الإفتتاحية

image_pdfimage_print

لحظات التجلي

في حياة سعاده لحظات مفصلية حاسمة لم تشكل نقطة تحول جذرية في مسيرته على المستوى الشخصي فحسب، وإنما أصبحت علامة فارقة في تاريخ الأمة السورية على مدى أجيال متعاقبة.

هي لحظة التجلي. لحظة اتخاذ قرار لا رجعة عنه، ليبدأ رحلة محددة الأهداف لكن غير واضحة المعالم إلا في وجدانه المتوقد.

هي لحظة تلغي ما قبلها، وتؤسس لمستقبل يُرى بعين العقل وحده.

هي لحظة القطيعة مع كل قيود الماضي تمهيداً للإنطلاق نحو قمم تتراءى من البعيد أعلى وأسمى… وأصعب منالاً!

إحدى تلك اللحظات التاريخية في حياة سعاده، وأهمها لجهة النتائج التي أسفرت عنها، وقفته مع الذات في الأول من آذار سنة 1929، مسجلاً ما يمكن اعتباره يوميات موجزة تختزن وتكشف ما كان يخفق في جوانحه من أفكار بعد تجارب وخبرات مريرة في المغترب البرازيلي الذي جاء إليه سنة 1920.

يقول في يومية الأول من آذار 1929:

… وأعود فأسمع صوتاً آخر يناديني “يا بني أين أنت؟” فأعود إلى التحديق في وجه الأفق وأنادي “يا بلادي أين أنت؟”

أمي وبلادي ابتدءا حياتي وسيلازمانها إلى الانتهاء.

فيا أيها الإله أعني لأكون باراً بهما.

وفي يومية 13 آذار:

سألت نفسي اليوم ما هي قيمة الحياة بدون مبدأ؟

ما هي الحياة بدون مثل منشود؟

ما الغرض من وجود الإنسان؟

وفي يومية 15 آذار:

يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لكي أساعد على ضمد جراح أمتي البالغة.

وفي يومية 23 آذار:

أين الوطن… إلى هناك تشتاق نفسي ويتزايد حنيني…

إنها لحظة القرار القاطع. قرار العودة إلى الوطن لتأسيس حزب يحقق نهضة قومية شاملة في سورية، وينتشل أمة بأكملها من مقبرة التاريخ. قرار يكتنه كل ما سبقه ويستوجب كل ما يأتي بعده. لا تلكوء ولا تقاعس… بل مسيرة ثابتة نحو الأمام بخطوات واثقة، محفوفة بالمخاطر لكنها مكللة بالعز والكبرياء.

هي لحظة التجلي. يطل سعاده على سنواته العشر في البرازيل، مسترجعاً تجاربه في الجمعيات والأحزاب التي انضم إليها أو أسّسها، متفكراً في عشرات المقالات التي نشرها ومئات اللقاءات التي عقدها وألوف المباحثات التي أجراها، مقيّماً حتى تجارب والده العلامة الدكتور خليل سعاده مع الجاليات السورية في الأرجنتين والبرازيل… ليصل إلى حالة الوضوح التام، وتساقط الأوهام والظنون، واستبدال الشك باليقين. إنها لحظة التجلي!

لحظة القناعة بأن سنوات الاغتراب العشر وصلت إلى مداها الأقصى، وأن غالبية من راهن عليهم لإطلاق نهضة قومية في أوساط المغتربين السوريين غير مؤهلين لحمل تبعات العمل التأسيسي الجبار، وأن العمل المجدي فعلاً هو في الوطن.

لحظة الافتراق عن الأهل والأصدقاء، عن حياة الدعة والسكون، ميمماً وجهه نحو المجهول في سوريا، مختزناً في أعماق وجدانه ذلك الموروث الحضاري الذي ميّز عطاء السوريين عبر العصور.

ولم يكن سعاده فريداً في لحظات التجلي. إن لكل واحد منا لحظة للتجلي، لحظة للقرار. أن تنظر في عيني من تحب، وتدرك أنه شريك العمر، هي لحظة التجلي، ولحظة القرار بأن تقفا معاً وتسقطا معاً. أن تلمس يد وليدك أو وليدتك للمرة الأولى، فتسري في عروقك مشاعر الأمومة أو الأبوة، هي لحظة التجلي، ولحظة القرار بأن تكون له أو لها الصدر الحاني دائماً. أن تؤمن بعقيدة تساوي وجودك، ثم أن ترفع يمناك مؤدياً قسم الانتماء إلى الحزب، هي لحظة للتجلي، ولحظة للقرار بأن ترصد حياتك لمجد الأمة ونصرها.

كل واحد منا يجد نفسه اليوم أمام لحظة التجلي ولحظة القرار، سعياً إلى الإجابة على السؤال المصيري التالي: ما ومَنْ جلب على حزبي هذا الويل؟

نحن نعرف “ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟”. سعاده قدّم لنا الإيضاحات الشاملة، فلا مجال للشك في ذلك. لكن ماذا عن الحزب! هذه المؤسسات التي أرادها سعاده “حركة الشعب العامة”، فإذ بها تغرق في تناحرات داخلية، وتتآكل بالفساد والضغينة والمثالب والانحطاط المناقبي والنزعات الفردية والارتهان إلى الخارج.

مَنْ الذي جلب هذا الويل؟

هم قلة… لكنهم مجموعة مهيمنة، نافذة القرار، يسندها أتباع خانعون مستفيدون أو طامعون بالإستفادة. مجموعة أغلقت نوافذ الأمل، فتعطلت قدرات الإبداع وتشرذم الأعضاء وضاعت بوصلة العمل النهضوي.

إنها لحظة التجلي ولحظة القرار. وكلنا مدعوون للمثول أمام تلك اللحظة الفاصلة. إن تجارب الماضي تبقى مجرد علامات على طريق المستقبل. وحدها القطيعة المعرفية تفتح لنا الآفاق البعيدة… وحدها لحظة التجلي تصنع لحظة القرار!

أسرة التحرير

في هذا العدد<< الخلل الكبير في الحزب السوري القومي الاجتماعيهذا العدد >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments