1

العولمة وموقف الحركة القومية الاجتماعية منها

العولمة

لعل مصطلح العولمة هو الأكثر حداثةً والأكثر تداولاً واستعمالاً في الإعلام وفي الاوساط السياسية والاقتصادية، كما في الاوساط الأكاديمية والفلسفية أيضاً، والأكثر تحميلاً لمعاني ومقاصد مختلفة ومتضاربة.

إن ازدحام المصطلحات في وسائل الاعلام، في وقت أن الوسائل الاعلامية هي نفسها كثيرة ومتزاحمة ومتسابقة، أدى ويؤدي الى خلط وتشويه كبير في معاني هذه المصطلحات وفوضى عظيمة في مفاهيم يفترض أن تكون واضحة وجلية.

إن مصطلح العولمة هو المثل الرائع على هذا الخلط وهذه الفوضى. فالإيحاءات متعددة ومتضاربة حول معناه والمقصود منه. فمن المعنى الفلسفي لمصطلح العولمة حيث النظريات الارتجالية المتسرعة التي تقول بأفول، أو حتى سقوط مفهوم القومية ومفهوم “الواقع الاجتماعي” من العالم لصالح مفهوم المجتمع العالمي أو حتى مفهوم “القرية العالمية”.

الى المعنى العلمي حيث الإفراط في التفسيرات المبالغ فيها حول تأثيرات ازدياد وازدهار وسائل الاتصالات وسرعتها وسرعة تطورها، وما ينتج عنها، زعماً، من إلغاء الحواجز والحدود والإختلافات في شخصيات الأمم وخصائصها الاجتماعية والثقافية والنفسية.

الى المعاني الإقتصادية لهذا المصطلح وما تحمله من أهداف إزالة كل ما يمنع إنفتاح أسواق العالم كله للإنتاج الزراعي والصناعي للدول الكبيرة المسيطرة، دون “عوائق قومية” لدى المجتمعات والدول الأخرى المسَيطر عليها، ودون كوابح من سياسات هذه الدول الاخرى لضبط إنتاجها القومي وتوزيعه وحمايته من منافسة الإنتاج الوافد من دول أخرى.

نحن نرى أن التأويلات الفلسفية لمصطلح العولمة، كما محاولات إعطائه تفسيرات علمية تقول بأن الاقتصاد هو مثل الثقافة ومثل العلم، عالمي وملك البشر أينما كانوا، وهذا تضليل كبير، إنما هي لخدمة الهدف السياسي- الاقتصادي للدول والأمم المسيطرة. ولا نبالغ أبداً إذا قلنا إن مصطلح العولمة يخفي مصالح وأهداف أمنية وعسكرية أيضاً. فالعالم اليوم يشهد لاول مرة في التاريخ كيف أن الدولة الأميركية المهيمنة في العالم إقتصادياً وعسكرياً، وبالتالي سياسياً، لا تتورع عن استعمال أساليب الحصار والعقوبات والضغط والتهديد لإغلاق أسواق في العالم وفتح غيرها، وكأن أربعة أقطاب العالم هي مرسح واحد وملعب واحد تكون فيه هي نفسها اللاعب الوحيد والحكم الوحيد في نفس الوقت.

العولمة مصطلح جديد لقضية قديمة، وسعاده انتقدها بشدّة.

لا يختلف مصطلح العولمة ومضمونه الظاهر والمستتر على السواء عن مفهوم “الأممية”، أوالحكومة العالمية، أو حتى مفهوم “يا عمال العالم اتحدوا”. فهذه المقولات والمصطلحات التي سادت وانتشرت خاصةً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن الماضي، تعود وتظهر اليوم تحت مسمى جديد هو مسمى العولمة.

بتاريخ 15-4-1949 كتب  مقالته الخالدة “حق الصراع هو حق التقدّم” في جريدة “كل شيء”، إستهلها بالكلام على العناوين السياسية التي كانت حاضرة في ذلك الوقت، قال: “الانترناسيونية الشيوعية الروسية والعالمية الأميركانية ومنظمة الأمم المتحدة ومؤسستها الثقافية (الأونيسكو) والمؤتمر الثقافي العالمي والجمعيات الدينية باشكال عديدة – وجميع هذه مؤسسات تريد في الظاهر وحدة إنسانية وسلاماً عالمياً دائماً” (الاعمال الكاملة ج8 ص 324).

إن مقالة “حق الصراع هو حق التقدم” هي مقالة سياسية تناول فيها سعاده الناحية السياسية – الاقتصادية من مفهوم العولمة الذي ظهر آنذاك تحت مسميات مختلفة. لكن لسعاده موقف فلسفي مبدأي من هذه القضية موجود في مبادئ الحزب الاساسية، كما له موقف علمي حاسم منها في كتابه “نشوء الأمم”. أما موقفه وموقف الحركة السورية القومية الاجتماعية السياسي من هذه القضية فبدهي أن يكون منسجماً مع ومبنياً على الموقفين المبدئيين العلمي والفلسفي.

في العودة الى مقالة سعاده السياسية التي تحمل موقفه السياسي فأننا، لشدة وضوحه، لا نحتاج لشرحه إلا إيراد عباراته حرفياً، يقول:

“لا تعني الوحدة الانسانية وحدة حقيقية لجميع الناس وتساوياً تاماً في التمتع بموارد الخير وفي توزيع الموارد الاولية الموجودة في الارض على جميع الناس بالتساوي. ولا تعني صيرورة الناس أمة واحدة في وحدة الحياة والشعور والنظر الى الحياة”.  ويضيف:

“لا تعني وحدة الحركة العمالية الطبقية الشيوعية في العالم أن العمال السوريين ستكون لهم حالة مساواة في الحياة والمعاشرة والمنزلة والنتائج مع العمال الروس والفرنسيين والانكليز وغيرهم، فخصائص الشعوب ونفسياتها لا تزول بمجرد فكرة سياسية أو اقتصادية. ولا تعني العالمية الاميركانية أن الأميركان هم مستعدون لمقاسمة جميع الشعوب الفقيرة خيرات بلادهم الاميركانية. ولا تعني الأونيسكو والمؤتمر الثقافي العالمي غير دعوة كل فئة الى سلام تسيطر عليه الأمة الأقوى وتضبط بواسطته حالة جميع الأمم وتحافظ على سيطرتها وما تعنيه سيطرتها من إمتيازات لشعبها ومن خير يمكنه أن يُلقى بفتاته الى بقية الشعوب.”

هكذا يكشف  الباطن المستور من شعار الوحدة العالمية والسلام العالمي، ويعلن موقفه وموقف الحركة القومية الاجتماعية التالي:

أن الاستسلام لفكرة الوحدة العالمية والسلام العالمي الدائم يعني التنازل عن الصراع والحرية وعن الحق والإنتصار. والأمة التي تتنازل عن الصراع تتنازل عن الحرية، لأن الحرية صراع!

إن النهضة القومية الاجتماعية لا ترفض السلام العالمي الدائم بعد أن تكون قد حققت إنتصاراتها العظمى التي تجعل للأمة السورية مرتبة ممتازة في السلام وفي حقوق السلام. أما السلام العالمي بعد تجريد الأمة السورية من حقوقها القومية في كيليكية والاسكندرون وفلسطين وسيناء وقبرص، وبعد تجريدها من مواردها الطبيعية، فماذا يعني لها غير الذل والفقر والفناء؟”.

والحقيقة أن موقفه هذا لم يعلنه فقط في مقال سياسي في جريدة سياسية، بل نستطيع قراءته في مبادئ الحزب، في  نظرة سعاده الى الانسان، وفي النظرة القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن الظاهرة في جميع شروح سعاده لمبادئه وعقيدته وفلسفته، كما نستطيع قراءته في كتابه العلمي نشوء الأمم الذي “يوضح الواقع الاجتماعي الانساني  في أطواره وظروفه وطبيعته، ففي الدرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها. ولا تخلو أمة من الدروس الاجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار”.

وضوح سعاده في مقابل تهافت وهفت بعض تلاميذه.

إن “فوضى الأفكار وبلبلة العقائد” التي حذر منها  لم يسلم منها حتى بعض تلامذته أنفسهم. فرغم وضوح تصنيفه للأفكار والمقولات والمصطلحات بين ما هو علمي أو فلسفي أو سياسي، فإن قلة الدرس والبحث لصالح النزوع الشديد الى الارتجال في المواقف السياسية دون أساس من علم وعقيدة، قد أدى بالبعض الى تبني مقولة العولمة والعالمية والاممية. إن المواقف المرتجلة لم تستطع التمييز بين عولمة السيطرة واخضاع الامم، من جهة، وبين عالمية الدعوة القومية الاجتماعية من جهة أخرى. إن قول سعاده في رسالته الى القوميين الاجتماعيين سنة 1947 بأن الأمة السورية هي “أمة معلمة وهادية للأمم بنّاءة للمجتمع الانساني الجديد وقائدة لقوات التجدد الانساني بروح التعاليم الجديدة التي تحملون حرارتها المحيية وضياءها المنير الى الأمم جميعها”، وقوله أيضاً أن “هذا العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة وأن هذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج اليها العالم – فلسفة التفاعل الجامع الموحد القوى الإنسانية – هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم”. إن هذا القول وهذه الفكرة تختلف إختلافاً جذرياً عن فكرة السيطرة على ألامم الضعيفة والمغلوبة التي ذكرها في مقالة “حق الصراع هو حق التقدم”.

وبعد ثمانين سنة من صدور كتاب نشوء الأمم لا زال كثير من القوميين الاجتماعيين يسيئون فهم عبارة سعاده: “من يدري هل يقدر للانسانية أن تصبح مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور” ويؤولونها عكس معناها الحقيقي ويرددون ببغائياً ويقولون: “سعاده سأل نفسه هل يصبح العالم أمة واحدة في المستقبل، فأجاب: من يدري”. أما الحقيقة  فهي أن سعاده لم يسأل ولم يجب، وهو برئ من هذا التأويل الأعوج المستعجل اللجوج الذي يريد أن يقول: صحيح أننا اليوم أمة سورية تامة ولكن يمكن أن نصبح أمة عربية في المستقبل، والأمة العربية قد تختفي ويصبح العالم أمة واحدة، بما يوحي أن هذا المستقبل هو مستقبل قريب.

أما حقيقة قول  فهو أنه في الفصل السادس من كتاب نشؤ الأمم الذي عنوانه “نشؤ الدولة وتطورها”، وتحت العنوان الفرعي الأول “الثقافتان المادية والنفسية”، وفي الفقرة الثانية يقول: “ولقد تكلمنا على الاجتماع البشري وأشرنا الى انه عريق في القدم وأنه صفة بشرية عامة، حتى أن ما قلناه في هذا الصدد ليحمل على الاعتقاد أن أجتماعية الانسان شيوعية بلا حدود أو قيود، والواقع غير ذلك، فالمجتمع الانساني ليس الانسانية مجتمعة، ومن يدري هل يقدر للأنسانية أن تصير مجتمعا واحدا في مستقبل العصور”.

كانت هذه طريقة سعاده للتعبير عن معنى “الصفة البشرية العامة” لإجتماعية الانسان، علماً أن العالم هو واقع مجتمعات وأمم. أنه كان يتابع شروحه العلمية حول معنى إجتماعية الانسان تمهيداً للدخول في معنى الدولة وواقع الدولة الذي هو المجتمع. كان  يوضح ما يعنيه بعراقة الاجتماع البشري في القدم وما يعنيه بأن الاجتماع هو صفة بشرية عامة، كي لا نسيء فهم المقصود من عبارة “صفة بشرية عامة” وكي لا نظن أن المجتمع الانساني هو الانسانية مجتمعة، وكأن الانسانية مجتمع واحد. يريدنا أن نفهم بأنه حيثما وجدنا الانسان وجدناه بحالة أجتماعية، دون أن يعني ذلك أن الانسانية مجتمع واحد.

 يريدنا أن نعرف أن “الواقع غير ذلك”، الواقع ليس مجتمعاً أنسانيا واحداً، وأنه لا أحد يستطيع القول أو يدري أذا كانت الانسانية سيقدر لها أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور. أما العصور فهي قياس الأزمنة الطبيعية، كأن نقول العصر الجليدي أو العصر الحجري أو المعدني . وعبارة مستقبل العصور تعني مئات الآلاف من السنين المقبلة.

أننا في هذه المناسبة نهيب بجميع الرفقاء السوريين القوميين الاجتماعيين أن يدرسوا  بهدوء ويكفوا عن الترديد الببغائي للخرافة، بل للكذبة التي تقول “إنه سأل نفسه وأجاب نفسه”، ولكل هذه الحكاية السخيفة التي لا تعني إلا أنه غداً ستصبح البشرية مجتمعاً واحداً. إن معنى قول  الآنف الذكر هو تماماً عكس ما أراد البعض تحميله. “إن حياة الأمم هي حياة حقيقية لها مصالح حقيقية”، عبارة رددها سعاده ثلاث مرات في محاضرته السادسة التي شرح فيها المبدأ الأساسي السابع. ولا يمكن لأية فلسفة في العالم، ولأية سياسة، أن تلغي واقع الحياة الانسانية مجتمعات وأمم لها حياتها ومصالحها ولها شخصياتها المستقلة ومطالبها ومثلها العليا.

 إن فكرة العولمة، القديمة – الجديدة، ومهما زيّن لها فلاسفة وعلماء ومؤرخون وسياسيون، هي فكرة غير واقعية ولا تتوافق مع حقائق الحياة البشرية، ولا تستجيب لمطالب الشعوب في العالم، وبالتالي هي غير قابلة للتحقيق. لذلك نرى كيف يتم تسويقها بالتضليل والأكاذيب والخداع، وكيف أن من يحمل لواءها اليوم هم سياسيو الدول الاستعمارية المسيطرة والتي تتوسل القوة العسكرية لفرض سيطرتها على العالم.

وشتان بين السيطرة بالقوة العسكرية وسياسة العقوبات وتهديد مصالح الشعوب، وبين “قيادة قوات التجدد الانساني بروح التعاليم الجديدة وحرارتها المحيية وضيائها المنير”.