولست أدري كيف أن وجود مبدأ مثل هذا المبدأ المبيّن في تعاليم الحركة لم يكن كافياً للمفكرين والادباء في هذه البلاد ليدركوا أن حركة تقول بمبدأ من هذا النوع ليست بالحركة التي يمكن أن تخضع أو تسخر لأغراض غريبة عن ذاتيتها أو مقاصدها في الحياة والفن”.

“فالحقيقة الداخلية” هي ما كان سعاده ينطلق منه في عمارته الفلسفية، “حقيقة الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكل طبيعته بكل مواهبه”. وسعاده قد قال صراحةً أن الجديد الفلسفي الذي جاء به “هو مدين به لأمته وحقيقتها النفسية”، فها هو في ختام سلسلة “الصراع الفكري في الادب السوري” يقول: “…إن ما دفعني إليه هو محبة الحقيقة الاساسية التي وصل إليها تفكيري ودرسي وأوصلني إليها فهمي الذي أنا مديون به كله لامتي وحقيقتها النفسية”.

الحقيقة أن سعاده قد تكلم كثيراً على هذه المسألة، في أماكن وأوقات عديدة. صحيح أنه اعتبر “الفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها” (مقالة تجديد الادب وتجديد الحياة)، لكن الزمان والمكان هنا هما الزمان والمكان الراهنان اللذان عاش فيهما، بكل سلبيات التخلف والانحلال والتفكك التي تميزهما، وليس الزمان والمكان التاريخيان اللذان ولّدا “حقيقة الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكل طبيعته ومواهبه ومُثُله”. إن سعاده قد تكلم عن “خطط النفس السورية التي يجب أن تتَّبِعها ثقافتنا الواعية الفاهمة” (مقالة تخبط وفوضى)، وكي لا يبقى كلامه عاماً غير ذي معنىً واضحاً، وكي يوضح شيئاً عن خصائص الحقيقة الداخلية وماهية خطط النفسية السورية، أوضح ما يعنيه بالقول “إن العقل السوري الذي خطط للمتوسط والغرب قواعد ثقافته المادية والروحية رأى أن الانتصار على المادة يكون بمعالجتها والقبض عليها وتسخيرها للغايات النفسية الجميلة التي تجعل الوجود الانساني جميلاً ونيراً.” (نفس المصدر). وفي مصدر آخر، في شرح المبدأ الاساسي السابع، وفي معرض نفيه أن تكون النفسية السورية “نفسية شرقية منصرفة الى الشؤون الخفية والتي تجنح الى التعاليل الخفية للوجود وأغراض الوجود وتنتهي في الاخير في الغيب وفي ما يسمونه باللغة الهندية النرفانا”، يقول:

“إن الاستعمار وتنظيم المستعمرات وسلك البحار وتنظيم التجارة والمعاملات ودرس طبائع الاشياء والاتجاه الى الاختراع والفتوحات الحربية والفكرية، تستر نظرة ذاتية مسيطرة طالبة للتفوق وإخضاع المادة لأغراضها وذاتيتها… إذا قلت أن سورية هي التي نشرت الطابع العمراني في البحر المتوسط الذي صار أساساً للتمدن الغربي الحديث، فإني اقول ذلك بأدلّة وثيقة حتى من التاريخ الذي كتبه مؤرخون هم من تلامذة المدرسة الإغريقية- الرومانية، بعد إنقراض المدرسة السورية للتاريخ. وعندما أقول المدرسة الاغريقية الرومانية للتاريخ أعني المدرسة التي رمت الى تشنيع كل صفة للشعب السوري بعامل العداوة بين السوريين والاغريق أولاً ثم بين السوريين والرومان ثانياً”.

كل هذه الامثلة والنصوص من سعاده هي للقول بأن النظرة الفلسفية المدرحية الى الحياة والكون والفن هي نظرة ذات أصول سوريّة وتتبع “خطط النفس السورية”. وسعاده يكرر ذلك في أكثر من مكان، وهذه بعض الإشارات الأخرى:

1 – “أعتقد، بطبيعتي السورية، أن كيان النفس هو في الوجود (المادي) ولأجل الوجود… وليس بعد الوجود ولا قبله”.

2 – “إن بلوغ هذه المرتبة يتم بالاتصال بمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه ونفس أمته ومجتمعه وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة الى الحياة والكون والفن الملازمة لهذا المجرى الذي يزداد قوة مع الايام”.

3 – “… يتمكن بفضل اتصاله بالنظرة السورية القومية الاجتماعية، من ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي”.

4 – “إن من شروط النظرة الجديدة الى الحياة، الصالحة لتقدم الحياة الانسانية وارتقائها، أن تكون نظرة ذات أصل…”

5 – “… هذا الأدب الغني بالقضايا الفكرية والشعورية التي كانت كامنة في باطن نفسيتنا حتى ظهرت في النظرة الجديدة الى الحياة”. (النصوص الخمسة كلها مأخوذة من سلسلة الصراع الفكري في الادب السوري).

ثانيا – في غايتها ودورها في صنع المستقبل.

لقد تكلمنا كثيراً في هذه السلسلة على فلسفة العلم ثم العلم ثم الفن وفلسفة الحياة والمستقبل، أي عن عقيدة تفسير الحياة والاجتماع ثم أساس الارتقاء والتطور الاجتماعي ثم عقيدة تشييد المستقبل. وقد تكلمنا على العلاقة بين هذه الامور الثلاثة وترابطها وتسلسلها وتشكيلها معاً قضية فكرية واحدة ونظرة واحدة الى الحياة والكون والفن. لكن سعاده لم يكن يحاضر في جامعة ولم يكن يتكلم مع طلاب علوم وفلسفة فقط، بل كان يخاطب شعبه كله كي يؤلف منه أمة واحدة تدرك وحدة حياتها ووحدة مصالحها ومصيرها في هذه الحياة. إنه لم يكن معنياً بتلقين الناس مبادئ العلوم والفلسفة بل كان معنياً برفع مدارك عامة الناس ويطلب منهم اعتناق عقيدة تنفعهم في تحصيل مصالحهم الواحدة لانهم مجتمع طبيعي واحد، وتنفعهم في تشييد مستقبلهم الجميل الذي فيه سيادة وكرامة وحق وخير وجمال.

سعاده لم يكن يطلب من جميع الناس فهم وإدراك قضايا علم الاجتماع وفلسفة علم الاجتماع والعلاقة بينهما، بقدر ما كان يطلب منهم إدراك الطريق الصحيح لتشييد مستقبل جميل. وإذا كان سعاده قد درس هو وأوضح مسائل علم الاجتماع وفلسفته فلأنه هو الذي تولّى إقامة الأساس لبناء العمارة القوية والجميلة عليه. ألم يقل إن الفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها؟ ليس المطلوب أن يكون الجميع فنانين مبدعين وفلاسفة يقومون بتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا جديدة للامة، بل المطلوب أن يرتقي الجميع الى فهم الحد الادنى من الحقائق الاساسية ليسهل عليهم الأخذ بهذه المثل العليا الجديدة التي رسمها لهم الفلاسفة والفنانون المبدعون.

إن جل ما كان سعاده يريده من شعبه هو الانصراف الى الإعتناء بهذه العمارة وصيانتها والحفاظ عليها، وترك الاساس للعمّارين المتخصصين. ومن يظن أن الفلسفة والنظرة الى الحياة يمكن تلقينها بكل تفاصيلها وأبعادها لعامة الناس لا يكون مدركاً للفرق الكبير بين “الفلسفة والعقل العادي” حسب تعبير سعاده في رسالته التوجيهية الى شارل مالك، حيث يقول له أيضاً: “الفيلسوف المؤمن بحقيقته وحقيقة فلسفته لا يلبث أن يدرك عدم حاجته الى وسائل العقل العادي ليشق الطريق لفلسفته التي هي في ذاتها خروج على المعتاد”. (الاعمال الكاملة ج 3 ص 262).

هذا هو السبب الذي جعل سعاده يختار تعبير “عقيدة تفسير الحياة” بدل عبارة “فلسفة علم الاجتماع”، ويختار عبارة “أساس الارتقاء والتطور الاجتماعي” بدل عبارة علم الاجتماع، وليس السبب أن سعاده يجهل معنى فلسفة علم الاجتماع أو علم الاجتماع أو سائر فروع العلم والفلسفة، وهو الذي استعمل هذه العبارات كثيراً في كتابه العلمي نشوء الامم وناقش وحاجج جميع علماء وفلاسفة عصره وجاء بفلسفته الجديدة التي دعا العالم للتسليم معنا بها. السبب هو أن عبارة “عقيدة تفسير الحياة” هي أوضح وفهمها أسهل وهي بمتناول مجموع أكبر من الناس وذات دلالة اقوى من عبارة “فلسفة علم الاجتماع” التي قد تعني اشياء كثيرة وقد تأخذنا الى اتجاهات فكرية متشعبة خارجة عن الموضوع الذي اراد سعاده أن يوجّه الفكر اليه. أن عبارة سعاده هي أوضح معنى وأكثر تحديداً. ولا ننسى أن سعاده وضع العقيدة في ثلاثينات القرن الماضي وتوسع في شرحها في الاربعينات منه، ويومها كان عدد طلاب العلم والفلسفة محدود جداً، وقد عبّر سعاده أكثر من مرة واحدة عن معاناته من ضعف المستوى العلمي للناس الذين عايشهم وخاطبهم.

أما اليوم فقد صرنا نعرف ونميز أكثر ما هي الفلسفة وما هو العلم وعلاقتهما، ومتى تكون الاولى أساساً للثاني أو الثاني أساساً للاولى، وصرنا نعرف ما هو الوصفي وما هو المعياري أو الوجوبي الاخلاقي. إن السبب الذي جعل سعاده يمتنع في شروحه عن استعمال هذه التعابير هو أنها لم تكن منتشرة ومعروفة إلا في أوساط محدودة جداً وهو كان يريد مخاطبة الشعب كله بلغة يفهمها الشعب كله. حتى أنه عندما خاطب الطلاب في المحاضرة الأولى من المحاضرات العشر، لم يقل لهم، مثلاً، أن عقيدتنا هي نظرة معيارية أو وجوبية للحياة وقضاياها ناتجة عن نظرة وصفية موضوعية للاجتماع الانساني ومتوافقة معها، بل ترجم لهم ذلك بلغة أسهل وأوضح وقال لهم: “يجب أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف نعالج الأمور“.

لهذا كله فإننا عندما نقول إن لسعاده لغته الخاصة ومفرداته المختلفة عن لغة الاكاديميين ومفرداتهم، فالسبب في ذلك هو أنه كان يخاطب عامة الناس وعليه أن يختار أوضح وأسهل العبارات وأكثرها دلالة على الموضوع المراد شرحه.

سعاده كان الفيلسوف والمعلم الوحيد الذي خاطب المثقفين والاميين بلغة واحدة وقد فهمه جميعهم كل حسب درجة علمه وثقافته. فمن المبادئ الى التعاليم الى العقيدة الى الفلسفة الى النظرة الى الحياة والكون والفن حيث الفرق دقيق ورفيع بين هذه الامور المتشابهة التي تعني كلها في الاخير شيئاً واحداً هو القضية التي يؤمن الجميع بها ويعملون لها، وهي لشدة إيمانهم بها تساوي وجودهم كله ومن أجلها وعلى طريقها قد صنعوا ملحمة صراع كبير وعنيف كلّف دماءً ودموعاً غزيرة وآلاماً كبيرة وصبراً عظيماً وثقةً كاملة بالانتصار الاخير. فالحق انتصار في معركة انسانية تجري ضمن هذا الوجود، يقول سعاده، وهو قد وصف هذه المسيرة بكلمات قليلة هي: صحة العقيدة وشدة الايمان وصلابة الارادة ومضاء العزيمة.

هكذا، فالتعاليم والمبادئ والعقيدة والفلسفة هي شيء واحد تقريباً، هي تعابير مختلفة بمضمون واحد . أما النظرة الى الحياة والكون والفن فهي أكثر من ذلك، إنها مصدر التعاليم والمبادئ والعقيدة والفلسفة. إنها نظرة شاملة تتضمن الاحاطة بالعلوم وفلسفة العلوم وفلسفة الحياة معاً. وإن سعاده قد امتاز أيضاً، فوق أنه صاحب نظرة شاملة الى الحياة والكون والفن، إمتاز بأنه معلم بسّط نظرته وفلسفته ليسهل تلقيها من قبل الناس ويسهل فهمها. لقد وضعها في مبادئ ثمانية وشرحها شرحاً أولياً ثم وضع هذه المبادئ مع الشرح في كتيب صغير سمّاه كتاب التعاليم ليكون في متناول كل من يجيد القراءة. لعل سعاده هو الفيلسوف الوحيد صاحب النظرة الشاملة الذي يلخص فلسفته ونظرته ويكتبها بشكل مبادئ ويقدمها لعامة الناس كتعاليم.

إذاً، من النظرة الى الحياة والكون والفن الى كتيب التعاليم، رحلة فكرية للدارسين من أكثرهم ثقافة وعلما وإطلاعا وإدراكا الى عامة الناس وأقلهم ثقافة وعلما وإطلاعا وإدراكا. كثيرون من يقبلون التعاليم وأقل منهم من يعتنقون المبادئ ويفهمون ترابطها ومتانة تركيبها وتسلسلها، وليسوا كثيرين من يدركون إدراكاً عالياً كل أبعاد العقيدة ويفهمون تماماً معنى الفلسفة، وأقل من هؤلاء من يتصل إتصالاً عقلياً واعياً فاهماً بالنظرة الشاملة الى الحياة والكون والفن، وخاصة النظرة الى الكون!

ألآن، ماهي هذه العمارة الفلسفية الجميلة القوية التي يريدنا سعاده أن نعتني بها وندافع عنها والتي إذا ما اعتنقناها وآمنّا بها تكون لنا دليلاً لندرك “كيف نعالج الامور” فتكون حياتنا أجمل وأقوى وأعزّ؟ ما هي هذه الفلسفة المعيارية الوجوبية الاخلاقية (ما العمل) حسب تعابير الاكاديميين، وفلسفة الحياة وتشييد المستقبل حسب تعبير سعاده؟ وبكلام أكثر تعييناً: ما هي حلولنا الذهنية العقلية لمسائل وقضايا الحياة التي تواجهنا، فنقرر ونفعل ونتصرّف و”نعرف كيف نعالج الامور” على هدى هذه الحلول العقلية؟ إن الجواب البديهي هو أنها موجودة في مباديء الحزب الاساسية الثمانية وما يتفرّع عنها من مباديء إصلاحية خمسة، فالمباديء هي قواعد الانطلاق في إتجاه واضح، يقول سعاده. وفي هذه المبادئ نجد الصفة أو الميزة أو الخاصّة المدرحية بشكل بارز وواضح.

لأن موضوعنا الاساس في هذه السلسلة هو موضوع المدرحية، فقط، فليست مهمتنا الآن شرح المبادئ أكثر مما شرحها سعاده نفسه في محاضراته العشر. لكن يجب أن نعرف أنه لا يكاد يوجد مبدأ واحد من المبادئ إلا ونجد فيه المدرحية، لا يكاد يوجد منطلق واحد من منطلقات العقيدة – الفلسفة القومية الاجتماعية، أي المبادئ، إلا وتكون النظرة المدرحية واضحة فيه، إلا وتكون العوامل والقوى المادية والروحية فاعلة ومتفاعلة ومتكاملة فيه.

لنأخذ هذا المثل من المبدأ الأول: “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة”.

يقول الشرح: “الحقيقة أن قومية السوريين التامة وحصول الوجدان الحي لهذه القومية هما أمران ضروريان لكون سورية للسوريين، بل هما شرطان ضروريان لمبدأ السيادة القومية، سيادة الشعب الشاعر بكيانه على نفسه وعلى وطنه الذي هو أساس حياته وعامل أساسي في تكوين شخصيته. يعني هذا المبدأ سلامة وحدة الامة السورية وسلامة وحدة وطنها وانتفاء كل إبهام من الوجهة الحقوقية في أن السوريين أمة هي وحدها صاحبة الحق في ملكية كل شبر من سورية والتصرف به والبت بشأنه”.

فسورية الوطن ومناطقه ومياهه وسهوله وجباله وموارده مصدر رزق السوريين وقوتهم الاقتصادية وأساس حياتهم، هذه القوى والعوامل المادية، لا تكون وتبقى ملكاً لهم تحت مطلق تصرفهم إذا لم يكن العامل الروحي حاضراً ومتوفراً وفاعلاً فيهم، أعني قومية السوريين وحصول الوجدان الحي لهذه القومية اللذان قال عنهما سعاده أنهما شرطان ضروريان لكون سورية للسوريين. هكذا تكون العوامل والقوى المادية والروحية موجودة معاً وفاعلة وضرورية لتأمين مصالح السوريين وصيانتها والدفاع عنها. وهكذا تكون القومية والوجدان القومي، هذه القوى الروحية، هي عوامل فاعلة وضرورية وليست رجعية ومعطلة لمصالح الناس المادية كما ترى الفلسفات المادية الجزئية.

إن النظرة المدرحية البارزة في هذا المبدأ الاساسي الاول هي أيضاً نظرة الى الحياة كلها، بجميع مصالح الحياة وشؤونها إطلاقاً، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والفن والادب والثقافة وكل مناحي الحياة المجتمعية الانسانية. وهذه النظرة المدرحية الى الحياة تقول لنا أنه يجب علينا ليس فقط أن نرى هذه القوى والعوامل المادية والروحية في كل شؤون ومظاهر الحياة، بل يجب علينا أيضاً أن نحسب لها الحساب ونؤمنها ونمتلكها ونستعملها لتشييد حياة جميلة عزيزة قوية فيها كل الخير والحق والجمال والعدالة للأفراد وللمجتمع.

وهذه النظرة المدرحية الى الحياة هي نظرة يفهمها جميع الناس ويأخذ بها جميع الناس وليست حكراً على مثقفين أو متعلمين أو مشتغلين في الفلسفة. أن رفيقاً قومياً اجتماعياً مقاتلاً، أمياً لا يكاد يجيد القراءة والكتابة، هو شهيد الآن، سمعته يشرح لرفقاء جدد في أحد المخيمات الصيفية في جبل لبنان عن شروط الانتصار في المعارك الحربية، قال ما معناه: إن شروط الانتصار في معاركنا الحربية هي أثنان، أولهما هو الايمان المطلق بالقضية التي نحارب من أجلها والاقتناع بأهداف وأغراض المعركة، أي توفر الحافز النفسي، وبالتالي الاستعداد النفسي للتضحية وبذل أقصى ما نملك من عزيمة وإرادة وقوة. وثانيهما هو توفر الشروط والوسائل المادية أي العدد الكافي من الرجال والسلاح والمؤن. فإذا سرنا الى المعركة متسلحين فقط بإيماننا وإرادتنا وعزيمتنا دون تأمين ما يكفي من رجال وسلاح ومؤن، أو إذا سرنا الى المعركة مدججين بالسلاح وكافة الوسائل المادية من دون أن تتوفر فينا القناعة بأحقية معركتنا ودون أن نكون جماعة مؤمنة موحدة الارادة وتجمعها روح قتالية عالية، فإن معركتنا لا بد أن تكون خاسرة.

هذا الرفيق شبه الأمي لم يكن بحاجة للتفكير الفلسفي وتفاصيله والخوض فيه، إنه استطاع أن يفهم المدرحية في نطاق عمله فهماً بسيطاً واضحاً وصحيحاً واستطاع أن يفهم العوامل الروحية والمادية وتفاعلها وضرورة الأخذ بها معاً لمواجهة مهمته والنجاح فيها. المدرحية هي نظرة فلسفية؛ جزء من نظرة سعاده الى الحياة في جميع شؤونها وسِمة من سِماتها وميّزة من ميزاتها وصفة من صفاتها وخاصيّة من خصائصها، يمكن أن نفهمها ونستعملها في أصغر شؤون الحياة وأبسطها، كما فهمها الرفيق القومي الاجتماعي المقاتل، تدرجاً الى أعلى مراتب الاجتماع والاقتصاد والسياسة والادب والفن وأدقها وأعقدها وأكثرها تشعباً واختصاصاً. ولقد أوضح ذلك سعاده وأوجز موضوع فلسفته وغايتها بهذه الكلمات: