المجتمع مرة أخرى-نجيب نصير

image_pdfimage_print

لا أظن أنها مرحلة جديدة تفتتح في إطار التهافت المرير في أداء سكانيات كيانات الأمة السورية المقترحة. هذه المرحلة تتوج اليوم بمستجدين فاقعين إعلامياً على الأقل: الأول داخلي يتمثل بالاحتجاجات الشعبية في شرقي الأردن. والثاني “خارجي” هو قطع مياه نهر دجلة وتحويله إلى ساقية.

قد يبدو هذان الحدثان عاديين. وهما بالفعل عاديان في ظل مناقشة الأسباب والنتائج التي وصلت إليها تلك الكيانات. ولكن غير العادي فيهما هو المسارعة إلى تطويق مجرياتهما بإمكانيات هي من نواتج التأزيم المتواصل للقضية المجتمعية وتراكم نتائجه. ذلك  التأزيم المؤدي إلى استقطاع جزء من الدورة الاقتصادية الاجتماعية  للإقليم السوري بفعل التقسيم أو الاحتلالات، ومن ثم التوهم المستدام بكون هذا مجتمعاً ناجزاً له ما له وعليه ما عليه، أسوة ببقية مجتمعات المعمورة، وذلك بدلالة “دولة” ما تعلنه هويةً وعضوية في هيئة الأمم المتحدة بحجة وجود سكان وأهالي في الإقليم الجغرافي المعلن، بحاجة إلى من يدير شؤونهم وينظم طوابيرهم.

لم تعد سايكس- بيكو وملحقاتها الكثيرة مناسبة جيدة للاحتفاء التفجعي، فما رسي على الأرض هو من يتعامل مع مفاعيل الحياة ومنها التجزئة. فالتجزئة على ما ظهر ليست سياسية ولا هوياتية، بل هي تجزئة إقتصادية إنتاجية مصالحية من جهة، ومجتمعية ثقافية معرفية من جهة أخرى. وعلى هذا تبدو هذه الكيانات بين طرفي كماشة دائمة تطبق طرفيها على عنق الأهالي لأي سبب كان مهما صغر، بما في ذلك شح الأمطار أو زيادة هطولاتها، لتبدو هذه السكانيات دائماً كما الأطفال مبكري الولادة بحاجة إلى حاضنة ترعى حالتهم ولا تضمن لهم البقاء. هذا النوع من التجزئة  “المصالحية الإنتاجية” كان ضمانة البقاء التي لا تدرك، ولم يتحرك الخديج لمغادرة حاضنته إلا بالشعارات والوعود الإستراتيجية جداً. هذه الشعارات والوعود لم ترقَ يوماً إلى أي مستوىً من مستويات التعاقد، أو حتى السعي خيرياً لإزالة معيقات الدورة الاقتصادية الاجتماعية، لأنها وببساطة تشكل خطراً ماحقاً على “الدول” التي آمنت وصدقت بأنها تملك هوية من خارج الإنتاج ومصالحه!

في التنظير السياسي يمكننا أن نرى وبوضوح نتائج الأزمة الشامية على الأردن كصاحب مصلحة، وأهمها إغلاق الحدود. كما يمكننا لمس نتائج الاحتلال التركي لكيليكيا ومناطق جنوب جبال الأناضول وتأثيرها في حروب التعطيش. ولكن السكوت الحيوي (الإنتاجي/ المعرفي) جعل من الأمر واقعاً يتجاوز ويهمش وجود الأهالي الذين لا إنتاج لهم، أي لا مصالح تجمعهم، ما يؤدي حتماً إلى فقدان القدرة على التماسك، وبالتالي فقدان المناعة ضد أي عارض يحتاج في مقاومته إلى مقومات مجتمع حديث. وهنا لا نتكلم عن توسع جغرافي إندماجي أولاً، بل نتكلم عن قيام متحد إجتماعي يخضع في سيرورته لإستحقاقات الوجود الإنتاجية وما يتمخض عنها من ممارسة حقوقية تنظم المصالح المنبثقة عن الإنتاج، حيث نلحظ حالياً وجود كل المظاهر اللازمة للإعلان عن كيان يحكم الإقليم مع غياب للإنتاج الذي تولد الدولة على يديه في سيرورة حتمية نحو أزمات عضوية ووجودية لا تشكل إدارتها أي فارق أو علاج.

القدرة على التماسك هي خصلة مجتمعية تعني تماماً الاشتراك الإرادي بالمصير. وعليه فإن أي احتجاج أو رأي مختلف هو تأكيد على وجود المجتمع المولد لدولة (المجتمع والدولة معاً). ولا يكون هكذا احتجاج تخريبياً أو جذرياً إلا في حالة واحدة هي توهم وجود مجتمع. ولذلك يبدو عدم الإحتجاج أو رفض الاحتلال التركي للبلاد هو نزول عند رغبة اللادولة المنبثقة سكانيات ما قبل مجتمعية أو لا مجتمعية، وتعرض الأهالي للعطش هو أحد الإستحقاقات الإنتاجية. فالسكانيات وحتى المجتمعات غير القادرة على الإنتاج الإيجابي بمعانيه ومستوياته البنائية المتعددة، هي حكماً في واقع الإنتاج السلبي بمعانيه ومستوياته الخرائبية المتعددة. ومن هنا تبدو زيادة الضرائب في الأردن تعبيراً فاضحاً عن شح الموارد الممولة لـ”الدولة”، إذ لا مجتمع يحتاجها فعلياً لتنظيم مصالحه، بل الموجود سكانيات تطالب برعاية من نوع أو أنواع ما مقابل الإعتراف بهكذا “دولة”. وهنا تنقلب الأدوار بين “الدولة” و”المجتمع” لتصبح في حالتنا بين سلطة وناس يتبادلان التكاذب التفخيمي في ما بينهما. أي أن الناس هنا ليس لديهم إنتاج يمول دولة تقوم على خدمته كمصلحة لهؤلاء الناس، دولة يمكن محاسبتها  بأدواتها حسب التعاقد معها، بل مجرد ناس ينتظرون تلقي الرعاية مقابل القبول بسلطة ما.

في هذين المثالين (مجرد مثالين) لا يمكننا الوصول إلى الحكم على ومحاسبة لب كرة الثلج التي لما تزل متدحرجة، ولا يمكن إيقافها وتفكيكها إلا عبر سلسلة من العمليات الثقافية التي قد تصدم الناس وتثير حفيظتهم . وقد فعلت ذلك سابقاً ولكن بطريقة توعوية خيرية في عهد ما يسمى “عصر النهضة العربية” التي أجهضت بسبب عدم وجود بيئة إنتاجية تحتاج الى تنظيم معرفي حقوقي، إذ قامت بمصارحة الناس بعيوب إجتماعهم ودعوتهم إلى عقد اجتماعي واضح ومعلن يحدد مسؤولية الأطراف. وكان هذا من مقاربة المستحيل ليس في كيانات الأمة السورية فحسب بل في كل أصقاع العالم العربي. إنها دعوة تأسيس المجتمع المنتج حسب ما توصلت اليه المعرفة في العالم. إنه (أي المجتمع الحديث) الإستحقاق الأكثر ضرورة في حياة شعوب المنطقة. ولكن الواقع يقول إنه لا مصلحة لأحد بحدوث هذه النقلة، خصوصاً بعد تجربة الأهالي مع السلطات الثورية التي أثبتت عقم تجربة السكانيات القبل مجتمعية بالوصول إلى أي مكان. وها هي كيانات الأمة منفردة ومجتمعة تنتقل من كارثة إلى أعتى كأضحية تذهب بقدميها إلى حتفها.

اليوم تعاني سكانيات المنطقة العربية برمتها من معضلة الفشل في بناء مجتمع مولد للدولة. هذه المعضلة هي نفسها المتسببة في إستمرارها بواسطة مجموعة كبيرة من الإنهزامات على المستويات الإنتاجية كافة. فجميع الحلول المقترحة لهذه المعضلة منبثقة من لدنها، أي من واقعها: واقع عدم الشبع والمنعة. وهذا ما يفسر تراكض السياسيين إلى التذرع بالضغوط الخارجية لتبرير مشكلة صغيرة كالزبالة والنفايات أو “كبيرة” كفرض الضرائب على الرعايا، وما بينهما من مشاكل كالفساد والطائفية والتحاصص والإحتلالات والنقص في الكرامة الإنسانية والمساواة العرجاء… إلخ إلخ!

من الهزلي في هكذا وقت إقتراح وحدات جغرافية أو إندماجية أو حتى الحلم بها من أجل تحقيق المتحد الأكبر أو المجتمع الأكمل. ولكن، وفي ظل هذه الكيانات، ألا يمكن أن نحقق ولو وجوداً متماسكاً بين أعضاء “الدولة الكيان” المقدسة التي لا يمكن مساءلتها عن التقصير الإنتاجي الواضح في مثال الأردن الذي يفرض واقعاً عديم الضرائب لعدم وجود الإنتاج ولا ظروفه المساعدة؟ أو مساءلة “الدولة” العراقية عن تقصيرها في مساءلة المحتل التركي حول بناء السدود المائية القاتلة للعراقيين من دافعي الضرائب التي يتسبب دجلة في إخراجها من الإنتاج الزراعي؟ ألهذه الدرجة من السرية تقبع تكنولوجيات المجتمع والدولة بعيدة عن إرادة الأهالي من سكان وسلطات؟ من الواضح من خلال الأداء السكاني الإنتاجي أن الجواب هو نعم. فنحن لما نزل بعيدين عن المنظومة الحقوقية المولدة للمجتمع على الرغم من وجود هذا الكم من العباقرة ممن ما زالوا يباهون الأمم بمعرفتهم بـ “من باض البيضة”.

فما الذي لا تمتلكه هذه السكانيات من عوامل ومسببات الكوارث؟ وما الذي ينقصها حتى تستكمل أهليتها للفناء؟ لا أعتقد هنا أنه من الجدي البحث عن أمل أو تفاؤل ثوري أو إصلاحي خارج دائرة تأسيس المجتمع العلانية، والتي عليها الخضوع لكل مسببات انبثاق المجتمع حتى لو أدى ذلك إلى تحطيم كل البنية الثقافية المعتادة أو المتوارثة من أجل ممارسة منظومة حقوقية جديدة تفضي إلى مجتمع. فما قيل منذ عصر “النهضة العربية” إلى يومنا هذا لم يقد هذه السكانيات إلا إلى الفشل. ولعل أرقام الهجرة من البلاد لم تختلف نسبياً بين العصر العثماني والعصر الحالي! وهو ما يشير إلى استمرار حالة العطالة المجتمعية في جميع فعالياتها، كما يشير إلى هشاشة البنية الإنسانية عديمة المناعة القابلة للعطب عند أي حادث طبيعي حيث لا سبيل غير التعايش معها والتحسر على ما قبلها إنتظاراً لعطب مقوض جديد.

 

في هذا العدد<< هل ثأر يوسف الخال من انطون سعاده؟-جان دايهتوسع الحزب السوري القومي الاجتماعي في سوريا -جيسي ماكدونالد >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments