الفخارة والشرب من رأس النبع- د. هزار الأحمر
فخّارة نديّة بالمياه وملفوفة بقطعة من الخيش الخشن الندي لهي أطيب وأشهى من آلاف المياه المعلبة والمبسترة. هي زيارتي لبيت جدي وحكاياته وخبراته في الحياة من علمتني أن المياه لا تشرب إلا من رأس النبع أو من فخارة مجبولة من تراب هذه الأرض. أما عنّي، بنت جيل الثمانينات، فقد عشت تقنين المياه وانتظارها في قرية صغيرة وكيف كانت تنتهي جلسة القهوة الصباحية للجارات بمجرد أن تقول إحداهن (جت المية). وهي حكاية سوء إدارة لملف المياه في قرية صغيرة، وفساد بعض الأشخاص ممن توالوا على بلديتها في استمرار لتوارث المشكلة ونقلها للأجيال القادمة.
وتستمر الحكاية بانقطاع المياه عن كامل مدينة الحسكة، فها هو التركي المحتل لأرضنا وأنهارنا يسرق ويحرق القمح ويقطع المياه عن أهلنا وأرضنا. وهي قُطَعٌ من أحجية إذا جمعت جنباً إلى جنب رأينا مشهداً متكاملاً تتغير فيه الأرض والهوية والإنسان تغييراً جذرياً. فالقمح السوري الذي يُحرق يشكل جزءا من هويتنا كما هو نخيل تدمر وزيتون إدلب والسلمية وأرز الساحل الذي يسرق. تغيير البيئة الطبيعية والزراعية يغير من تفكير الانسان ومجتمعه واقتصاده ويشكِّل القادم من السنوات لنا ولأبنائنا. بدأ التغيير بتجفيف منابع الفرات ودجلة من خلال بناء السدود، وها هي حقول القمح يتم تدميرها من خلال مخلفات النفط المستخرج بطرق غير شرعية والذي يجعل الأراضي غير قابلة للزراعة لمئات السنوات. هو بقاؤنا الذي نتكلم عنه على كل الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية.
وفي انفصال كامل عن الواقع وصناعة المستقبل تطالعنا أخبار من نوع عقد المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي بالتعاون مع الاتحاد الدولي لصون الطبيعة ندوة حملت عنوان “تراث المياه: الممارسات الثقافية في الأراضي الرطبة”.. أو من نوع “سجلت دولة العراق منطقة الأهوار ومدن أور وأريدو وأوروك على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.” ما جدوى إثبات الوجود السياسي والثقافي في هكذا محافل ونحن نخسر حياتنا ووجودنا الفعلي على الأرض كل يوم. فما قيمة تسجيل التراث والممارسات الثقافية على قوائم المنظمات الدولية إن كنت بعد عشر سنوات إن لم يكن أقل سأكون فقدت المياه والأرض والانسان الحامل لهذه القيم وبالتالي سيتم شطب هذه العناصر واعتبارها نسياً منسياً منقرضاً بعد عشر سنوات. أليس الأجدر بنا أن نحافظ على وجود مصادرنا وثرواتنا البيئية والطبيعية وعلى الإنسان الحامل لهذه القيم في حياته اليومية، من خلال خطة متكاملة وليس من خلال فعاليات صغيرة مبعثرة أو دروس نظرية لا نذكر منها شيئاً.
أذكر الصدمة التي عشتها صيف عام 2002 عندما شاركت لأول مرة ببعثة تنقيب موقع أم تلال في منطقة الكوم. فكل الدروس النظرية في كتب التاريخ والجغرافيا التي درسناها أطفالاً لم تترك في ذهني سوى خرائط جغرافية لمحافظات سورية. لم أعرف سوريا ولا أهلها إلا عند احتكاكي اليومي بهم وزياراتنا لكافة المدن والمناطق الشرقية. عرفت الفقر والاحتياجات البسيطة من طريق معبّد وهاتف ومياه وكهرباء (وصلت لاحقاً بالأعوام 2005-2006) وعرفت بندورة الكوم الأشهى والألذ في العالم لسبب التربة الكلسية والمياه الجوفية الكبريتية.
أليس الأجدر بنا أن نعمل على خلق الرابط النفسي والعاطفي بين الجيل الجديد والأرض التي يعيش عليها. ومن قال إن السيران الذي يبحث فيه السوري عن قطعة أرض خضراء أينما تكن لقضاء بعض الوقت الممتع مع العائلة هو ظاهرة متخلفة علينا القضاء عليها ومحاربتها أليس الأنفع ترك المساحات الخضراء في المدن وعدم بناء ناطحات السحاب فوقها!!!
ومن قال إن معرفة قصص ملوك وأساطير من تاريخنا هي ضرب من الرفاهية لا لزوم له! أليسوا هم رأس النبع الذي علينا أن ننهل منه لنستمر. أولم تَدرُسُنا كبريات الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية وتدرس نفسيتنا وتاريخنا وتراثنا قبل أن تخطط لكيفية التحكم بنا من خلال نقاط ضعفنا!؟
فها هي جرة فخارية عرضتها إحدى غاليريات التحف الفنية في سان فرانسيسكو تتحدث عن تجريف وتنظيف مجرى نهر دجلة من قبل الملك سين أدينام عام 1848 قبل الميلاد. ورقيم مسماري يتحدث عن تحوير مجرى نهر الفرات ثم إعادته لمكانه بعد بناء قبر جلجامش ودفنه في مكان لا يمكن ليد بشرية أن تطاله. أو أسطورة خلق إنسانيين اسمهما أوليجار (منشئ الرخاء) وزوليجار (منشئ الوفرة) من جسد إله البناء. وللنص معنى وقيمة ورمزية تتحدث عن تتالي الأحداث المهمة على الأرض. فالحدث الأول خَلقُ الكون وتحديد المصائر، والثاني خلق دجلة والفرات، والثالث خلق الإنسان منشئ الوفرة والرخاء. الإنسان الفاعل الحيوي الباني الذي سيتوارث الحكمة جيلاً بعد جيل.
ويبقى الفرات ودجلة حبيبان ينبعان من هذه الأرض ويصبان فيها، موسيقى وجمال وتنوع وغنى. هما الأساس ونستمر على الرغم من كل هذه الهمجية.