1

القاموس العربي للجُزر

ليس الكتاب الذي نتولى عرضه قاموسا جغرافيا للجُزر بالمعنى المتعارَف عليه للقواميس، بل هو مؤلَّف جامع
تتداخل فيه عديد أصناف التآليف التاريخية والجغرافية والفيلولوجية والأدبية حول موضوع الجزر، وهو أقرب إلى الأنطولوجيا والمختارات، وإن آثر صاحبه عنونته بالقاموس. يتضمّن الكتاب مجموعة من النصوص تدور حول موضوع الجُزُر، مستخلَصة من كتابات عربية تعود إلى الحقبة الوسيطة، تم انتقاؤها بعناية من قِبل المؤلف الإيطالي أنجيلو أرْيولي وترجمتها والتعليق عليها. وعلى العموم يحوي المؤلَّف في متنه حديثا حول الجزر تقع وفق الحكي في بحر الصين والمحيط الهندي وفي أطراف جنوب القارة الإفريقية ثم باتجاه الغرب نحو بحر الظلمات، وهي أحيانا خيالية وأخرى واقعية. فالكتاب هو استعادة لتلك الروايات بشأن طبيعة الحياة وجغرافية المكان، كما تناقلها التجار والرحالة، وما دوّنته أقلام الأدباء، وما أوردته كتب الإخباريين والجغرافيين.

اعتمد المؤلف خطةً واضحة في مؤلفه استندت إلى سلسلة من المصادر العربية، صنّف من خلالها كتابه عن الجزر. تغطّي تلك المدوّنات فترة زمنية تتراوح ما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر الميلاديين. وكتّاب تلك الفترة الممتدة على ستة قرون هم من مثّلوا مصادر الحديث عن الجزر، الكثير منهم تحدّثَ كشاهد عيان، وبعضهم روى عن غيره وبعضهم عاد إلى مصادر قديمة، ومنهم من أشار إلى المصادر ومنهم من غفل عن ذلك أو تغافل.

وأصحاب النصوص المعتمَدة من قِبل المؤلف الإيطالي لبناء قاموسه حول الجزر هم: التاجر سليمان ونصه مستوحى من مخطوط “أخبار الصين والهند” المودع في المكتبة الوطنية بباريس، وهو يعود إلى العام 851م؛ ابن الفقيه الهمذاني صاحب “كتاب البلدان“؛ بزرك بن شهريار الرامهرمزي صاحب “كتاب عجائب الهند”؛ ابن واصف شاه صاحب “مختصر العجائب“؛ الشريف الإدريسي صاحب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق“؛ القزويني صاحب “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات“؛ شمس الدين أبو عبد الله محمد الدمشقي صاحب “نخبة الدهر في عجائب البر والبحر“، ابن بطوطة صاحب “تحفة النظار في عجائب الأمصار“؛ الحميري صاحب “كتاب الروض المعطار في أخبار الأقطار“؛ ابن الوردي صاحب كتاب “خريدة العجائب وفريدة الغرائب“.

اعتمد المؤلِّف الإيطالي خطّة واضحة المعالم في التأليف، حيث قدّم لكتابه بمقدمة علمية تطرق فيها إلى المدونات التاريخية التي استخلص منها نصوصه، مبرزا أن الحديث عن الجزر هو متنوع، يختلط فيه الواقعي بالخيالي، والتاريخي باللاتاريخي، بحسب السياق الذي وردت فيه. شكّل حديثُ الجزر القسمَ الأول والرئيس من الكتاب، وقد أتى معنوَنا بـ “الكتّاب والجزر”، حيث يفرد المؤلف أريولي في مطلع كل مجموعة مختارة من الجزر، مستوحاة من مصنّف معيَّن، تعريفا للمصدر وصاحبه ينحو فيه إلى البحث عن تاريخية المؤلِّف والشكوك التي حامت حوله أو حول نسبة مؤلفه إليه، معتمدا في ذلك التقصّي التاريخي في تدوين سيرته. يلي ذلك حديث صاحب المصدر العربي عن الجزر، الواحدة تلو الأخرى. حيث نقل أنجيلو أريولي نصوص الجزر بأمانة عالية وبلغة إيطالية أنيقة، واتّبَع في هذا القسم التقليل من الإحالات والاستطرادات إلا ما دعت الحاجة الماسة إليه. حيث يورد في البداية اسم الكاتب ثم يتناول الجزر التي وردت في مؤلفه الجزيرة تلو الأخرى. أتى عدد الجزر متفاوتا بين كاتب وآخر وذلك بحسب المذكور لديه، وقد حاز هذا القسم 160 صفحة من مجموع 343 صفحة من صفحات الكتاب. أتبَع أريولي ذلك القسم بقسم ثان في كتابه بعنوان: “التعليقات”، استغرق 131 صفحة. وتناول فيه كل شاردة وواردة عن تلك الجزر، امتزج فيها التعليق الأدبي بالتدقيق التاريخي وبالإحالات الطريفة المتنوعة والثرية. كما يحاول في عديد المواضع ربط الحديث بالجزيرة ذاتها بأعمال أخرى غربية كلاسيكية كانت أم حديثة. ولكل حديث عن جزيرة واردة في القسم الأول رقمٌ يُحيل إلى التعليق في القسم الثاني، بما ييسّر على القارئ التحول من قسم إلى آخر. واعتمد المؤلف في قسم التعليق على مقولات دارسي الماضي والرحالة والجغرافيين، مجمّعا الأخبار والمعلومات والملاحظات، وبيان إن كانت تتعلق بمواقع حقيقية أم مجرد اختلاقات، معتمدا في ذلك على التدقيق الفيلولوجي خصوصا، بما لا يخفي تأثر المؤلِّف بمناهج الفيلولوجيا الألمانية.

ليس الكتاب كتاب مؤرخ يحصحص الأمور، ويعتمد أدوات التدوين والنقد التاريخيين، ولا كتاب جغرافي أو رحالة يتتبّع تجاويف تلك الربوع المعزولة واصفا تضاريسها ومناخاتها، بل هو كتاب أقرب إلى مؤلفات الأدباء مع إيلائه التحليل الفيلولوجي أهمية بارزة. وللذكر لا يخفى على القارئ ما خلّفه “كتاب ألف ليلة وليلة” من أثر عميق في المخيال الغربي تجاه العرب، لا زالت تفاعلاته حاضرة في النظرة العجائبية الممزوجة بأجواء رومانسية ومسحة غرائبية إلى اليوم. وكتاب أرْيولي ينساق ضمن هذا الفن في الكتابة الخيالية والإيزوتيكية، التي تحاول استعادة تلك الروايات الخلابة عن الشرق، لكنه في الآن نفسه يرفد نصه بإضافات الناقد المتفحص. حيث يقول المؤلف: “هي جزر تم اختيارها من جانبي، قمتُ بترجمتها لغرض أساسي بقصد عرض رؤى فنطازية” (ص: 25).

ثمة في الكتاب نظرة غرائبية (إيزوتيكية) ممزوجة بنوع من السحر عن الشرق تلبي ذوق العديد من الغربيين، تجد مرجعية في كتب غرائب الشرق وفي الروايات التاريخية الشاذة، والكتاب الحالي بطابعه ذلك يذكي تلك النظرة الحالمة. صحيح أن الموضوع الذي يتطرق إليه أنجيلو أريولي فيه ما يغري القارئ، من خلال المختارات المنتقاة بعناية عن الجزر الغريبة وما تتضمّنه من مغامرات وعجائب وخوارق. والكتاب يستدرج ويغوي قراء غربيين يتقصّون هذا الصنف من الأدب العجائبي، وربما ذلك مما يفيد ويمتع، لكن المؤلف لا يكتفي بهذا الحشد لما يشدّ القارئ، بل نجده يرفد مختاراته بتعليقات وشروح لا تقلّ أهمية عن النصوص الواردة في القسم الأول، تنحو صوب الواقعية والنقد والتمحيص، الأمر الذي يجعل الكتاب مقروءا من قِبل فئتين من القراء: الباحثين عن المتعة الأدبية العاجلة والمقتفين للتدقيق التاريخي والفيلولوجي.

ولا يخفى على المطّلِع على كتاب “القاموس العربي للجزر في العصر الوسيط” لأريولي ما يثيره لديه من تواشج في حديث صاحبه عن الجزر مع كتاب “مدن لامرئية” لإيتالو كالفينو وكتاب “المخلوقات الوهمية” لخورخي بورخيس، وهو ما يصرح به الكاتب ويقرّ به في مقدمة كتابه، حيث ينطلق بك الكتاب من الأسطوري ليسحبك إلى حضن الواقع والتاريخ والعكس أيضا، وهو أسلوب أتقنه مؤلف الكتاب. ولكن يبقى الكتاب بوجه عام تتمة لمؤلَّفيْن سابقين نُشرا حول الموضوع ذاته: “الجزر الخلاّبة. رحلة عربية في العصور الوسيطة” (1989) و “المدن الخلابة: متاهة عربية في العصر الوسيط” (2003)، كان أريولي قد نشرهما في فترة سابقة.

فيما يتعلق بالمؤلِّف، لم يميز صاحب الكتاب انشغال بالبحث العلمي طيلة مشواره الجامعي التعليمي المطوّل، ولا شغف ثقافي بحقل الدراسات العربية، مع أنه أستاذ اللغة والآداب العربية أو “مستعرِب” كما يقدّم نفسه. وبشكل عام أنجيلو أريولي مقلّ في الكتابة رغم أنه تربّع على قسم الدراسات العربية في كلية الدراسات الشرقية في جامعة روما لاسابيينسا طيلة عقود حتى إحالته على التقاعد، حيث لا يتجاوز رصيده المنشور ثلاثة مؤلفات. وكسائر جيل المستعرِبين الإيطاليين في الحقبة المعاصرة، لا يتقن أريولي العربية مشافهة، وليس بوسعه التعامل مع نص عربي حديث أو قديم دون الالتجاء إلى القاموس، وإن درّس المؤلف مواد العربية: النحو والترجمة والأدب الكلاسيكي في جامعة روما. فقد اعتمد منهج تدريس يماثل منهج تدريس اللغات الميتة، حيث يجري تحليل التراكيب العربية وشرح النحو العربي باللغة الإيطالية مع ضرب أمثلة محدودة في ذلك بالعربية، وهو أسلوب سائد في تدريس اللغات الشرقية الحية منها والميتة. غير أن هذا النقص في منهج تدريس العربية لديه، وهو نقيصة عامة في إيطاليا وليس خاصا به، ينبغي ألا يحول دون الإقرار للرجل بأنه مدقق في ما يقول ومتثبت في ما يكتب.

ففي كتابه الذي نتولى عرضه، عاد أنجيلو أريولي إلى عديد المصادر العربية التي تناولت نصوصه المختارة، وهي مصادر تاريخية وكتب رحالة وقواميس بالأساس. تابع وقارن من خلالها مصادر الحديث عن تلك الجزر، كما عاد إلى بعض المؤلفات الغربية الكلاسيكية ذات الصلة. لكن أرجّحُ أن الكاتب كان يطّلع على النص في لغته الأصلية وفي ترجماته في الألسن الغربية ليصوغ بعد ذلك ترجمته للنصوص المختارة. فقد تعامل أريولي مع الحضارة العربية تعاملا استشراقيا باردا، لكن ذلك لا يخفي كلفه بالبعد الغرائبي في الثقافة العربية، وليس هناك ما يشي بأن الكتاب يتضمن نزعة مركزية غربية في تعليقات صاحبه. فالكتاب قيّم ومفيد، خصوصا وأنه لا ينساق ضمن موجة الشيطنة لكل ما هو عربي، بل لعله يخلّف انطباعا حسنا لدى قارئه.

فالمؤلِّف لغته الإيطالية راقية وأسلوبه واضح، حيث أتت الترجمة أمينة والصياغة سلسة علاوة على تميز الكاتب بذوق أدبي رفيع. وبوصف الكتاب عبارة عن إعادة ترتيب لطرائف وروايات موضوعها الجزر، وبما يشبه نوعا ما الأنطولوجيا ذات المضامين الجغرافية والتاريخية. حاول الكاتب في تعليقاته وشروحه اعتماد لغة راقية جاءت مفعمة بالحس الأدبي. أسعف المؤلف إلمامه بخبايا فيلولوجيا العربية قدرة على التحكم في دلالات نصوصه التي اشتغل عليها.

يبدو التدقيق اللغوي سواء العربي أو الإيطالي بارزا في نص الكاتب، وهو ما يشي بتعامل دقيق وعميق مع النصوص التي اشتغل عليها. ولعل تلك التدقيقات في القسم الثاني من الكتاب بالخصوص، هو ما يجعلها أقرب إلى اهتمامات الباحثين والدارسين. وهو ما أتى على خلاف القسم الأول الذي أقدّرُ أن قراءته يسيرة على غير المختص وعلى الباحث عن المتعة الأدبية لا غير.

هذا وقد خلا الكتاب من الفهارس الضرورية، حيث اعتمد صاحبه ضمن التعليقات والحواشي تفسير كل ما ورد مبهما أو غائما في نصوص الجزر، ولم يضمِّن المؤلفُ كتابَه سوى فهرس عام أدرج فيه أسماء الكتّاب الذين استخلص من مؤلفاتهم حديثه عن الجزر إلى جانب جردٍ بأسماء الجزر وفهرس للمراجع. كما خلا الكتاب خلوا تاما من الرسوم والجداول والخرائط، وأقدّر أن الخرائط والرسوم يحتاجها هذا الصنف من التأليف. لكن وبشكل عام الكتاب هو عبارة عن أنطولوجيا جزر مصحوبة بتعليقات.

وبرغم ما قد تبدو في القسم الأول من الكتاب من بساطة ففيه جاذبية للقارئ بشكل عام، لا سيما القارئ الغربي الباحث على المتعة الأدبية والتحليق في أجواء مفعمة بعبق الشرق. وصاحب تلك المنتخبات لم يكتف بذلك القدر، بل أردف كتابه بتفحّص لتلك النصوص، وهو ما يشفي غليل الدارس المدقق والمتمعن في خبايا النصوص. ولذا يلبّي الكتاب حاجة طائفتين من القراء: القارئ النهم والمتعطش للحكي والقارئ المتمعن والمدقق في خبايا النصوص. أعتبر أن الكتاب حقق غرضه، وهو كتاب ناجح ومقروء لا سيما وكما ذكرت أن هناك استعدادا في المخيال الغربي لتقبّل هذه النصوص ذات الطابع السحري عن الشرق. وهو ما جعل الكتاب يحظى بترحيب معتبر في الصحافة الإيطالية ويلقى قبولا حسنا. فطابِعا الحكي والفنطازيا للكتاب يذكران بمؤلف “ألف ليلة وليلة” المثير للمخيال الغربي. وإن تكن جل الحكايات المتعلقة بالجزر الواردة في الكتاب معروفة لدى القارئ المطّلع على أمّهات التراث العربي، فإن الجميل هذا التجميع للمتناثر، فضلا عمّا يضيفه المؤلف من تحليل لنصوص قد تبدو غامضة في بعض الأحيان خصوصا لدى القارئ غير الملمّ بهذا المجال. فمرويات الحكي الغرائبي في التراث العربي التعاطي معها بأسلوب التحليل الفيلولوجي والدخول في غورها، هو شيء مفيد لا سيما مع وفرة الإيحاءات.

لا بد أن نشير إلى ظرف مهمّ صدر فيه كتاب أرْيولي، إذ لا يخفى أن ثمة سيلا من الكتابات السياسية الاستهلاكية ذات الطابع الدعائي والمغرض في الغرب. باتت تتصدر مصادر الاطلاع عن العرب وحضارتهم وأديانهم، وهي كتابات تطمس ما في غور الثقافة العربية من سمو وبهاء وإبداع وتنوّع. كتاب أريولي محاولة هادئة وموفّقة للوقوف في صفّ عرض الجانب النيّر من ثقافة العرب، داخل أوضاع مضطربة طغت عليها السياسة.

الكتاب: القاموس العربي للجزر.

تأليف: أنجيلو أرْيولي.

الناشر: منشورات أديلفي (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’.

سنة النشر: 2021.

عدد الصفحات: 343ص.