المدرحية علم وفلسفة، المقالة السادسة-شحادي الغاوي
ما هي النظرة الى الحياة والكون والفن
بين العلوم وفلسفاتها
لقد ذكرنا سابقاً أن سعاده في مقدمة كتابه “نشوء الامم” قال إن كتابه علمي بحت تجنب فيه التأويلات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجد الى ذلك سبيلاً. وربما يتساءل بعضنا عن السبب الذي حدا بسعاده ليقول ذلك، وما هي التأويلات النظرية وما هي فروع الفلسفة التي يجب تجنبها في بحث علمي بحت؟ وماذا تعني عبارة “ما وجدت الى ذلك سبيلاً”؟ هل تعني أن هناك صعوبة في تجنب التأويلات النظرية وسائر فروع الفلسفة، وأن سعاده لم يوفر سبيلاً في تجنبها، وأننا يجب أن نتوقع ورود بعضها في الكتاب بسبب هذه الصعوبة، أو بسبب وجوب وضرورة ذكرها حتى ولو كان ينقصها برهان؟
الحقيقة أن علم الاجتماع يكاد يكون العلم الوحيد الذي يجد العلماء فيه هذه الصعوبة، حتى أن منهم من يغفل التمييز فيه بين ما هي حقائق ووقائع علمية وبين ما هي نظريات وتأويلات فلسفية بحاجة لبرهان. وفي لغة الأكاديميين يجب التمييز بين العلوم وفلسفات علوم.
سعاده لم يكن أكاديمياً ولا خريجاً جامعياً ولا يلتزم بجميع المصطلحات العلمية الأكاديمية. لذلك فإننا نعتقد أن عبارته “النظريات والتأويلات الفلسفية”، في بحث علمي، ما هي إلا “فلسفة العلوم” حسب الإصطلاح الأكاديمي. مثل على ذلك نجده في نص لسعاده يقول فيه: “إن هذا البحث العلمي الجديد بنظرياته ومعلوماته لا يُتوخّى منه غير جلاء الحقيقة في طبيعة الاسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية على ضوء عناصر كل منهما كما هي في ذاتها”. (من كتاب الاسلام في رسالتيه). إن وجود “النظريات” الجديدة في بحث علمي ليس له معنى غير وجود نوع من “فلسفة العلوم” في هذا البحث. فالنظريات تبقى نظريات تحتمل الخطأ والصواب الى أن يتم برهانها فتصبح علماً ولا تعود مجرد نظريات. إن النظريات العلمية – فلسفات العلوم هي تأويل وترجيح ينقصه البرهان ليصبح علماً ومعرفة علمية أكيدة غير قابلة للشك. هكذا هو سعاده، دائماً صادق معنا ومع نفسه، ينبهنا أنه لا يمكننا الجزم دائماً في بعض شؤون علم الاجتماع وأنه يجب أن نميز بين ما الحقائق والنظريات والتأويلات والترجيحات، أي بين ما هو علم وبين ما هو فلسفة العلم. إن سعاده قلما كان يستعمل تعبير “فلسفة العلوم”، وبدلاً منه كان يستعمل تعبير “عقيدة تفسير”. فالتفسير هو علم أو من مهمات العلم، أما العقيدة فهي الفلسفة، فيصبح تعبير “عقيدة تفسير الحياة” الذي استعمله سعاده يعني “فلسفة علم الاجتماع” حسب التعبير الأكاديمي.
هذا جانب من معنى “فلسفة العلوم” وليس كله. ففلسفة العلوم تعني أيضاً محاولة الجواب على سؤال: “لماذا الحقائق العلمية هي ما هي؟ لماذا هي ليست شيئاً مختلفاً؟” والجواب دائماً يكون ترجيحاً وتأويلاً وليس أكيداً وقطعياً. عندما يصبح الجواب أكيداً وقطعياً مثبتاً بالبرهان نصبح أمام حقيقة علمية وليس نظرية – فلسفة علمية، وننتقل من فلسفة العلوم الى العلوم. كل سؤال علمي يكون الجواب عليه ترجيحاً وتأويلاً يكون منتمياً الى فلسفة العلوم، وعندما يتأكد بالبرهان يغادر فلسفة العلم وينتقل ليصبح علماً.
ولفلسفة العلوم، خاصةً العلوم الاجتماعية، مهمة أخرى هي وجود عقيدة أو نظرة أو فلسفة لدى عالم الاجتماع يستعملها كمسلّمة أو كقاعدة يرتكز عليها في مباشرته لتفسير وتحليل موضوع علم الاجتماع. فعقيدة التفسير لدى سعاده كانت مدرحية درست جميع العوامل المادية والروحية في الاجتماع الانساني، في حين نجد عقائد كثيرة مادية أو روحية بحت.
ولكي لا يبقى ما نقوله مجرداً ونظرياً، دعونا نقدِّم هذا المثل عن جانب من معنى فلسفة العلوم:
نحن نعرف اليوم، مثلاً، أن الأرض كروية وتدور حول نفسها قبالة الشمس مما يؤدي الى وجود الليل والنهار، وتدور حول الشمس مما يؤدي الى وجود الفصول الاربعة مع كل دورة. هذا علم. إنه اليوم علم ولكنه لم يكن كذلك في عهد كوبرنيكوس. لقد كان فلسفة علم خاصة بكوبرنيكوس وغاليليه. لقد كان نظرية واعتقادا قريبا جداً من العلم إلى أن تم برهانه فاصبح علماً وحقيقة علمية محسومة. أما عن السبب الذي جعل الارض تدور حول نفسها وحول الشمس، فإن الجواب على سؤال لماذا الارض تدور حول نفسها وحول الشمس؟ إذا وُجِد، يبقى اليوم تأويلاً ونظريات تنتمي الى فلسفة العلم ولا تشكِّل علماً. ثمة من يقول أن الارض تدور على نفسها بسبب النار المشتعلة بداخلها، وتدور حول الشمس بسبب حرارة الشمس الجاذبة، فالحرارة تجذب الأشياء. وثمة من يقول أن الارض تدور لأن الله أرادها أن تدور وقال لها دوري فدارت. مهما تكن حجة القائلين بهذا السبب أو ذاك قوية ومعقولة فأن السبب الحقيقي لا زال بعيداً عن مداركنا ولا زال بحاجة لبرهان قاطع وأكيد. لذلك فإن كل النظريات والتأويلات حول سبب دوران الارض لا زالت مجرّد نظريات وتأويلات، أي فلسفات علوم، أي عقائد تفسير، ولم تصبح علوماً بعد.
ولقد عرجنا في حلقة سابقة على الفرق بين العلم وفلسفة العلم، ونعود لتأكيد ذلك الآن لنقول إن التفاعل المادي الروحي في الحياة الانسانية وتطورها وارتقائها هو شأن علمي وأساس علمي وليس مجرد نظريات وتأويلات وترجيحات وفلسفات علوم. فقد ميّزنا في قراءتنا لكتاب نشوء الامم في الحلقتين السابقتين بين ما هو حقائق علمية وما هو ترجيحات وتأويلات ونظريات وسائر فروع فلسفة العلوم. ورأينا كيف كان سعاده واضحاً وصادقاً ودقيقاً وحريصاً على هذا التمييز ولفت نظرنا إليه في كتابه.
هذا كان تمهيداً لا بد منه لفهم موضوعنا الآن وهو: ما المقصود بعبارة “النظرة الى الحياة والكون والفن” والذي سنرى أنه نظرة تشمل فلسفة العلم ثم العلم ثم الفن ثم فلسفة الحياة.
النظرة الى الحياة والكون والفن
- لمحة عن بدء إستعمال سعاده لهذه العبارة
لقد استعمل سعاده هذه العبارة لأول مرة في سلسلة مقالات “الصراع الفكري في الأدب السوري” أواخر سنة 1942، أي عشر سنوات بعد وضعه العقيدة وتأسيس الحزب. لكن النظرة الى الحياة والكون والفن كانت موجودة في العقيدة والمبادىء منذ اللحظة الأولى لكن دون ذكر هذه العبارة بالضبط. والدليل على ذلك هو ورودها في شرح سعاده في 18 كانون الثاني سنة 1948 للخطاب المنهاجي الاول الموضوع سنة 1935، حيث قال شارحاً ذلك الخطاب:
“لا يمكن أن نوحِّد إتجاهنا إذا لم تكن لنا نظرة واحدة الى الحياة والكون والفن”.
نعود الى إستعمال سعاده لهذا التعبير لأول مرة، لقد كان ذلك في مقالة “تجديد الأدب وتجديد الحياة” في 15-9-1942 (المقالة الثانية من سلسلة الصراع الفكري في الادب السوري)، كان يشرح نظرية “ان الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راق ونتاج مخيلة مبدعة قدرت بذاتها أن تتصور عالماً من الافكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والالحان تحتاج بدورها الى عصر يفهمها، وهذه المخيلة المبدعة يجب أن تكون متاثرة بإحساس بقضايا الحياة عالِ جداً لا يكون، في الغالب، أو لا يجب أن يكون، إبداعاً خاصاً بالموسيقي المبدع” (الاعمال الكاملة ج6 ص334). يتابع سعاده ويقول:
“لإشرح هذه النظرية: إن واغنر موسيقي مبدع ولا شك، وهو في الموسيقى نسيج وحده، ولكن موسيقاه مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بإحساس الحياة المستمدة من الاساطير الجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفية المنطوية عليها حياة أبطال تلك الاساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الالمانية الى الحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعاً للنظرة الالمانية الى الحياة ولا واضعاً للاساطير الجرمانية ولكنه مبدع للموحيات والامواج الموسيقية المعبرة عن النظرة المذكورة…”
وكان قبل ذلك في المقالة نفسها قد قال: “إن الادب كله والشعر كله من حيث هو صناعة يقصد مها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يُحدِث تجديداً من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور عينه، ولذلك أقول أن التجديد في الأدب (والشعر) هو مُسَبَّب لا سبب، هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر والشعور في الحياة وفي النظرة الى الحياة، هو نتيجة حصول ثورة روحية – مادية أجتماعية سياسية تغيّر حياة شعب بأسره وأوضاع حياته وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه”.
بعد ذلك تتكرر عبارة “النظرة الى الحياة والكون والفن” وأحياناً “النظرة الى الحياة” في هذه المقالة، وفي غيرها من سلسلة مقالات الصراع الفكري سنة 1942، مثل مقالة “من الظلمة الى النور” ومقالة “طريق الفكر السوري” و”طريق الادب السوري”، فنقرأ عبارات مثل: “الفلسفة والنظرة الى الحياة الجديدتين”، أو “النظرة الفلسفية الجديدة في الحياة الانسانية وعواملها واغراضها الأخيرة”، أو “النظرة الفلسفية الجديدة الى الحياة والكون والفن”، أو “عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها”، أو “النظرة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية الملازمة للجماعات البشرية”، أو “فهم جديد للحياة وقضاياها والكون وامكانياته والفن ومراميه.” وبعد ذلك الوقت صارت عبارة “نظرة فلسفية جديدة الى الحياة والكون والفن” تجري على لسان سعاده وقلمه حتى في مقالاته السياسية التي كتبها سنة 1948و49 مثل مقالة “لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً” حيث عبارة “النظرة المدرحية الى الحياة والكون والفن“، وفي مقالة “الأمة تريد نهضة لا حِلَّة” نجد نفس العبارة.
- مصدر العبارة
لم نقع على عبارة “نظرة الى الحياة والكون والفن” عند غير سعاده من الفلاسفة أو العلماء أو المؤرخين أو الأدباء. فهل كان سعاده هو أول من استعمل هذه العبارة أو الوحيد الذي استعملها؟ الحقيقة أننا لا نعرف، مع أن بعض الدارسين ومنهم الدكتور عادل بشارة يعتقد، ولا يجزم، أنها كانت مستعملة عند الفلاسفة الالمان في القرن الفائت وأن سعاده ربما قرأها هناك وهو المطلع على المدارس الفكرية والفلسفية الالمانية والعالمية وكان يجيد لغاتها الرئيسة من اسبانية وانكليزية وفرنسية وروسية والمانية، وكان يدرِّس هذه اللغة الاخيرة في الجامعة الاميركية في بيروت سنة 1932، وهو كان أيضاً يخاطب العالم فلسفياً، ويقول مثلاً :”ندعو العالم للتسليم معنا بأن أساس الحياة الانسانية هو أساس مادي روحي…”. لكن لم يتسن لنا الاطلاع على المؤلفات أو الخطابات الفلسفية الالمانية أو ترجماتها كي نجزم إذا كانت عبارة “النظرة الى الحياة والكون والفن” موجودة هناك أم غير موجودة. إن الإشارة الوحيدة المتوفرة لنا التي ربما توحي أن العبارة مأخوذة من هناك، هي أن سعاده إستعملها لأول مرة عندما كان يتكلم على الموسيقي الالماني واغنر وعندما قال عنه “إن شعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الالمانية الى الحياة والكون والفن“. ومهما يكن من أمر فإن نظرة سعاده المدرحية الى الحياة والكون والفن لا شك أنها تختلف جوهرياً عن النظرة الالمانية الجرمانية، وهذا بحث مستقل.
- لماذا هي ثلاثية، حياة وكون وفن.
نحن نعرف أن الفلاسفة يصيغون أفكارهم بكلمات قليلة، أحياناً كلمة واحدة أو كلمتين، وفي الأكثر جملة أو جملتين، مثل المدرحية، ومثل الانسان المجتمع ومثل الدين للانسان وليس الانسان للدين، أو اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض، ومثل الحرية صراع والحق أنتصار ومثل المجتمع معرفة والمعرفة قوة ومثل المادية التاريخية أو الاشتراكية العلمية (وهذه فلسفة وليست علماً، ولو عارضني نزار دندش وشوقي مسلماني).
أما ثلاثية الحياة والكون والفن فإنها تثير التباساً لدى البعض لناحية العلاقة بين أضلاعها الثلاثة فيسأل هذا البعض ويقول: لماذا الحياة والكون والفن حصراً وليس الحياة والانسان والتاريخ مثلاً. وما هو الكون، وما هو الفن في هذه الثلاثية وما علاقته بالكون، وما علاقة كل من الكون والفن بالحياة…الخ. ولسعاده أيضاً ثلاثيات ورباعيات أخرى مثل: الحق والخير والجمال، وأيضاً: حرية واجب نظام قوة. فكيف ولماذا جمع وفرز هذه القيم بالتحديد مع بعضها وعن بعضها وما وجه الانسجام أو العلاقة بينها؟
إن الجواب على هذه الأسئلة هو أن للفلاسفة لغتهم وموحياتهم وفهمهم لأبعاد أفكارهم وطريقتهم في التعبير عنها. وإذا كنا نصر على فهمها فهماً عادياً، وليس فهماً فلسفياً، فإننا قد نقع في الالتباس ونكون سذّجاً وسطحيين إذ نطلب من الفلاسفة أن يعلموننا لغتهم ويترجمونها لنا بلغتنا، إن هذا غير ممكن.
رغم ذلك، فأن لغة الفلاسفة ومعاني أفكارهم ليست ولا يجب أن تكون طلاسم وأحاجي، بل معبِّرة تعبيراً يمكن فهمه. ولفهم الفيلسوف وفهم عباراته وأفكاره يجب علينا أن نقرأه كله، أي أن نقرأ كل أقواله وندرسه جيداً ونقرأه كثيراً ونتتبع عباراته أينما قيلت على لسانه أو كُتِبت بقلمه، لنفهم ما يريد أن يقوله لنا ويعلمنا إياه.
فلكي نفهم العلاقة بين معاني الحياة والكون والفن، إذاً، يجب أن نتتبع سعاده ونتقصّى أين ومتى قال بالنظرة الى الحياة والكون والفن، وكيف قالها.
عندما نفعل ذلك يتبيّن لنا بوضوح أن الكون يقصد به الوجود المشتمل على الحياة الإنسانية نفسها، ولا يقصد بالكون شيئاً سماوياً أو غيبياً أو مفارقاً للحياة الى ما ورائها ووراء هذا الوجود، كما يمكن أن يكون عالقاً بذهن البعض. وقد قلنا في حلقة سابقة أن نظرة سعاده الى الكون لا تعني أبداً نظرة الى منشأ الكون او ما هو الكون الذي كان موضوع الفلسفة الاغريقية في مرتبتها الاولى مع طاليس أي قبل سقراط . فموضوع الكون إذاً هو غير موضوع منشأ الكون . الكون الذي ينظر إليه سعاده هو هذا الذي يتضمن الوجود ويشمل الحياة في أساسها ومصالحها ومصيرها وكل ما يتعلق بالحياة وارتقاء الحياة. وهذا يختلف جذريا عن موضوع الفلسفة الاغريقية في مرتبتها الاولى الذي هو موضوع كيف انوجد الكون ومن أوجد الكون ولماذا أوجد موجد الكون الكون وغيرها من الاسئلة الماورائية التي لا تتعلق بالحياة والانسان. الكون المعني في عبارة سعاده الفلسفية هو الكيان الانساني في هذا الوجود، هو ما يكون أو ما هو كائن أي ما هو موجود. نستدلّ على ذلك من أن سعاده يختصر هذه العبارة أحياناً لتصبح “النظرة الى الحياة” فقط، مما يعني أن الحياة تشمل الكون والفن أيضاً، وهذين الأخيرين هما جزء من الحياة ومعناها.
وهذا ليس دليلنا الوحيد، فإن استعمال سعاده لهذه الثلاثية هو غالباً ما يكون مشفوعاً بالتأكيد على أن موضوعه هو الوجود الانساني وقضاياه الاجتماعية والاقتصادية المادية والنفسية، وليس أي شيء آخر خارج وأبعد من هذه القضايا. وهذه بعض الأمثلة:
“تعالوا نأخذ بنظرة جديدة الى الحياة والكون والفن وبفهم جديد للوجود وقضاياه نجد فيهما حقيقة نفسيتنا ومطامحنا ومثلنا العليا…تعالوا نفهم أنفسنا وتاريخنا على ضوء نظرتنا الى الحياة والكون والفن” (مقالة طريق الفكر السوري).
“…حياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الانساني وقضاياه التي نجد فيها الفرد والمجتمع وعلاقاتهما ومثلهما العليا كما تراها النظرة الجديدة الاصلية الى الحياة والكون والفن” (من مقالة طريق الادب السوري).
…”الأدباء الذين اتصلوا بالنظرة الجديدة الى الحياة والكون والفن وفهموا قضاياها الكبرى في الحقوق والسياسة والاقتصاد والاجتماع وفي الاخلاق والمناقب والمثل العليا” (نفس المصدر)
وقد ذكرنا في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة ما قاله سعاده عن موضوع فلسفته وقضيته ونعيد ذكر بعضه هنا كالتالي: “إن المبدأ الذي جاء به سعاده هو نظرية شاملة تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية…وهو فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ.” (من مقالة بين الجمود والارتقاء). إن فلسفة سعاده هي “فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية” (من رسالته الى القوميين سنة 1947).
هذا عن الكون ومعناه والمقصود منه، فماذا عن الفن؟
الفن هنا ليس مجرد ما نسمّيه “الفنون الجميلة”، بل هو أبعد وأعمق وأشمل من ذلك بكثير. الفن في الحياة هو كيفية الاستفادة من العلوم واستعمالها لتنمية وتطوير وتحسين وتجميل الحياة، لذلك نقرن الفنون بالعلوم ونقول: “العلوم والفنون”. إن سير الحياة وتطورها وارتقائها لا يحدث تلقائياً بل يحدث بالفن، أي بتدخّل الإنسان واستفادته من علومه ومعارفه ومداركه واختباراته وثقافته لتشييد حياته وتجميلها وتحسينها. إن أعمال الانسان على مرسح الطبيعة هي الفن، وعلى نوعية ومستوى هذا الفن يكون مستوى تطور حياة الانسان.
النظرة المادية البحتة للحياة التي تقول بالحتمية التاريخية لا تعطي الفن دوراً فاعلاً ومحرِّكاً ودافعاً للتاريخ، ذلك لأن الفن ليس شأناً مادياً فقط بل هو شأن إبداعي أنساني ثقافي نفسي. والنظرة الروحية البحتة (القدرية) لا تعتبر الفن عاملاً في الحياة والتاريخ لأن الفن إبداعي ثقافي إنساني بينما هي تعطي الأدوار كلها للقوى الغيبية. بالمقابل نجد أن النظرة المدرحية الى الحياة تعطي للفن دوراً رئيساً في الحياة الانسانية وتطورها، فكما أن التاريخ غير مكتوب في الأديم، كما يقول سعاده، فالتاريخ أيضاً غير مكتوب في السماء.
هذا هو المغزى من اشتمال النظرة الفلسفية المدرحية الى الحياة والكون، على الفن. إن الحياة الانسانية لا يمكن تخيلها صالحة وقوية وجميلة من دون فن، الحياة لا تستأهل أن نحياها من دون فن، أي من دون إبداع الانسان ونوعية ومستوى تفاعله مع هذا الوجود الماثل أمامه.
هكذا تكون النظرة الى الحياة والكون والفن نظرة واحدة، وهكذا تشكل الحياة مع الكون مع الفن وجوداً واحداً وقضية إنسانية واحدة.
- النظرة الى الحياة والكون والفن أكاديمياً
لقد ذكرنا في مستهلّ هذه المقالة أن سعاده لم يكن أكاديمياً وهو ليس خريجاً في الفلسفة من أحدى الجامعات ولا يلتزم بالمفردات الاكاديمية بل له لغته ومفرداته التي يعبِّر بواسطتها عن فلسفته ونظرته الى الحياة والكون والفن.
وقد ذكرنا أيضاً أن سعاده لم يستعمل تعبير “فلسفة العلوم” بل استعمل في مقدمة كتاب نشوء الأمم تعبير “التأويلات النظرية وسائر فروع الفلسفة”، وفي أماكن أخرى يستعمل تعبير “عقيدة تفسير الحياة”، فتفسير الحياة هو علم أما عقيدة تفسير الحياة فما هو إلا فلسفة العلم. فالعلاقة، أكاديمياً، هي ترابطية تسلسلية من فلسفة العلوم الى العلوم الى الفنون الى فلسفة الحياة، وهذه الأخيرة نسمّيها أكاديمياً الفلسفة المعيارية أو الفلسفة الوجوبية أو الفلسفة الأخلاقية، ومهمتها هي الجواب على سؤال “ماذا يجب أن نعمل لتحسين الحياة؟” أو “ما العمل؟”
أما سعاده فقد عبَّر عن ترابط هذه الشؤون بتعبير جديد نحته هو، أو تبناه، وهو تعبير “النظرة الى الحياة والكون والفن”.
وكما أن الأكاديميين أدركوا ترابط فلسفة العلوم والعلوم والفنون وفلسفة الحياة، وأنها مسائل تؤلف قضية واحدة وليست مسائل منفصلة ومستقلة تماماً عن بعضها، فإن سعاده أيضاً قد نظر نظرة واحدة الى الحياة والكون والفن وليس نظرات مستقلة ومنفصلة الى كل من الحياة والكون والفن.
في الحلقة القادمة: مثل ونصّ من سعاده على وحدة الوجود من فلسفة العلوم (عقيدة تفسير الحياة) الى العلوم الى الفنون الى فلسفة الحياة.