1

استراتيجية الأمن القومي الأميركي في الميزان الاقتصادي والجيواستراتيجي- رياض عيد

رياض عيد

تثير “استراتيجية الأمن القومي” التي أطلقها الرئيس ترامب  تساؤلات أكثر بكثير من الإجابات التي وفرتها حول كيفية إدارته للسياسة الخارجية. وإذا بالرئيس ترامب يعود بهذه الاستراتيجية إلى مناخات الحرب الباردة التي حكمت استراتيجية أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى بدايات هذا القرن، والتي كان مناخ الهيمنة والصراع الجيواستراتيجي والصراع على الطاقة والمضائق والاقتصاد هو سمة الاستراتيجيات الأميركية السابقة. مع إضافة المبالغة في التشديد على الصحة الاقتصادية والمنافسة والقوة العسكرية الأميركية أكثر من الإدارات السابقة وتصحيح بعض الشوائب وإضاءة بعض نقاط الغموض في السياسة الخارجية الحديثة للولايات المتحدة، سواء من خلال التشديد على المخاطر المتأتية من الصين وروسيا، أو عدم التشديد على “فعل الخير” العالمي ودور أميركا به، أو رفض فكرة أن الانتصار العالمي للقيم الليبرالية أمرٌ لا مفر منه

.

إلا أن “استراتيجية ترامب للأمن القومي” لم تجب عن عدة أسئلة أساسية وهي: هل سقط النظام العالمي الأحادي القطب القديم، وهناك نظام عالَمي جديد ومشترك يسعى إلى التعاون لتحقيق “المنفعة المتبادلة” ويساهم في تقدّم أكثر من مجرّد المصالح الأميركية؟ وهل يستحق هذا النظام الحفاظ عليه والدفاع عنه؟ وما هي الرؤية المحورية حول الانخراط الأميركي في العالم؟ وما هي الأدوات والسياسات العامة التي ستُستخدَم لتعزيز هذه الرؤية؟

إن انبثاق هذه “الاستراتيجية” الجديدة عن الرئيس نفسه، يجعلها أكثر أهمية بكثير من تلك الوثائق السابقة التي طالما صدرت بشكل غير منتظم . فقد أثار ترامب المرشّح والرئيس مراراً وتكراراً التساؤلات حول المضمون الجوهري للانخراط العالمي الأميركي، وأصبحت بعض وجهات نظره المعروفة صريحة في هذه الوثيقة. ويمكن قراءة نظرته القومية للغاية مباشرةً في المقدّمة: “إنّ «استراتيجية الأمن القومي» هذه تضع أميركا أولاً”. إلا أن العديد من وثائق السياسات العامة الماضية اتّسمت بنسخة أخف وطأةً من هذه النبرة القومية. وتشير الوثيقة أيضاً بوضوح إلى الدور الأميركي التقليدي، معتبرة أن “قوة أميركا لا تكمن في المصالح الحيوية الخاصة بالشعب الأميركي فحسب، بل أيضاً في مصالح أولئك في جميع أنحاء العالم الذين يريدون أن يكونوا شركاء الولايات المتحدة، سعياً لتحقيق مصالح وقيم وتطلّعات مشتركة”. وبالتالي، تبدو الرؤية التنظيمية لـ “استراتيجية الأمن القومي” الجديدة كنظرة عالمية توحي بحقبة “القوى العظمى” في القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، تؤكّد هذه الرؤية أن “المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ. والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة”. فلا يجب تجاهل الدبلوماسية، لكن لا بدّ من إعادة هيكلتها “لخوض المنافسة في البيئة الراهنة واعتناق تفكيرٍ تنافسي”. وهذا أمرٌ بعيدٌ كلّ البعد عن الدبلوماسية بصفتها تنظّم وتدير نظاماً عالميّاً تعاونيّاً.

وهناك العديد من المجالات قد جرت تغطيتها بشكلٍ سريعٍ جدّاً في بنود الاستراتيجية. فلم يستحق الشرق الأوسط إلا جزءاً واحداً قصيراً تكلمت فيه عن التوسع الإيراني وانهيار الدولة والإيديولوجيا الجهادية والركود الاجتماعي والاقتصادي والخصومات الإقليمية كمولّدات لعدم الاستقرار، من دون تقديم أي علاج ناجع. بالإضافة إلى ذلك، تصرف الوثيقة النظر عن التشديد على القيم الديمقراطية الخاصة بـ”القوة الناعمة” التي كانت محورية كغطاء لترسيخ النفوذ الأميركي في المنطقة مما يشكّل نداءً خافتاً للتأهب، أو تسليماً بالأمر الواقع الذي فرضته إيران وحلفها.

وركزت الاستراتيجية الجديدة على أربعة محاور: أولاً، حماية الولايات المتحدة وشعبها. ثانياً، تعزيز ازدهارها. ثالثاً، ضمان «السلام من خلال القوة». رابعاً، تعزيز النفوذ الأميركي. وأكد مسؤولون في إدارة ترامب أن المغزى من هذه الاستراتيجية أن واشنطن تدرك التحولات الجديدة و«عالماً من المنافسة»، مشيرين إلى الصين وروسيا لاعبين أساسيين في منافسة الولايات المتحدة.

في قراءة الاستراتيجية من الجانب الاقتصادي

أكد الرئيس ترامب أولوياته في السطر الثاني من استراتيجيته فقال: “سنعيد تنشيط اقتصادنا، وسنعيد بناء جيشنا”. وهذه الأولويات تحمل اعترافاً ضمنياً في تشخيص واقع الولايات المتحدة الضعيف وسبل المعالجة.

فقوله “سنعيد تنشيط اقتصادنا” يعني أن الاقتصاد الأميركي لا زال ضعيفاً ويتخبط في كبوته التي وقع فيها منذ الأزمة المالية والاقتصادية الدولية في العام 2008، ولم يستطع حتى الآن الخروج منها ومن ارتداداتها. وبدلاً من الإضاءة على فشل نظام النيوليبرالية بسبب هجرات الشركات الأميركية إلى الشرق الأقصى حيث اليد العاملة الرخيصة ما أحدث بطالة وركود كبيرين في الاقتصاد الأميركي، برر ذلك “بالممارسات التجارية غير العادلة التي أدت إلى إضعاف اقتصادنا وإضعاف فرص العمل في الداخل الأميركي، وبتقاسم غير عادل للأعباء مع حلفائنا، ونقص حجم استثمارنا في الدفاع عن أنفسنا مما سمح ببروز تهديدات من أولئك الذين يرغبون في الإضرار بنا“.

وقال “إن الولايات المتحدة لن تتسامح بعد الآن مع العدائية الاقتصادية أو الممارسات التجارية غير العادلة”. وهنا يتضح أن الولايات المتحدة والرئيس ترامب خصوصاً يتهم الصين بما يسميه العدائية الاقتصادية أو الممارسات التجارية غير العادلة، لتبرير حجم العجز التجاري الضخم التي ترزح تحته الولايات المتحدة اتجاه الصين. لكن بالنظر إلى الأرقام، يبدو أن الرئيس ترامب واهماً أو أنه لم يقم بالقراءة الصحيحة لأرقام التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين خلال العام 2017. فالعجز مع الصين في العام 2016 وصل إلى 347 مليار دولار، ولكنه يسير على مسار الوصول إلى 368 مليار دولار في نهاية العام 2017 بحسب الدراسة التي أعدها مركز بحوث الكونغرس في آب 2017. ووفق أرقام وزارة التجارة الأميركية للعام 2017 حتى تشرين الأول 2017 أي الشهر العاشر، فقد وصل مستوى العجز التجاري مع الصين إلى 308 مليارات دولار قبل شهرين من انتهاء العام. وبالنظر إلى أرقام أشهر العام 2017 المتوافرة حتى تشرين الأول، فإن المعدل الوسطي للعجز الشهري هو 31.3 مليار دولار. فإذا أضفنا قيمة الشهرين الأخيرين للوصول إلى نهاية العام 2017 تكون قيمة العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين قد وصلت إلى 368 مليار دولار أو ما يفوق ذلك. فليخبرنا الرئيس ترامب ما هي الإجراءات العملية التي سيتبعها كي لا يتسامح بعد الآن مع العدائية الاقتصادية أو الممارسات التجارية غير العادلة؟ علماً أن توقعات هذا الخلل بالميزان التجاري مع الصين مرشحة للزيادة حتى عام 2030 وفق تقدير الخبراء الاقتصاديين الأميركيين. هذا إضافة إلى أن الكثير من التقارير الاقتصادية الأميركية تشير إلى سعي إدارة ترامب لرفع سقف الدين الأميركي إلى حوالى 22 تريليون دولار في بداية العام الحالي. وهذا العجز أيضاً مرشح للاستمرار.

وفي المحور الثاني من استراتيجيته للأمن القومي المعنون بـ “تعزيز الازدهار الأميركي” ووضعه تحت شعار “الأمن الاقتصادي هو أمن قومي”، نجد ما يدهش. ففي مطلع هذا المحور تنص الوثيقة الاستراتيجية على “أن الاقتصاد المتنامي والابتكاري يسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على موقعها كصاحبة أقوى جيش في العالم ويمكنها من حماية الوطن”. والصدمة الكبرى حينما تصف الوثيقة الاستراتيجية الواقع الاقتصادي الأميركي بما يلي: “إن النمو الاقتصادي العام منذ ركود عام 2008 وحتى مرحلتنا الراهنة لا يزال ضعيفاً جداً، وفي السنوات الخمس الماضية بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي ما لا يزيد عن 2 في المائة، وجمدت الرواتب – أي لم يطرأ عليها أي تعديل. بالمقابل زادت الضرائب، واستمرت كلفة التأمين الصحي وكلفة الفاتورة الطبية في الارتفاع، وارتفعت كلفة التعليم بمعدلات أعلى بكثير من نسبة التضخم مما زاد من ديون الطلاب، وانخفض نمو الإنتاجية إلى مستويات لم تشهدها البلاد منذ عقود”.

أمام هذا الواقع الاقتصادي الذي تصفه الوثيقة نفسها، وتطبيقاً للمعادلة التي وضعها الرئيس ترامب نفسه “الأمن الاقتصادي هو أمن قومي”… فعن أي أمن قومي يتحدث إذا كان الاقتصاد الأميركي شبه مشلول، ويمر بمرحلة انخفاض في الإنتاجية لم تشهدها البلاد منذ عقود وفقاً لحرفية ما ورد في هذه الوثيقة؟

وما يجعل الصدمة كارثية أن هذه الوثيقة نفسها تحمل في طياتها عبارة تدل على ما يشبه أحلام اليقظة لدى واضعها حين يقول: “بعد عام واحد، العالم يعرف أن أميركا مزدهرة، أميركا آمنة، وأميركا قوية”. وكيف تكون أميركا قوية وفي مقطع آخر من استراتيجيته يقول “سنعيد تنشيط جيشنا”؟ يعني أن هناك تحديات جديدة برزت جعلت ​الجيش الأميركي​ يحتاج إلى تطوير إمكاناته وسد ثغراته كي يستطيع مجاراة هذه التحديات والتكيف معها ومواجهتها. لذا رصدت الميزانية الأميركية الجديدة للدفاع حوالى 700 مليار دولار. فهل تتعمد إدارة ترامب خداع الشعب الأميركي من خلال تسويق هذه الادعاءات!

أما قراءة الاستراتيجية من الجانب الجيواستراتيجي، ففي النص تحدد إدارة ترامب ثلاثة تهديدات رئيسة على أمن البلد هي: “طموحات روسيا والصين، والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، والجماعات الإرهابية الدولية الهادفة إلى العمل النشط ضد الولايات المتحدة”.

وكان لافتاً وصف الولايات المتحدة  هذه المرة روسيا والصين بـ”المنافسين الرئيسيين” لها على الساحة الدولية بسبب تنامي تأثيرهما الجيواستراتيجي، ما يؤكد أن الولايات المتحدة تدخل “عصراً جديداً من التنافس”، تتحداها فيه روسيا والصين. وأكد ترامب أن الاستراتيجية الجديدة تتضمن “الاعتراف، سواء طاب لنا ذلك أم لا، بأننا دخلنا عصراً جديداً من التنافس، ونعترف بأن العالم بأكمله يشهد الآن مواجهات عسكرية واقتصادية وسياسية، حيث نواجه الأنظمة المارقة التي تهدد الولايات المتحدة وحلفاءنا، ونواجه أيضاً الجماعات الإرهابية والشبكات الإجرامية العابرة للحدود وغيرها من الأطراف التي تنشر العنف والشر حول العالم”.

واتهمت الاستراتيجية روسيا بانها تطبق “وسائل تخريبية” من أجل إضعاف مصداقية الولايات المتحدة تجاه أوروبا، وتقويض الوحدة عبر الأطلسي، وإضعاف الحكومات والمؤسسات الأوروبية، والعمل على زعزعة استقرار الفضاء الرقمي، والتدخل في جورجيا وأوكرانيا باعتبار أن روسيا تظهر بذلك “استعدادها إلى خرق سيادة دول المنطقة” وتحاول “ترعيب دول الجوار بتصرفاتها المهددة، بما فيها استعراض قدراتها النووية والانتشار الأمامي للقوات”. واعتبرت أن “استثمار روسيا في تطوير القدرات العسكرية الجديدة كان ولا يزال يشكل أحد أخطر التهديدات” على الأمن القومي الأميركي. وأكدت أن “الولايات المتحدة وأوروبا ستعملان سوياً لمواجهة نشاط روسيا التخريبي وعدوانيتها، وكذلك التهديدات من قبل كوريا الشمالية وإيران”.

وحذرت استراتيجية ترامب من “أن روسيا والصين تنافسان خصائصنا الجيوسياسية وتحاولان تغيير النظام الدولي لصالحهما. وعلى الرغم من ذلك، لن تفلح سياسة الردع كما كانت أيام الحرب الباردة. فقد درس الخصوم الطريقة الأميركية في الحرب وبدأوا الاستثمار في القدرات التي استهدفت نقاط قوتنا وسعوا إلى استغلال نقاط ضعفنا”.

يتضح من استعمال الوثيقة لهذه التعابير بشأن الصين وروسيا أن الدولة العميقة في أميركا قد انتصرت على الرئيس ترامب، وعادت قواعد وأدبيات الحرب الباردة والصراع الجيوبوليتيكي واستراتيجية بريجنسكي حول صراع الأوراسيتين  تتحكم باستراتيجية ترامب. فتأكيد الاستراتيجية الأميركية على أن روسيا والصين تنافسان “خصائصنا الجيوسياسية وتحاولان تغيير النظام الدولي لصالحهما”، يثبت ذلك. فأين هي الخصائص الجيوسياسية الأميركية في خليج البنغال وبحر الصين اللذين تعتبرهما الصين منفذاً آمناً لأمنها الطاقوي والتجاري للخروج من تطويق أميركا لها في مضيق ملقا؟ أم في أوكرانيا وجورجيا؟ أم في سوريا؟ أم في أفغانستان؟ وكل هذه المناطق التي تشكل بؤراً للتوتر التي أحدثتها أميركا تقع على حافة اليابسة لأوراسيا التي تعتبرها روسيا الساتر الدفاعي عن أمنها القومي. من الذي يتدخل في الخصائص الجيوسياسية للآخر؟ روسيا والصين أم أميركا التي تؤجج بؤر التوتر على تخوم روسيا والصين وعلى بعد آلاف الأميال عن حدودها؟ بالأمس قررت أميركا إعادة تسليح أوكرانيا وهي تدرك أن هذا التسليح يمثل انقلاباً على تفاهمات منسك ولن يغير في التوازن الاستراتيجي العسكري المائل لمصلحة لروسيا، بل يزيد حدة التوتر معها، حيث أكدت رئيسة ​مجلس الاتحاد الروسي​ ​فالينتينا ماتفيينكو​” أن ​الولايات المتحدة​ تحاول الحفاظ على هيمنتها بأي ثمن، وأن استراتيجية ​الأمن القومي الأميركي​ تهدف إلى المواجهة وليس إلى التعاون”. وأشارت أيضاً إلى أن “الوضع في العالم مقلق بالطبع، ويجب الإقرار بذلك بشكل صادق، فالتوتر يزداد، وحدة المواجهة تزداد”، مشددةً على أنه “يمكن تفسير ذلك بأن الولايات المتحدة تحاول بأي ثمن الحفاظ على هيمنتها في العالم في ضوء التشكل النشيط لعالم متعدد الأقطاب”. وكذلك صرحت الصين بأن استراتيجية الأمن القومي الأميركية تعكس “ذهنية الحرب الباردة” و”الطابع الإمبريالي” لدى واشنطن.

ومنذ أيام صرحت أميركا بأنها لن تسحب جيشها من سوريا والعراق مدعية أنها تحارب الإرهاب الذي أوجدته ليكون اداة لحروبها بالوكالة، وانها بتواجدها تمنع إيران من الهيمنة على سوريا والعراق، الدولتين اللتين تربطهما مع إيران تحالفات أثبتت جدواها على أرض الواقع.

يدرك واضعو الاستراتيجية الجديدة وكل الاستراتيجيين في العالم أن واشنطن غير قادرة على شن حروب جديدة في ظل وضعها الاقتصادي المتردي وعزلتها الدولية وانفكاك الكثير من حلفائها عنها. لكنها تصعد حدة التوتر مع العملاقين المنافسين لها، الروسي والصيني، للتغطية على أزماتها الداخلية والاقتصادية. وتدعي اشنطن أنها “ستقوم بنشر المنظومة المضادة للصواريخ المتعددة المستويات” بغية الدفاع ضد الهجمات الصاروخية المحتملة التي مصدرها إيران وكوريا الشمالية. إنما الحقيقة أن أميركا تحاول نشر صواريخها في كوريا الجنوبية ووسط آسيا والخليج لتطويق الصين وروسيا، وللضغط عليهما بهدف الدخول معهما بشراكة وفق المنطق الأميركي للهيمنة، في مشاريع أوراسيا التي من يتحكم بها يتحكم بمستقبل القرن الحادي والعشرين. هذا المنطق الإمبريالي الأميركي أهم عناوينه: اقتسام جديد لموارد الكون وأسواقه تكون لأميركا حصة الأسد فيه. وإبقاء نظام البترودولار كعملة تسعير للتبادل الطاقوي في المستقبل وفي أوراسيا تحديداً التي بدأت تسعير التبادل التجاري والطاقوي بينها بالعملة المحلية. وإبقاء النظام القائم للتحويلات التجارية “السويفت” الذي تسيطر عليه أميركا. هذا المنطق ترفضه روسيا والصين وتتمسكان بمنطقهما للتنمية والتبادل الحر بين الدول لتأمين المنفعة المشتركة.

أختم مع جوزيف ناي، سكرتير مساعد وزير الدفاع السابق، والاستاذ في جامعة هارفارد، مؤلف “القوة الناعمة” و”مستقبل القوة”، إذ يقول: “لقد تغير الكثير في عصر الإنترنت، ولكن الجغرافيا تظل تشكل أهمية كبيرة، على الرغم من موت المسافات المزعوم. ففي القرن التاسع عشر، كان قدر كبير من المنافسة الجيوسياسية يدور حول “المسألة الشرقية” المتمثلة في تحديد من سيتحكم في المنطقة التي تحكمها الإمبراطورية العثمانية المنهارة. وقد أثارت مشاريع البنية الأساسية مثل خط السكك الحديدية من برلين إلى بغداد التوترات بين القوى العظمى. فهل تحل محل هذه الصراعات الجيوسياسية الآن المسألة الأوراسية؟”

مع مبادرة الحزام والطريق، تراهن الصين على ماكيندر وماركو بولو. ولكن الطريق البري عبر آسيا الوسطى سوف يعيد الحياة إلى “اللعبة الكبرى” من القرن التاسع عشر في المنافسة على فرض النفوذ، والتي تورطت فيها بريطانيا وروسيا، فضلاً عن إمبراطوريات سابقة مثل تركيا وإيران. وفي الوقت نفسه، يبرز “الطريق” البحري الذي يمر عبر المحيط الهندي المنافسة الصينية المحمومة بالفعل مع الهند، مع تصاعد التوترات بشأن الموانئ الصينية والطرق عبر باكستان.

وتراهن الولايات المتحدة على ماهان وكينان، بينما تراهن الصين وروسيا على ماكندر وماركو بولو. وتتمتع آسيا بميزان قوى خاص بها. الواقع أن مشكلة الصين الحقيقية هي “الاحتواء الذاتي”. فحتى في عصر الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية، تظل النزعة القومية هي القوة الأشد بأساً.

 

رياض عيد