الاصلاح من الداخل- د. عادل بشاره
تتوالى دعوات “الإصلاح من الداخل” زخماً مع اقتراب المؤتمر العام. وهذا الامر في حد ذاته مؤشر جيد، فهو يدلّ إلى أنه على الرغم من تضاؤل أعدادهم، لا يزال هناك بعض الناس متفائلين بالإصلاح ومستعدون لتعريض أنفسهم للخطر من أجل الحزب. لكن التفاؤل شيء والانبهار غير المنطقي هو شيء آخر. ونحن قد كررنا في أكثر من مناسبة، ونكرر اليوم، إن “الإصلاح من الداخل” هو الطريق الامثل للقيام بالتغيير دون السقوط في المطبات المعتادة. إنه أفضل من الإصلاح من الخارج وبالتأكيد أفضل من عدم الإصلاح على الإطلاق.
إذن لماذا وحتى الأن فشل “الإصلاح من الداخل”؟ يقول البعض إن السبب يكمن في وجود زمرة مهيمنة تقوم بإحباط كل محاولة للإصلاح. ويقول آخرون إن ذلك يرجع إلى أن الكثيرين قد تركوا الحزب وهم في حالة من الاشمئزاز ويرفضون العودة أليه. وكلا الإجابتين صحيح بدرجات متفاوتة. نحن نعتقد أن حملة “الإصلاح من الداخل” قد فشلت وستفشل مرة أخرى لأن الشروط اللازمة لتحقيق نجاحها لم تقم بشكل كامل بعد. وإليكم ما نعنيه.
يتكون مبدأ “الإصلاح من الداخل” من عنصرين رئيسيين: “الإصلاح” و “الداخل”، والعنصران متآزران ويكمل أحدهما الأخر. وأيضا يعتمد تحقيقهما على بعض الشروط، وإذا لم يتم استيفاء هذه الشروط، تكون فرص تحقيق نتائج حقيقية، ضئيلة.
“الإصلاح” في مبدأ “الإصلاح من الداخل” يستلزم، بالدرجة الاولى، التفصيل الجزئي أو الكلي للإصلاحات المطلوبة في برنامج محدد ومكتوب. حتى هذه اللحظة لا نعلم بوجود برنامج من هذا القبيل (تجدر الملاحظة ان المرة الوحيدة التي تقدم بها إصلاحيون ببرنامج عمل تشريعي متكامل كان في مؤتمر 2012 تحت شعار “سورية مسؤوليتنا”. ولم يقيض لهذا البرنامج الحياة إذ فشلت اللائحة التي تبنته بفارق قليل من الأصوات. هناك ضجة كبيرة بشأن “الإصلاح من الداخل” ولكن لا يوجد تقريبا شيء ملموس عن الإصلاحات المطلوبة ولا في أي سياق قد تثمر، وبنجاح، نتائجها المرجوة. ان التأرجح والتزاحم بين مجرد الكلام وإلقاء اللوم لا ينجم إصلاحات حقيقية.
أن عدم وجود برنامج إصلاح مزود بمبادرات محددة يجعل فكرة “الإصلاح من الداخل” بلا معنى تقريبًا. ففي شكله الحالي، يمكن أن يعني “الإصلاح من الداخل” أي شيء لأي شخص، أذ يمكن أن يعني إصلاحًا تدريجيًا وصغير الحجم بالنسبة للبعض وتدخلًا من أجل إحداث تغيير جذري بالنسبة لآخرين. وقد يعني تغيير الحرس بالنسبة للفاترين أو إصلاح شامل للأكثر طموحًا. ويتوقف كل هذا على قناعات الشخص واين تصب هذه القناعات في الطيف الحزبي.
وبصيغتها الحالية، تمتد مظلة “الإصلاح من الداخل” على نطاق واسع بحيث يمكن لأي شخص أن يتخذ غطاء منها: الصادق والناجح، المخلص والانتهازي، المثالي والواقعي. هذا الوضع هو وصفة لحصول كارثة وليس لحصول تغيير أحسن.
وينبغي أن يكون المرء دقيقًا جدًا بشأن “الإصلاح” قبل رفع شعار “الإصلاح من الداخل”. فما الفائدة التي يمكن أن تأتي من السعي لتحقيق “الإصلاح من الداخل” إذا ظهر “الإصلاحيون” في مؤتمر 2020، على سبيل المثال، دون وجود أجندة واضحة للإصلاح أو بدون أفكار للتغيير تكون متجذرة في الاحتياجات الحقيقية؟ لا شك سيكون هناك صرخة لإحداث الإصلاح، وقد تكون حادة وغاضبة، لكن سوف لن يتحقق اي شيء ملموس. بل سيتحول المؤتمر الى مشهد من النزاعات والخلافات، وسيكون النصر من نصيب التيار المناهض للإصلاح. اليس هذا بالضبط ما حدث في المؤتمرات السابقة؟
ومع ذلك، دعونا نفترض من أجل النقاش أنه لدى أنصار “الإصلاح من الداخل” برنامج إصلاح لتقديمه وهم متحدون تمامًا خلفه. فهل سيكون ذلك كافيا لإحداث التغيير؟ الجواب هو حتما كلا. ذلك لأن “الإصلاح من الداخل” مشروط أيضًا بالوفاء بمتطلبات “الداخل”، والذي يفترض على الأقل وجود هيكلية ومسارprocess محدد للقيام بالعمل من أجل ضمان أن جميع القضايا باتت مشمولة، إذ إن الهيكلية والمسار هما العاملان الذين يحددان جدية ومدى التغيير. ودائما ما يحدث التقدم في الإصلاح تقريبًا بما يتناسب مع مستوى العمل والتقيّد بهما. وهناك عوامل أخرى مثل القناعات والمواقف والنوايا مهمة أيضًا ويجب أخذها في الاعتبار.
قد يقول البعض: أن مؤسسات الحزب هي “الداخل”، والأمر كذلك الى حد كبير جدا، على الاقل نظريا. اما اليوم، ومع الأسف، فإن النظري لا ينسجم مع الواقع. لقد أصبحت مؤسسات الحزب غير متجاوبة، وبعيدة عن متناول هدفها الأصلي، وتسيطر عليها، وبإحكام، زمرة لا يهمها سوى مصالحها الخاصة ولا تكترث إلى صيحات المخلصين لـ “الإصلاح من الداخل”. ان مؤسسات الحزب على وضعها الراهن هي اي شيء الا “الداخل”. انها لا تلبي الحد الأدنى من معايير الإدارة الجيدة وتعاني من أوجه خطيرة من عدم الكفاءة، وهذه واحدة من الأسباب التي تجعل “الإصلاح من الداخل” غير ممكن. والا كيف يمكن ان نفسر التراجع الكبير عن الأمل في تحقيق الإصلاح.
قد يقول آخرون: إن “المؤتمر القومي هو “الداخل” الذي يؤمن التعبير والتغيير. صحيح. من المفترض أن يكون المؤتمر العام هو المكان الذي يلتقي فيه المندوبون معا في جو من الروح الرفاقية والتضامن من أجل مناقشة شؤون الحزب والتخطيط لمستقبله. لكن للأسف، لم يعد هذا هو الحال. لقد كان المؤتمر في مرحلته الأولى “مكانًا” للمناقشات والطروحات. اما اليوم فهو “مؤتمر” بالاسم فقط. لقد:
- تم تخفيض مدة المؤتمر من خمسة ايام إلى يومين.
- يستغرق تقرير رئيس الحزب ورئيس المجلس الأعلى معظم اليوم الأول من المؤتمر بما يؤدي الى تقليص الوقت المخصص للمندوبين – وهذه ظاهرة مستحدثة من قبل المهيمنين.
- يبقى للمندوبين مدة زمنية تقل عن نصف يوم للتعبير عن شجونهم وآرائهم، والتي غالباً ما تتحول إلى لعبة لتبادل التشهير وتوجيه الاتهامات.
- لا يتم تخصيص وقت للمندوبين لتقديم أفكارهم بطريقة منظمة وفي الوقت المناسب.
- لا يمكن للمندوبين الوصول إلى مقترحات الإصلاح وحتى إذا أمكن ذلك لا يبقى وقت لدراستها ومناقشتها.
- يتم قضاء معظم وقت المؤتمر في النزاعات الانتخابية وكسب الاصوات.
- يتم تكريس اليوم الثاني من المؤتمر وبالكاملا للانتخابات، التي غالبًا تأتي نتائجها معلبة.
وهنا نسأل بكل جدية: هل هذه بيئة سليمة لـتحقيق “الإصلاح من الداخل”؟ أين هو “الداخل” في كل هذا؟ أين الهيكلية والمسار؟ أين هي المصداقية وأين الجدية؟
لا يجوز ولا يمكن أن نستمر بخداع أنفسنا. لقد أصبح المؤتمر مشهدًا يكون فيه المشاركون مجرد “أقنعة” عائمة. فلقد فقد هدفه كمنصة للإصلاحيين الجادين وأصبح ساحة للانتهازيين والمهيمنين لاستعراض عضلاتهم. فقط اصحاب النية البسيطة والسذّج يمكن أن يروا في المؤتمر إطارًا لـ “الإصلاح من الداخل”.
والآن، دعونا نفترض ان المؤتمر قد استوفى شروط انعقاده لناحية الوقت والمسار واستلام المقترحات وبحثها وإقرارها. هل يكفي هذا؟ الجواب لا. والسبب هو أنه اي محاولة لـ “الإصلاح من الداخل” يجب أن تتم في أجواء محفّزة وعادلة وديمقراطية. هذا الجو غير متوفر في الحزب في الوقت الحالي، حيث تخضع مؤسسات الحزب، بما في ذلك المؤتمر، لسيطرة زمرة من ميكافيليين منغمسين في مصالحهم الخاصة. ان الاجندة والمسار التي تتبعها هذه الزمرة لا تفضي الى الإصلاح، ما لم يكون المقصود من الاصلاح خدمة مصالحها وتسهيلها. بالمنطق والعلم، الهيمنة والإصلاح مصطلحين متناقضين.
لا جدوى لـ “الإصلاح من الداخل” على الاطلاق إذا لم يُستهدف أولئك الذين أوصلوا الحزب إلى حيث هو. والمغزى من هذا هو أن نفهم أن البحث عن الإصلاح قبل تفكيك الهيمنة هو اضاعة للوقت والجهود. إن لم يتم القضاء على الهيمنة من أجل خلق الأجواء المناسبة للإصلاح، فإن الحملة من أجل تحقيق “الإصلاح من الداخل” إما ستفشل أو تنتهي فريسة االمهيمنين الذين ينبغي أن يكونوا هدف الإصلاح في المقام الأول. اما كيف نقضي على الهيمنة، فهذا موضوع آخر يستحق دراسة منفصلة بشأنه.
نحن لا نشك للحظة في نزاهة وصدق دعاة “الإصلاح من الداخل”. لكننا لا نعتقد أن التفكير القائم على التمنيات أو مجرد الشعارات المحضة وحدها ستكون كافية للحصول على الإصلاحات المتوخاة.
ان “الإصلاح من الداخل” مبدأ سامٍ في حد ذاته. ولكن يجب ألا نتوقع انجازه في أي وقت قريب ما لم يتم تلبية متطلباته وتهيئة الظروف المناسبة لتنفيذه.