1

“القوميات الفئوية” في زمن التشرذم!

كان جون سنو، مقدّم النشرة الإخبارية في القناة الرابعة للتلفزيون البريطاني، يغطي تظاهرة حاشدة نظمها دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي أمام مجلس العموم البريطاني عندما أطلق عبارة أثارت عليه موجة من الغضب، ودفعت هيئة مراقبة الأداء الإعلامي الرسمية إلى فتح تحقيق معه. فماذا قال هذا الصحافي المخضرم والمحترم في الأوساط المهنية حتى انصبّت عليه الانتقادات من كل حدب وصوب؟

قال سنو واصفاً الألوف من المتظاهرين المطالبين باحترام نتائج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إنه لم يرَ من قبل “مثل هذا العدد الكبير من الناس البيض في مكان واحد”! ومع أنه كان يصف الواقع كما رآه هو ورآه كل من كان يتابع التغطية التلفزيونية المباشرة، إلا أن ردود الفعل كانت صاخبة بحيث اضطرت إدارة القناة إلى التوضيح والاعتذار

في الوقت نفسه تقريباً، وعلى شاشة قناة تلفزيونية بريطانية أخرى، كان أحد المحللين السياسيين يتحدث عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتداعيات الخطيرة على السياسات الأوروبية في المستقبل. ولم يتورع هذا الباحث عن استعمال عبارة “القومية العرقية” Ethnic Nationalism  لوصف النزعات الجديدة التي أخذت تنتشر مؤخراً في عدد من الدول الأوروبية، وقد حققت نجاحات ملحوظة في كل من ألمانيا وإيطاليا والنمسا ومعظم دول شرق أوروبا. ولا شك عندنا في أن نتائج الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي تندرج في سياق تلك النزعات الشعبوية والعنصرية.

عبارة “القومية العرقية” ليست الوحيدة المتداولة في الأدبيات السياسية هذه الأيام لوصف التغير الملحوظ في المزاج الشعبي العام، سواء في أوروبا أو خارجها. فعلى سبيل المثال نحن نقرأ عن “القومية اللغوية” و”القومية الدينية” و”القومية المذهبية” في عودة فاقعة إلى المفاهيم العنصرية التي صبغت صراعات مطلع القرن الماضي، والتي كان يُعتقد بأن الحربين العالميتين الأولى والثانية وضعتا حداً لها لصالح مفهوم “الدولة الوطنية” القائمة على المشاركة في وحدة الحياة الاجتماعية، أي بمعنى آخر مفهوم “القومية الاجتماعية” التي هي نتاج تفاعل أفقي وعامودي داخل المجتمع الموّحد ذي المصالح المشتركة.

ما يحدث في أوروبا الآن، وإلى حد بعيد في أماكن أخرى من العالم، يشكل انتكاسة خطيرة ستترك تداعيات جذرية على الأوضاع الدولية برمتها. ذلك أن القارة الأوروبية تمكنت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من إيجاد “هوية عليا” تتجاوز الهويات الفسيفسائية المتناقضة التي ميّزت السياسات الأوروبية طيلة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ويستوي في ذلك المعسكران الرأسمالي والاشتراكي اللذان قاما على أنقاض أوروبا الخارجة منهكة من حربين مدمرتين لم تفصل بينهما سوى ثلاثة عقود فقط.

تمكنت “الهوية العليا” لغرب أوروبا، متمثلة في عضوية “السوق الأوروبية المشتركة”، ولاحقاً في الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) من تجاوز الهويات الفئوية العرقية والمذهبية والدينية واللغوية التي بقيت كامنة على المستوى الشعبي. كذلك تمكنت “الهوية العليا” الشيوعية من خلال المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو (المنافس للحلف الأطلسي) من لعب الدور نفسه تقريباً. وطالما ظلت تلك “الهوية” قادرة على تأمين السلام والازدهار للشعوب الأوروبية، سواء بالترغيب أو بالترهيب، فإن الهويات الفئوية الأخرى لم تجد ما يدفعها إلى واجهة التناقض مع “الهوية العليا”.

وكان من الطبيعي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي أن تنتعش الهويات الفئوية فور تلاشي “الهوية العليا” الشيوعية. وتقدم لنا يوغسلافيا (السابقة) أبرز الأمثلة على ما يمكن أن يحدث عندما تتناحر القوميات الفئوية المتجاورة جغرافياً والمتساكنة اجتماعياً. فحروب البلقان التي انفجرت سنة 1991 ما تزال تلقي بظلالها الكثيفة على مجمل أوروبا الشرقية حتى يومنا هذا، على الرغم من المساعي المستمرة لضم تلك الدول إلى “هوية عليا” جديدة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي

.

ومع أن أوروبا الغربية لم تتعرض لمثل ما عانى منه الشطر الشرقي من تشرذم وصراعات دموية (حتى الآن على الأقل!)، إلا أننا بدأنا نشهد تململات وتشنجات داخلية متأثرة بالأوضاع الاقتصادية والسياسية تطرح تساؤلات مفصلية حول دور المركزية الأوروبية وهيمنتها على حساب “الهويات الفئوية” المتنوعة ذات الجذور التاريخية في المجتمعات المحلية. وليست التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة بين دول الاتحاد الأوروبي سوى التمظهر المبكر لانتفاضة “الهويات الفئوية”، وسعيها إلى أن تصبح هي الهوية الجامعة لهذا المجتمع أو ذاك. إذ غالباً ما يعمد القادة الشعبويون إلى تعزيز الهويات الفئوية وتحريكها، ومن ثم استغلالها في المعارك السياسية داخلياً وخارجياً.

في 8 أيار سنة 2017 نشرتُ مقالاً بعنوان “انتفاضة الـ WASP” تناولتُ فيه الحراك الجديد في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية واستراليا وكندا ونيوزيلندا التي تشكل مجموعة White Anglo Saxons Protestant. وكان أبرز الأمثلة على تلك الانتفاضة سياسة “أميركا أولاً” التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتصويت الغالبية العظمى من البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي غضون السنتين الماضيتين اللتين مرتا على ذلك المقال، برزت “الهويات الفئوية” بحدة في أوروبا ما بات يتطلب إعادة نظر جذرية في المسلمات التي قامت عليها “الوحدة الأوروبية” منذ أن سكتت أصوات المدافع في الحرب العالمية الثانية.

تظهر لنا الأحداث التاريخية أن عالمنا العربي كان يدفع الثمن دائماً سواء تصارعت أمم أوروبا أو تصالحت. وكما أن مخططات ترامب التي تتكشف تباعاً في ما يتعلق بقضايانا القومية متناقضة كلياً مع مصالحنا الحيوية، فمن المتوقع أن تتخذ أوروبا مواقف متناغمة إلى حد بعيد مع السياسات الأميركية، بغض النظر عن الصيغ الوحدوية الداخلية التي سترسو عليها مستقبلاً. لكن سيكون عليها أولاً أن تجد علاجاً سريعاً لبروز “الهويات الفئوية” قبل أن يستفحل خطرها بحيث تشكل تهديداً للاستقرار الأوروبي الذي قام على ركيزتين: الازدهار الداخلي، والتدخل الخارجي. ذلك أن السلم الأوروبي الذاتي يحتاج إلى دعائم اقتصادية متواصلة… وبلادنا الغنية بمواردها الطبيعية كانت دائماً في مرمى الجشع الاستعماري بأشكاله المتنوعة!

 

.