1

الحب ينتصر دائماً- أنانا مهلوبي

أنانا مهلوبي

 

حدث ذلك في يومٍ بدا للوهلة الأولى كأي يوم شتائي عادي، ولكن حلول المساء لم يترك للعادي من مكان، أشرق ذلك اليوم حاملاً طيفاً واسعاً من المشاعر والأفكار، لم تكن ضمن المتوقع أو المألوف. وكما تعارف كلٌّ مِنّا على الآخر عن طريق فيسبوك، كذلك ارتسم الخبر على شاشة الحاسوب المحمول، أنا والشاشة الصغيرة وحبيبي، رابعنا المقدس كان الحب مكللاً بالدموع.

كتب لي وكأنه خبرٌ أسمعه كل يوم، كالذهاب إلى سوق الخضار، أو ربما كنزهة في بلدته الصغيرة جديدة عرطوز، تنتهي بالدخول إلى متجر الأفلام، وشراء فيلم السهرة. نزل على قلبي ذلك الخبر كالدهشة الأولى عندما بدأنا نسمع صوت الفوضى في البلاد، عندها أدخلني في خضم أحداث الفيلم الجديد دون أن ندري أنا أو هو ما ينتظرنا من ذاكرة الحرب التي قدمت لكل سوريّ خصوصية عصيّة على الكسر. فيلمٌ يصعب على أعتى سينمات العالم ان تقدمه بذات الزخم العاطفي.. “لقد طلبت للاحتياط في الجيش” !

بالرغم من فخري واعتزازي الشديد بالجيش السوري وكل من قرر أن يكون معه على جبهات حربنا الوجودية مع قوى الظلام وصنّاع الموت، لم تكن الدموع تذرف وحيدةً، وإنما رافقها سيلٌ من الأفكار والهواجس والمخاوف، وفيضٌ وجدانيٌ يصعب تعريفه، لم أكن أدري إن كان حزناً أو فرحاً، خوفاً أو حباً، وانهالت صور الحرب في رأسي كالرصاص الحيّ، ذلك الذي سفك أنهاراً من الدماء في بلادنا، هذه البلاد التي تدفع كل يوم أبهظ الأثمان، بسبب جغرافيتها وما حملته هذه الجغرافيا من جمالٍ وثراءٍ طبيعي كان عليها نقمةً موجعة. لم أعرف بماذا أعلق على الخبر، طرح عليّ خيارين اثنين، أحلاهما مرٌ، بل أحدهما أقل مرارةً من الآخر، يسافر إلى الكيان اللبناني بهدف العمل أم يلتحق بالجيش؟ يا إلهي! أي خيارين هذين، يسافر إلى كيانٍ تحوّل زوراً إلى بلدٍ مستقل، أم يلتحق بالجبهة ويشارك بالحرب! شعرت بيدين باردتين تمسك بكتفيّ وتضعني في مواجهة مع أصعب رأيٍ طلب مني يوماً، وجدت نفسي أقف على أرض المعركة، كدت أشم رائحة الدم حتى احتراق الأنف والذاكرة، وأسمع أزيز الرصاص وهدير المدفعيات، حتى شعرت وكأن احداً يتلاعب بهويتي ووجودي كمواطنة سورية بخفة البهلوان، عندها بدأت أتلمس لحظات الوداع واللقاء قبل ان تكون، فتركت ساحة القرار لصاحبها ولم أشأ أن أكون جزءاً منها، بل فضلت الركون إلى الدعم والحب غير المشروطين وغير المحدودين بموتٍ او بخطوط سايكس بيكو.

انتظرت الكلمة الأخيرة من شريكي في الحب والحياة، وسمعت ما أثلج قلبي: “سوف ألتحق بالجيش، وسوف أحارب“، نعم لقد أثلجت تلك الكلمات قلبي، فلو لم تكن لما كان الرجل الذي عرفت وأحببت، ولما كانت القيم والمبادئ التي عشقت. أعرف في العمق أنني كنت سأدعمه مهما كان خياره، ولكن الرجل الذي يعشق الوطن ويدرك ماهية هذه الحرب، هو الرجل الذي أردت.

التحق بالحرب وبدأت حكايةٌ جديدة من حكايات العشق المفعم بكل ما يمكن لإنسان ان يشعر به، الكثير من لحظات الوداع وأقل منها في اللقاء، وقصص الحرب تتناثر في جلساتنا السرية، يخوضها قلبي وعقلي بعد ان خاضها حبيبي في عقر الحياة والموت. جوّال مقفل يعني سباقاً بين دقات قلبي والزمن، جوّال يرنُ بلا جواب يعني الرعب الهادر من قصص الحرب بواقعيتها وخيالاتها، هي تجربة لا يمر بها كل إنسانٍ حيّ، وفي كل العصور، هي تجربةٌ شاءت الحياة أن ندركها في هذا المكان وهذا الزمان، ونحنا شئنا أن نقبل التحدي ونحياها بكل ما نملك من نبض وعقل وسلاح.

هي الحرب قاسية، وحربنا تمس جوهر وجودنا، وها نحن وها هي، نتبادل القصص حتى النصر المحقق، نأبى أن تسرق منا أحلامنا، بل نقابلها بإصرارٍ أشد على تغيير واقعٍ مؤسف، لنا ولآبائنا فيه أيادٍ بيضاء وربما سوداء إما عن غير قصد أو عن غير معرفة، ومن هنا اخترنا تحمل المسؤولية وحملها على أكتافنا للمضي إلى غدٍ أكثر تماسكاً ووضوحاً، وأقوى من أي وقت مضى. هذه القصة ليست اخيولة أدبية، ولا سرداً نثريا، هذه الحقيقة هي جزء من حياتي وحياة من حولي، تتكرر وتتلون في كل بيتٍ ودار، وللتفاصيل حبرٌ لا يجف.