الغرضية البغيضة في كتابة التاريخ-احمد اصفهاني

image_pdfimage_print

ترددت كثيراً قبل الإقدام على مناقشة كتاب “تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف” للكاتب والصحافي والسياسي اللبناني فواز طرابلسي. فالكتاب صدر سنة 2008 عن “رياض الريس للكتب والنشر” في بيروت، والأحداث العاصفة في عالمنا العربي تجعل بعض المراقبين يعتقد بأن العودة إلى التاريخ، ولو كان لا يفصلنا عنه سوى عقود قليلة، من لزوم ما لا يلزم  .

هذا صحيح نسبياً. لكن ما استوقفني في الكتاب ذلك الموقف السلبي، المتجاهل عمداً، والمنحاز عدوانياً ضد الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه وعقيدته. وما كان هذا النهج ليستحق الاهتمام والمناقشة لولا أنه بات نمطاً يلجأ إليه كتاب وصحافيون كانوا ماركسيين أو شيوعيين ثم تراجعوا أو تحولوا إلى النقيض الرأسمالي (بعضهم وصل إلى أحضان الصهيونية)! ولذلك بات من الضروري كشف المنطق الموارب الذي يعتمده هؤلاء، ونموذجهم هنا فواز طرابلسي.

كان طرابلسي من أبرز قياديي “حركة لبنان الاشتراكي” التي اندمجت سنة 1970 مع “منظمة الاشتراكيين اللبنانيين” لتشكيل “منظمة العمل الشيوعي”. وقد أصبح نائباً للأمين العام للمنظمة (محسن ابراهيم هو الأمين العام)، ثم أحد أبرز وجوه “الحركة الوطنية اللبنانية”. ترأس تحرير مجلة “الحرية” لسنوات. ترك المنظمة سنة 1984، وإن ظل يمارس العمل السياسي والصحافي. وقد أصدر مجموعة من الكتب والدراسات، منها “تاريخ لبنان الحديث” الذي نحن بصدده.

إن دراسة التاريخ المعاصر للكيان اللبناني، على الأقل من فترة الانتداب الفرنسي حتى اليوم، لا تكون كاملة وموضوعية من دون التطرق إلى أنطون سعاده وحزبه السوري القومي الاجتماعي… من تأسيس الحزب سراً سنة 1932، مروراً بالمعركة السياسية الأولى مع السلطات الانتدابية، إلى الاعتقالات الواسعة التي تعرض لها القوميون خلال فترة الحرب العالمية الثانية، إلى عودة سعاده إلى الوطن والصدام بينه وبين الحكومة اللبنانية، إلى الثورة القومية الاجتماعية الأولى سنة 1949 ومؤامرة تسليم سعاده وجريمة إعدامه، إلى المشاركة في حوادث سنة 1958، إلى الثورة الإنقلابية الفاشلة سنة 1961 ـ 1962، إلى الانخراط في الحرب الأهلية سنة 1975، إلى مواجهة الغزو الصهيوني سنة 1982 وإطلاق عمليات المقاومة، إلى تنفيذ حكم الشعب بالمجرم بشير الجميل… إلخ.

في كل هذه المحطات كان الحزب السوري القومي الاجتماعي موجوداً بقوة، وصانعاً للأحداث أو منفعلاً بها. ونحن لا نقصد القول أن كل ما قام به كان في جادة الصواب، إلا أنه جزء أساسي من تاريخ الكيان اللبناني، بحيث أنه من غير الطبيعي أن يتجاهل أي مؤرخ لتلك الأحداث دور الحزب فيها بغض النظر عن موقفه الشخصي من عقيدة الحزب وممارساته السياسية. فكيف تعامل “المؤرخ” طرابلسي مع هذا الأمر؟

أولاً، لا شيء على الإطلاق عن سعاده والحزب طيلة فترة المواجهة مع سلطات الانتداب الفرنسي، وأتباعها من اللبنانيين. لا تأسيس الحزب، ولا كشفه، ولا اعتقال سعاده وسجنه ثلاث مرات في غضون سنتين، ولا مئات المعتقلين من القوميين خلال الحرب العالمية الثانية تستحق كلمة واحدة من “تاريخ لبنان الحديث”! فالحزب الذي وقف وحيداً ضد الانتداب الاستعماري، من موقع عقائدي ثابت، لا يحظى من طرابلسي ولو بإشارة عابرة.

ثانياً، الثورة القومية الاجتماعية الأولى سنة 1949 يربطها طرابلسي بإنقلاب حسني الزعيم في دمشق: “أثار انقلاب الزعيم (حسني) حماسة أحزاب المعارضة اللبنانية وخصوصاً الحزب السوري القومي الاجتماعي”. ثم يقول: “يوم 9 حزيران / يونيو وقع اشتباك بين مناصري الحزب السوري القومي الاجتماعي ومناصري حزب الكتائب اللبنانية في حي الجميزة الشعبي…” طبعاً بات من المعروف، إلا بالنسبة إلى طرابلسي، أن الكتائب هي التي هاجمت القوميين بالتنسيق مع حكومة رياض الصلح في إطار مخطط محلي إقليمي دولي للتخلص من سعاده ومن حزبه في آن واحد.

ثالثاً، حوادث سنة 1958. يؤكد طرابلسي أن قائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب مارس سياسة “الحياد الفعال” بعدم التدخل ضد “الثوار” إلا لمنع محاولة جماعة كمال جنبلاط احتلال مطار بيروت فـ”دارت معارك ضارية عند هذا المحور الأخير، في بلدة شملان خصوصاً، حيث ساندت الجيش عناصر مسلحة من الحزب السوري القومي الاجتماعي وأنصار حليف شمعون الدرزي، مجيد إرسلان”. أمر جيد أن يشير طرابلسي إلى وجود القوميين هناك، لكنه يقلل كثيراً من  دورهم المحوري في حماية المطار وهزيمة الجنبلاطيين، وكذلك في مواقع أخرى مثل عدبل والنبي عثمان والضاحية الشرقية.

رابعاً، الثورة الانقلابية 1961 ـ 1962. لا شيء على الإطلاق. ربما لأن القمع الوحشي بحق القوميين والتصفيات الجسدية للعشرات منهم تمت عندما كان جنبلاط الأب وزيراً للداخلية! إشارة وحيدة جاءت في معرض تقارب الكتائب مع الشهابية، إذ يقول طرابلسي: “تلقى الحزب (الكتائب) دفعاً قوياً جراء القمع الذي انهال على الحزب السوري القومي الاجتماعي، خصمه التقليدي في جبل لبنان”.

خامساً، إعدام الخائن بشير الجميل. يكتب طرابلسي: “في كل الأحوال، لم يعش بشير الجميل لينفذ أياً من بنود برنامجه. عشية 14 أيلول / سبتمبر 1982، قبل أسبوع أو يكاد من خطاب القسم، انتشلت جثته من تحت ركام مركز حزب الكتائب في الأشرفية وقد دمرته عبوة ناسفة جرى تفجيرها عن بعد”! أما حبيب الشرتوني، ونبيل العلم، والحزب السوري القومي الاجتماعي فمن باب المجهولات بالنسبة إلى هذا التاريخ.

سادساً، إنطلاق المقاومة القومية والوطنية ضد الاحتلال الصهيوني بعد سنة 1982. يكتب طرابلسي: “أعلن عن تأسيس “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” يوم 16 أيلول / سبتمبر 1982 بمبادرة مشتركة من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي، بما هي مظلة لنشاط أحزاب الحركة الوطنية بما فيها الحزب السوري القومي الاجتماعي…”. إننا لا ننكر على الأحزاب الوطنية اللبنانية وبعض الفصائل الفلسطينية دورها الحيوي في انطلاق المقاومة. لكن أن يتناسى طرابلسي الفعل المقاوم الأول في بيروت على يد الشهيد خالد علوان هو انتقاص مقصود لمبادرة القوميين في أنحاء عدة من الكيان اللبناني. ولا نظن أن طرابلسي يجهل ريادة القوميين في تفعيل المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، تماماً مثلما أنه يعرف بوضوح أن تنفيذ حكم الشعب بالخائن بشير الجميل هو إنجاز قومي اجتماعي بامتياز…

ويبدو لنا أن سلبية طرابلسي الموصوفة تشمل الهوية السورية بشكل عام. فقد استغرب الزميل سليمان الفرزلي في كتابه “علامات الدرب” (صفحة 118) كيف أن طرابلسي لم يذكر في كتابه “يا قمر مشغرة” أي شيء عن مشاركة جده سليمان طرابلسي في “المؤتمر السوري العام” في دمشق بتاريخ آذار سنة 1920. علماً أن الوثيقة الوحيدة الموجودة في أحد المتاحف في دمشق هي بخط يد جده سليمان طرابلسي.

إنها الغرضية البغيضة التي تعمي القلوب والعقول… قاتلها الله!

في هذا العدد<< نحو أساس جديد لعلاقة استراتيجية-بين سورية (الهلال الخصيب) وروسيا الاتحادية“الفينيق” بحلة جديدة >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments