الإعلام “الحزبي” و”التزلف السياسي”
أذكر أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حين كنا مجموعة من الرفقاء القوميين الاجتماعيين في عشرينيات أعمارنا، حديثي العهد في الحزب، متحمّسين لإبراز طاقاتنا وفهمنا للفكر والعقيدة (شايفين الدني ومش مصدقين)، كيف كنّا نتنافس على قراءة كافة المنشورات والكتب والجرائد والكتيبات التي كانت تصدر عن العمدات والمؤسسات الحزبية الثقافية والإعلامية وغيرها، فننكب بكل ما أوتينا على تعيين ما كان تثير فينا المادة المقروءة من فضول وحوافز للاطلاع. ولعل أبرز ما كان يحرك فينا الرغبة للعودة إلى كتب الزعيم ومقالاته، بغية تقصي الحقائق من مصادرها، كانت تلك المقالات والعبارات والمفردات في البيانات الحزبية ومقالات البناء وصباح الخير التي كانت تمرر بين الحين والآخر دونما أية رقابة أو تحقيق من قِبَل المسؤولين المعنيين. فنستل أقلامنا في تقارير إلى المركز نقترح فيها إعادة النظر أو نطلب توضيحاً حول ما يعنيه الكاتب وكان قد بدا ما كتبه مخالفاً للفكر والعقيدة وقاموسنا الحزبي. أو كنا نرفع أصواتنا في الاجتماعات الدورية مصرّين على توضيحات حول عبارات ك”منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، على سبيل المثال، أو ورود كلمات كـ “إسرائيل” أو “الأمة العربية” أو غيرها من التعابير التي تتناقض مع جوهر الفكر القومي الاجتماعي ومبادئ الحزب، في البيانات ومقالات الكتاب القوميين. ونادراً ما كان يأتينا الرد أو التوضيح اللذين كنا نبغيهما، فنكرر المطالبة من دون وهن أو تردد. هكذا نشأنا في الحزب وهكذا مارسنا فهمنا للنهج الذي حدده سعاده.
كانت ردود فعل الرفقاء وتعليقاتهم تنطلق من قناعة متجذرة ومبدئية بأن المنابر الإعلامية والثقافية التابعة للحزب السوري القومي الاجتماعي، أو تلك التي يعتليها مفكرو الحزب وخطباؤه، لا يمكن أن تتضمن ولا بأي شكل من الأشكال مواد لا تتطابق كلياً مع منطلقات الفكر والتوجّه الإعلامي والسياسي المبني على أسس النهضة القومية الاجتماعية. مرجعنا وقدوتنا كانا، وطبعاً وما زالا، المنهجية التي قدّمها لنا سعاده إن من خلال أعماله أو من خلال كتاباته. فسعاده دفع باتجاه أن يكون للحزب منابره الإعلامية والإذاعية القائمة على دعائم العقيدة السورية القومية الاجتماعية، لا غيرها، ونلحظ هذا بمجرد مواكبتنا لعمله في جميع الجرائد والمجلات التي أسسها أو ساهم في تأسيسها أو عمل فيها. فهو لم يساوم في مواقفه المعلنة لا لاسترضاء حليف ولا لمراعاة شعور القرّاء ولا لمواكبة “الموضة” الإعلامية والتعابير الصحفية المعتمدة إبّان المرحلة التي نشط فيها سعادة والحزب عامةّ إعلامياً وإذاعياً وثقافيا.
من هذا المنطلق، ولضمان عدم انحراف أدوات الاعلام الحزبي عن جوهر النهضة، جاء حرص سعاده على أن يشرف هو نفسه على ترؤس تحرير المنشورات والمطبوعات الحزبية. ولمّا استتب الإطار التنظيمي والدستوري والمؤسساتي في الحزب، أوعز لرفقاء رأى فيهم القدرات والمواهب الفكرية لتسلم مسؤوليات تنظيم وإدارة تلك الوسائل والمنابر.
فلنتصور معاً لو أن سعاده كان طلب من ساطع الحصري، مثلاً، تسلم مسؤولية رئاسة تحرير جريدة “الجيل الجديد”، الواجهة الإعلامية للحزب السوري القومي الاجتماعي على الأمة، فيشرع الحصري قلمه محللاً وكاتباً من منطلق “القومية العربية”، غير آبه بكل ما يتعلق بالفكر السوري القومي الاجتماعي.
حتى بعد تنظيمه الحزب مؤسساتياً، لم يغض سعاده الطرف عن المسؤولين الملتزمين بالحزب والمؤمنين بعقيدته، وجميعنا يعلم ما آلت إليه الأوضاع نتيجة طغيان النزعة الفردية عند فايز الصايغ وتماديه في التفرد بـ”سياسة العمدة” إبان توليه كعميد مسؤولية نشرة عمدة الثقافة والفنون الجميلة.
في هذا السياق، لا بد من أن نطرح اليوم السؤال التالي: كيف يُعقل أن تُناط مسؤولية رئاسة تحرير جريدة “البناء”، الواجهة الإعلامية لحزب سعاده، ليس بعميد انحرف عقائدياً أو بآخر تمرّغ في أوحال النزعة الفردية، بل بمواطن يؤمن بتوجه سياسي لا علاقة له بالفكر القومي الاجتماعي، بل يقول بالقومية العربية التي كان لسعاده ولحزبه مع مؤيديها جولات وصراعات دفع فيها السوريون القوميون ضريبة الاستشهاد في سبيل الدفاع عن المشروع النهضوي؟
وتفلت حبّات السبحة في هذه الجريدة فنقرأ فيها تعابير ومفردات لا تمت بصلة إلى مفاهيم سعاده وتعاليم حزبه، فالكيانية في تغطية الاخبار والتطورات واضحة المعالم (على عينك يا تاجر)، وفلسطين لم تعد الجنوب السوري وسكانها أصبحوا “شعب فلسطيني”، و”إسرائيل”، المحشورة بين مزدوجين رفعاً للعتب، لم تعد “الهجرة اليهودية إلى الجنوب السوري” (كما حددها سعاده)، والشام أصبحت “سورية” تجنباً لتسمية الكيانات كما أوحت العقيدة، وكما يشير الدكتور عادل بشارة في مقالة أخرى في هذا العدد، أصبحت “المقاومة” هي هدفنا الأول والأخير، ولم يعد لتحقيق غاية الحزب مكان في أدبياتنا. وغاص المحللون “القوميون الاجتماعيون” في بحور الانتخابات وتشكيل الحكومات والشرائح “السنية” و”الشيعية” و”المارونية” من “النسيج اللبناني”، وغاب صوت سعاده ورأيُنا في الأحداث من منظورنا القومي الاجتماعي. ومن ثمّ يستقبل مسؤولو التنظيم ضيوفهم ويودّعونهم بمثل ما استقبلوهم من حفاوة وتكريم، ويتباحث هؤلاء مع ممثلي الأحزاب والمنظمات بالشؤون والتطورات على الساحتين العربية والدولية ويصدرون البيانات المشتركة بما يعود بخير ومصلحة البلد.
لا يمكن للقوميين الاجتماعيين أن يقبلوا بما هو موجود أو ما هو مفروض عليهم من قِبَل قراصنة المسؤوليات والمراكز القيادية. ورفضهم لهذا الأمر الواقع شرعي انطلاقاً من كونهم أصحاب قضية فيها كل حق وكل خير وكل جمال، وأصحاب مشروع يتعدّى الكيانية العرجاء والعروبة الانفلاشية الغبية، وأصحاب إيمان لا يتزعزع، مهما حاول أصحاب النزعات الفردية كمّ أفواههم واللاهثون وراء المراكز منعهم من إعادة حزبهم إلى الخط الصحيح الذي يضمن تفاعلهم للعمل من أجل تحقيق غاية حزبهم الشريفة.
مقابل هذه الجلبة والغوغائية في إدارة مؤسسات الحزب الإعلامية والثقافية والسياسية يعلو صوت سعاده:
“إذا كانت لا توجد لنا قضية تعني كل وجودنا فلا حاجة بنا للقول بالحزب السوري القومي الاجتماعي. نحن في الحزب لأننا في قضية تجمعنا، من اجلها نقف معاً ونسقط كلنا معاً، والوقوف معاً والسقوط معاً في حركة قوية إما أن نكون غالبين فيها أو مغلوبين، يعني، بما لا يقبل الشك، أننا نؤمن بقضية أساسية جوهرية.”