الإنعزاليون الجدد وحتمية المواجهة – د. إيليا منصور

حكمُ الإعدام الذي أصدره المجلس العدلي اللبناني بحق حبيب الشرتوني ونبيل العلم لن يغيّر شيئاً في الواقع الذي ترسّخ بعد تنفيذ حكم الشعب بتصفية الرئيس اللبناني الإسرائيلي بشير الجميل.

الشرتوني حرٌ طليق تحميه عيون رفقائه وقلوبهم. العلم في ذمة التاريخ الذي لن ينساه. والجميل في مقابر العائلة حيث دُفن معه إلى الأبد حلم “لبنان المجتمع المسيحي” حليف “إسرائيل المجتمع اليهودي”.

لكننا نعترف أن حكم المجلس العدلي أفادنا في مسألة أساسية هي أنه أعاد إلى سطح المستنقع اللبناني الراكد مجموعة حقائق كان الأطراف اللبنانيون (كلهم من دون تسمية أو استثناء) يتبارون في التعمية عليها من ضمن تفاهمات وتوافقات “وطنية” هي في جوهرها نفاق متبادل يسعى كل طرف من خلاله إلى شراء الوقت ريثما تحين اللحظات المناسبة محلياً وإقليمياً ودولياً… وعندها تتساقط أقنعة التكاذب

هذه الأقنعة، لمَنْ كان لا يريد إمعان نظره إلى أبعد من المظهر الخارجي، تكشفت في أقبح صورها عندما تلاقى أقطاب المارونية السياسية الإنعزالية للإحتفال بقرار المجلس العدلي. فجأة عادت إلى ذاكرتنا صورة “الجبهة اللبنانية” سيئة الذكر التي مهّدت وأسسّت وروّجت وحرّضت على نشوب الحرب الأهلية سنة 1975.

يخطيء من يظن بأن مستلزمات الانتخابات النيابية المقبلة هي وحدها التي جمعت “التيار الوطني الحر” و”الكتائب اللبنانية” و”القوات اللبنانية” وشخصيات أخرى تابعة لهذه المجموعات، لأن في ذلك تبسيطاً للأبعاد الإيديولوجية التي تقوم عليها تلك الفئات. إنها الإيديولوجية الطائفية الإنعزالية العنصرية… ونقطة على السطر!

حتى هذه الإيديولوجية، على خطورتها، ليست ما يدفع إلى القلق الشديد. فلقد أظهر حكم المجلس العدلي أن “المارونية السياسية الإنعزالية” لا تريد التخلي عن الإرث الإسرائيلي كما جسّده بشير الجميل منذ 1978 وصولاً إلى الغزو الصهيوني المدعوم من “القوات اللبنانية” سنة 1982. ولذلك فإن “إرث بشير الإسرائيلي” ما زال يشكل نقطة ارتكاز محورية للفكر الإنعزالي العنصري الذي تحمله “القوات” و”الكتائب” و”التيار”. ومن هذا المنطلق، فإن قيادات المارونية السياسية الإنعزالية على أتم الاستعداد دائماً للإنخراط في مخططات الإحتراب الأهلي الذي يتم الإعداد له على كل المستويات.

وفي وقتٍ يتبلور معسكر أميركي ـ إسرائيلي ـ عربي هدفه المعلن التصدي لـ”محور المقاومة”، يبدو أن البحث عن أدوات محلية وجد ضالته في الثالوث الإنعزالي الجديد الذي كان يتحيّن اللحظات المناسبة، مختبئاً خلف شعارات فضفاضة لم تغيّر كثيراً في طبيعته المرتبطة بالمخطط الإسرائيلي.

سنة 1976 تدخل الرئيس الراحل حافظ الأسد في الحرب الأهلية اللبنانية لمنع “هزيمة المسيحيين” في بلد التعايش! وبعد أقل من سنتين، إنقلب بشير الجميل على “منقذيه” معلناً على الملأ تحالفه مع العدو الإسرائيلي الذي قتل عشرات الألوف من اللبنانيين والفلسطينيين في غزوه البربري سنة 1982… بالتعاون طبعاً (أو بالصمت المريب) مع أقطاب “المارونية السياسية” في كل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش.

هؤلاء الإنعزاليون ما تخلوا، إلا كرهاً أو تقية، عن حلم دولتهم المتصهينة. وهم يستعدون الآن لجولة جديدة تدعمها مخططات إقليمية ودولية معروفة. نحن نتفهّم عدم رغبة “محور المقاومة” في توتير الأوضاع الداخلية في الكيان اللبناني بسبب التحديات الكبرى الراهنة على مدى كيانات الهلال الخصيب. لكن حكم المجلس العدلي واحتفالات الإنعزاليين العنصريين بالإرث الإسرائيلي الذي يمثله بشير الجميل تستدعي أن نكشح عن أعيننا غشاوة التكاذب “الوطني”، لئلا نستيقظ غداً فنجد الإنعزاليين والإسرائيليين وحلفاءهم في شوارع بيروت مجدداً… ونستعيد مرة أخرى خالد علوان وحبيب الشرتوني ونبيل العلم لبتر اليد التي تصافح العدو.

وقف أبو الطيب المتنبي ذات يوم في حلب حزيناً قلقاً ليودع سيف الدولة الحمداني وهو يسير على رأس جيشه لمواجهة البيزنطيين الروم. حزنُ المتنبي لم يكن للخسائر المتوقعة بل للخيانات الكامنة، قال:

سوى الروم خلف ظهرك روم

فعلى أي جانبيك تميل!