1

“الثور الكبير” في مرمى المساءلة

 

السفير التركي في طرابلس لبنان-2019

يروي الرفقاء الأول حادثة شاهدوها بأم العين في سنة 1936. كانوا بصحبة أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، في المكتب الذي اتخذه الحزب مركزاً عندما تناهت إليهم هوبرات وهتافات من الشارع المجاور. خرج الجميع إلى الشرفة لاستطلاع ما يجري. فوجدوا عند أسفل المبنى مئات من الأشخاص الذين كانوا يحتفلون بأحد الأعياد. لكن ما صدم سعاده ورفقاءه أن هؤلاء كانوا يسيرون خلف مجموعة رجال يحملون السفير التركي على أعناقهم ويهتفون بحياة تركيا… كل ذلك في وقت كانت أنقرة تستكمل بتواطؤ فرنسي مؤامرة اغتصاب لواء الإسكندرون. يقول الرفقاء إن سعاده استدار بغضب واشمئزاز عائداً إلى الداخل، والغضب يشع من عينيه المشتعلتين ناراً.

أحفاد “الرعاع” الذين رفعوا السفير التركي على أعناقهم في ثلاثينات القرن

الماضي، هم الذين لوحوا بالأعلام التركية في طرابلس الشام قبل أن ينخرطوا في “غزوة” تخريب ونهب استهدفت ممتلكات المواطنين الآمنين خلال الأيام القليلة الماضية. هؤلاء مجرد قطيع يتحرك بالغريزة البهيمية وراء من يلوّح بالمال. أعماهم التعصب المذهبي، فباتوا ألعوبة ممسوحة الإرادة بأيدي “قيادات” لا تتورع عن زجهم وقوداً لأتون الفتنة الداخلية. وفي غالبية الأوقات، يكونون أدوات الحروب الأهلية وضحاياها… بينما المكاسب والأرباح تصب في جيوب “قادة” متحالفين متفاهمين لإبقاء الشعب جاهزاً للتوظيف في المواجهات المقبلة.

الأعلام التركية في طرابلس-لبنان

في آب سنة 1958 وضعت الحرب الأهلية اللبنانية الدامية أوزارها باتفاق إقليمي دولي، فانتقل “القادة” المتحاربون من زواريب الفتنة إلى المقاعد الوثيرة في سراي الحكومة. وظن الناس يومها أن اللبنانيين تعلموا درساً بليغاً، ألا وهو أن الثمن يدفعه المواطن من حياته ومعيشته بينما يجني “زعماء” الأزقة الثمار التي حان قطافها. لكن عقلية القطيع لا تغادر “غوغاء الطوائف”، فهم مستنفرون دائماً، وعلى أهبة التفجير عند أية شرارة. والحادثة التالية خير دليل على أن السياسة القائمة على الغريزة لا تفرق بين جماعة وأخرى.

وقعت الحادثة في 27 شباط سنة 1959، أي بعد حوالي سبعة أشهر فقط على توقف حمام الدم! كانت سينما “أمبير” في وسط بيروت تعرض فيلماً عادياً. وعندما ظهرت فيه صورة الجنرال ديغول، أقدم قسم من الحضور على التصفيق والهتاف بحياة فرنسا. إنزعج قسم آخر، فبادر إلى الهتاف باسم جمال عبد الناصر. دارت مناوشات بين الجماعتين بالأيدي وبالسكاكين داخل الصالة، ثم انتقلت إلى الشوارع حيث انضم مسلحون من الطرفين. وانتهت “معركة صورة ديغول” بمصرع ثلاثة أشخاص وجرح 25 بينهم 7 من رجال الأمن، وإحراق حافلات ومحلات على طرفي ساحة الشهداء.

إنها ثقافة “الرعاع” المستمرة إلى يومنا هذا. خطورتها أنها تبدأ لأسباب تافهة تخدم أغراضاً خفية، وسرعان ما تتحول إلى “همروجة” شعواء لا توفر أحداً. قد يبدو للوهلة الأولى أن “الرعاع” يتحركون عفوياً فلا يخضعون إلا لغريزة القطيع. هذا صحيح جزئياً، لكن في الغالب الأعم يوجد “شخص مُحرّك” يقود التحركات الغوغائية على الأرض، ويلعب دوراً مزدوجاً: أن يكون صلة الوصل بين “القائد” و”الرعاع”، وأن يوجه تحركات قطيعه بما يخدم مصالح سيده. فكيف يمكن أن نحدّ من قدرة “الرعاع” على التأثير في الحياة العامة، خصوصاً وأن حركتهم في العادة تستهدف إثارة الفتن؟

لا يكفي أن نتصدى لعناصر الغوغاء بالإجراءات الأمنية وحدها. وسيكون من الصعب “تثقيفهم” طالما أن الحبل السري يربطهم بقيادات تخطط في الخفاء، ولها صلات مع أطراف إقليمية ودولية. و”الرعاع” إجمالاً أغبى من أن يفكروا لأنفسهم، فلا فائدة ترتجى من التعامل العقلاني معهم. ومع ذلك علينا أن نقطع دابرهم، وننقذ المجتمع من تبعات جرائمهم. وهذا لا يكون إلا بالتصويب ناحية المُحرك الخفي، “كراز القطيع”، لأنه العقل الظلامي الذي يسيّر الأدوات المنفذة في الشارع.

التكفيريون الذين ارتكبوا الفظائع في بلادنا، هم أدوات جرمية تنفيذية. أما القاتل الحقيقي فيقبع خلف مذياع أو يطل على شاشة تلفزيون داعياً ومحرضاً وممولاً. هنا مكمن الخطر. القوميون الاجتماعيون لا ينسون مجزرة حلبا. الأيدي التي فظعّت بالرفقاء العُزل هي مجرد آلات طيعة، “رعاع” منفلت العقال. في حين أننا نعرف القاتل المجرم… حتى لو احتمى بصفته الرسمية.

هؤلاء ينطبق عليهم المثل الشعبي المشهور “الثلم الأعوج من الثور الكبير”… فليكن هذا “الثور الكبير” الهدف المحقق للمساءلة والمحاسبة. عندها فقط يتوب “الرعاع” عن غوغائياتهم المذهبية، لأنهم بذلك يصبحون مثل أفعى مقطوعة الرأس لا تشكل تهديداً جدياً لوحدة المجتمع وسلامة الأمة.