السلالات مجدداً: اكتشافات تغير المسلمات

image_pdfimage_print

كتبتُ قبل مدة مقالاً بعنوان “ملاحظات قومية في علم السلالات”، تلقيت بعد توزيعه تعليقات متنوعة بعضها أضاء على جوانب كان من المفترض بي أن أتوسع في شرحها. وقد أظهر المقال نفسه، والتعليقات الصائبة عليه، مسألة أساسية يتفق عليها الجميع وهي: أن أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه استخدم جملة من العلوم لتعزيز وشرح نظريته في “نشوء الأمم”. وهذه العلوم لا تعتبر جزءاً من العقيدة التي يؤمن بها القوميون الاجتماعيون. وبما أن العلوم متطورة ومتغيّرة بطبيعتها، فمن الواجب دراسة الجديد منها، وعلى ضوئها نعيد قراءة ما توصل إليه سعاده في الحقول المرتبطة بتلك العلوم المتجددة.

مناسبة هذا الكلام ما أعلن مؤخراً عن كشف جديد لسلالة بشرية أولية لم تكن معروفة عند العلماء حتى هذا الوقت، وهي سلالة لم يكن لها مكان في مراتب التطور الإنساني المُتعارف عليها والمُسلم بها منذ أكثر من قرنين. فقد كانت السلسلة تضم:

“هومو أركتوس” (Homo-erectus) ثم “نياندرتال” (Neanderthal) ثم “الإنسان العاقل” (Homo-sapiens) الذي هو نحن. وهناك بالطبع فروع ثانوية لها مميزات خاصة، غير أنها تندرج في واحد من الأنواع الأساسية المذكورة أعلاه.

وتم الكشف المثير على يد علماء صينيين أجروا أبحاثاً مكثفة على جمجمة متحجرة، فتبين لهم أنها تعود لإنسان ينتمي إلى سلالة بشرية جديدة كلياً. وقالوا إن مزايا هذا النوع تجعله الأقرب إلى “الإنسان العاقل” من حيث التطور مقارنة بإنسان “هومو أركتوس” أو إنسان “نياندرتال”. وكان قد عُثر على الجمجمة المتحجرة في شمال شرق الصين سنة 1933، لكن لم تخضع لأبحاث مخبرية إلا في السنوات الأخيرة. وأطلق على هذا النوع اسم “الإنسان التنين” (Homo Longi).

ضم فريق الأبحاث الصيني عدداً من العلماء الأجانب، من بينهم البريطاني كريس سترينغر Chris Stringer الذي تحدث إلى وسائل الإعلام البريطانية عن الكشف الجديد قائلاً: “من حيث المتحجرات خلال المليون سنة الأخيرة، فإن هذا الكشف يُعتبر الأكثر أهمية على الإطلاق”. وأضاف يقول: “نحن هنا أمام فرع إنساني منفصل لم يكن في طريقه ليصبح “هوموسابينز” (نوعنا نحن)، لكنه يمثل خطاً قديماً منفصلاً تطور في تلك المنطقة على مدى مئات الألوف من السنين ثم انقرض”. ومن جهة أخرى، أعرب العلماء الصينيون عن اعتقادهم بأن هذا الاكتشاف يمكن أن يؤدي إلى إعادة كتابة تاريخ التطور البشري، لأن التحليلات أظهرت أن “الإنسان التنين” أكثر قرباً إلى “الإنسان العاقل” منه إلى إنسان “نياندرتال”.

إضافة إلى الجمجمة المتحجرة، عثُر في تلك المنطقة على بقايا بشرية متحجرة أخرى. وقد أثارت المكتشفات نقاشاً حاداً بين العلماء تمحور حول ما إذا كانت البقايا تمثل نماذج بدائية لـ “الإنسان العاقل” أو لإنسان “نياندرتال”، أو لعلها تعود لنوع بشري مختلف تماماً. وربط بعضهم بين “الإنسان التنين” وبين نوع آخر اكتشف في روسيا يدعى Denisovans، والذي عاش قبل 30 ـ 50 ألف سنة.

وقد عرضنا التفاصيل أعلاه لنصل إلى ما يهمنا في الوطن السوري. فالعلماء الذين ربطوا بين “الإنسان التنين” والمكتشفات الروسية، ربطوا النوع الروسي أيضاً بما تم الكشف عنه أخيراً في منطقة الرملة بفلسطين المحتلة. وكان باحثون في جامعة تل أبيب قد أعلنوا في أواخر حزيران الماضي أنهم تعرفوا إلى نوع غير معروف سابقاً من السلالات القديمة، يُعتقد أنه عاش إلى جانب جنسنا البشري قبل 100 ألف سنة. وتم العثور على بقايا هيكل عظمي تتألف من قسم من الجمجمة والفك وذلك قرب مدينة الرملة الفلسطينية. ويرجح العلماء، في تقرير نشرته مجلة “ساينس” البريطانية، أن هذا الإنسان ينحدر من سلالة أقدم ربما تكون قد انطلقت من المنطقة إلى الخارج قبل مئات الألوف من السنين، وتطورت لاحقاً إلى إنسان “نياندرتال” الذي ظهر في أوروبا وآسيا.

وتجدر الإشارة إلى أن سورية الجغرافية كانت قد شهدت عمليات تنقيب واسعة في مواقع الاستيطان القديمة التي تعود إلى ما قبل التاريخ الجلي. وقبل اندلاع الأحداث في لبنان والعراق والشام، إضافة إلى فلسطين طبعاً، كان العلماء الأجانب والوطنيون قد أجروا أبحاثاً مكثفة من أجل وضع إطار جيولوجي آثاري لكل بلاد الشام، “يوضح طبيعة بيئة ومناخ وحضارة تلك البلاد في عصور ما قبل التاريخ (…) وقد حققت هذه البحوث نجاحاً علمياً باهراً في الربط بين المناطق الساحلية في سورية ولبنان بخاصة. ولكن للأسف فإن فلسطين لا زالت خارج هذا الإطار (…). ومهما يكن فإننا نعتقد بأن الإطار الجغرافي للمشرق كان متشابهاً إلى درجة كبيرة. كما أن مجتمعات ما قبل التاريخ في بلاد الشام قد امتلكت العديد من الصفات المشتركة”.* ولا شك في أن تدهور الأوضاع الأمنية خلال العقود الثلاثة الماضية أنهى تقريباً تلك المحاولات نظراً إلى خطورة إستئناف عمليات التنقيب الرسمية. وبما أن الرقابة الحكومية أصبحت مفقودة لسنوات عديدة، فقد شاعت عمليات التنقيب العشوائية، مع كل ما تسبّبه من تخريب لا يُعوّض في المواقع التاريخية والآثارية.

  • “بلاد الشام في عصور ما قبل التاريخ”، الدكتور سلطان المحيسن. الأبجدية للنشر ـ دمشق، صفحة 68.


 

في هذا العدد<< الفينيق.. من أجل مجد الكلمة.. ومجد الحياة الجديدة..المرحلية هي القصة >>
2.7 3 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments