1

اختطاف الحزب

إن السؤال الأكثر تداولاً خلال الأزمة الحالية في الحزب السوري القومي الاجتماعي هو: ما الذي جلب على الحزب كل هذا الويل؟ والجواب الأكثر ترداداً على ألسنة الرفقاء كان ولا يزال: “لأن الحزب قد اختطف”.

هذا ليس أمراً مثيراً للضحك، بل يشكل مسألة خطيرة تحتاج إلى انتباه وموقف حاسم وفوري. لقد تم الاختطاف بالفعل، والحزب يعاني وينزف من جرّاء ذلك. العديد من الأعضاء، الذين أصابهم الإحباط وخرجوا عن طورهم، يتساءلون ويطالبون بالأجوبة. ولكنهم لا يحصلون على أي منها ممن يفترض بأنهم مسؤولون، أو يتلقون ردوداً مخيبة للآمال

لا يكفي أن نقول: “لقد تم اختطاف الحزب”. بل يجب علينا محاولة فهم كيف حدث هذا الاختطاف، ولماذا حدث، والتداعيات التي يمكن أن تترتب على الحزب جراء ذلك.

اختطاف الأحزاب السياسية ليس أمراً جديداً أو غير مألوف. فقد سقط العديد من الأحزاب السياسية في جميع أنحاء العالم، عند نقطة معينة، ضحية للاختطاف ودفعت ثمناً غالياً نتيجة ذلك. تمكن بعض الأحزاب من إنقاذ نفسه، وأحزاب أخرى لم يحالفها الحظ في ذلك.

ماذا يعني اختطاف حزب؟ يتم اختطاف حزب سياسي عندما تسيطر زمرة صغيرة، غالباً ما تكون منظمّة حول “رجل قوي”، على مؤسسات الحزب ومركز صنع القرار فيه، وذلك بهدف استخدامه كمنصات انطلاق لبرنامج يخدم مصالحهم. وعادة ما يتم وضع هذا البرنامج  بحيث يتماهى مع أيديولوجية الحزب أو برنامجه وذلك لتجنب الشكوك. ويتم تعيين واعتماد أعضاء منه من خلال إعادة التأكيد لهم أن انتزاع السلطة كان ضرورياً لحماية الحزب من الاتجاهات المنحرفة وجشع الطامعين السياسيين في صفوفه. وهكذا، تصبح “الزمرة” مجموعة من المدعين العامين والقضاة والمتنفذين، وجميعهم في لفة واحدة.

ويتوافق الاختطاف عموماً مع نمط نموذجي ثلاثي المراحل. تشمل المرحلة الأولى فعل الاستيلاء على زمام السلطة، وقد يحاول أعضاء “الزمرة”، في حالات نادرة، الحصول على السلطة من خلال الإطار القانوني للحزب إذا هم شعروا أن لديهم فرصة جيدة للفوز. ويصبح الخطف ساري المفعول في هذه الحالة من خلال وسائل مختلفة تتراوح من المناورة الدستورية إلى المؤامرة الخفية الخاصة، ومن ثم سياسة الذراع القوية. لكن الانقلاب هو أكثر طرق الاختطاف شيوعاً، بما يعني  الاستيلاء غير المشروع والعلني على السلطة عن طريق القوة. وتبدأ هذه الزمرة، بدافع من شهوة السلطة، حملتها للاستيلاء على الحزب بما يسمى “تمرد المطبخ” من الداخل أو “انقلاب القصر” في فعل قد ينطوي أو لا ينطوي على إراقة الدماء. وتكون عملية الإطاحة داخلية، وهدفها ليس تدمير الحزب بل الإطاحة بالإدارة الحاكمة. ويتم الحفاظ على الحزب ليكون بمثابة قاعدة قوة للزمرة ومظلة “قانونية” لجدول أعمالها غير المعلن.

المرحلة الثانية هي مرحلة الاندماج، إذ ستسعى الزمرة بمجرد وصولها إلى السلطة، إلى تعزيز قبضتها على الحزب، وذلك بكل الوسائل المتاحة لديها. وسيعتمد اختيار الوسائل على مدى المقاومة الداخلية لفعلها، فإذا كانت المقاومة منخفضة ـ بما يكون إزعاجاً بسيطاً، ولكن لا شيء ليتم القلق بشأنه – أو إذا كانت الزمرة تشعر أنه بالإمكان تجاهل ذلك لأنه لا يوجد من يهدد خططها بشكل جدي، فعادة ما تكون الوسائل على مستوى منخفض تهدف إلى خداع الناس للاقتناع. لكن من ناحية أخرى، إذا كانت المقاومة قوية، يتم استحضار وسائل أكثر شراً. وقد يشمل ذلك أشياء من قبيل: 1 ـ تلفيق الأكاذيب والشائعات بانتظام عن القادة المخلوعين. 2 ـ تعبئة الخصوم واحدهم ضد الآخر. 3 ـ إجراء صفقات جانبية لتفريق المقاومة. 4 ـ السمسرة على وعود مبالغ فيها بإسراف لتحويل الانتباه. لكن عندما يفشل كل شيء، فإن المسار التالي للعمل يهدف إلى خلق الخوف والشك.

المرحلة الثالثة هي مرحلة الحفاظ على السيطرة. كما أشير إليه أعلاه. لا تقوم الزمرة بهذه اللعبة للحصول على مكاسب سريعة، ولكن لتكون هذه المكاسب على المدى الطويل، ولن تتوقف عند أي شيء من أجل الاحتفاظ بالسلطة والحصول على السيطرة الكاملة. وسوف تستخدم أي تكتيك ضروري، قديماً كان أو جديداً، منظوراً أو غير مرئي، للحفاظ على مكاسبها وتعزيز مكانتها. وقد يتراوح مثل هذا التكتيك بين القيام باغتيال الشخصيات ومزاعم الخيانة إلى الأذى الجسدي المباشر. وقد تحاول الزمرة أيضاً تشريع حكمها من خلال تعزيز المعتقدات والقيم الملائمة لأعضائها، وذلك عن طريق تطبيع هذه المعتقدات وإضفاء الطابع العالمي عليها لجعلها بديهية ولكي تبدو أن لا مفر منها، عن طريق الإساءة إلى الأفكار التي قد تتحداها من خلال استبعاد أنماط الفكر المنافس، ربما عن طريق بعض من المنطق غير المعلن ولكن المنهجي، وإخفاء الواقع السياسي بطرق تكون ملائمة لها.

يقول علماء النفس وعلماء الاجتماع إن الزمرة الحاكمة تحتفظ بالسيطرة من خلال نشر الأكاذيب عن تهديد وشيك الحدوث، وتصوير اعضائها على أنهم الخلاص الوحيد. ويساعد تصنيع التهديد الخارجي أو حياكة القصص التآمرية على إبقاء الحزب بعيداً عن التوازن ومصاباً بجنون العظمة  بشكل جماعي .

وبإمكان الزمرة أيضاً السيطرة على الحكم باستخدام أدوات أكثر فعالية، مثل الخوف، والسيطرة على المعلومات، وصناعة الأساطير. وهذا يرتبط بما يسميه علماء السياسة “توطيد مناعة الانقلاب”، بما يشمل تدابير لحماية سيطرتها. وهذا يمكن أن يتراوح بين تعزيز النواة الداخلية لكل المؤيدين والموالين جداً لها، وتطوير شبكة تجسس للتجسس على أعضاء الحزب، وعزل أي صانع محتمل للانقلاب داخل الزمرة، والتواطؤ مع أجهزة خارجية، وتعيين مسؤولين ومستشارين مخلصين بما يشبه التدين، وتطهير الحزب من الأصوات المعارضة ومن المثقفين الساخطين، ومكافأة المتملقين والموالين، والتلاعب بالدستور والعملية الانتخابية، وما إلى ذلك من القائمة التي لا حصر لها. وفي هذه الأثناء، يسمح بالجوانب الأكثر سطحية أن تظهر في عملية تنافسية، ولكن تتم حراسة المفاصل الرئيسية للسلطة بشكل محكم.

الآن، إذا كنت تعتقد أن هذا الأمر لا يمكن أن يحصل في حزبنا، فعليك إعادة التفكير مرة أخرى. إن مسار الحزب من عام 1985 حتى يومنا هذا يشبه إلى حد كبير النمط المذكور أعلاه. وهو أمر شديد الوضوح إذا أمعنت النظر بما فيه الكفاية. وإذا كان هذا هو الحال، وهو كذلك، ينبغي ملاحظة الحقائق التالية:

1 ـ إن اختطاف الحزب أمر غير مقبول، أخلاقياً ودستورياً على حد سواء، لأن ذلك هو انحراف واضح عن المعايير الصارمة التي وضعها سعاده، ونفي لتعاليمه ونموذجه الذي لا مثيل له. وكما هو عليه في واقع الحال، لا يحمل الحزب عملياً أي سمة من سمات نظام الديموقراطية التعبيرية الذي أعلنه سعاده، والقائم بشكل أساسي وجوهري على مبدأ الأهلية والكفاءة. فالزمرة تسيطر عليه بإحكام، ودستوره يتعرض للعبث. وبما أن جسده الانتخابي مخترق، فبالكاد يحقق أي شرط من شروط “التعبير”، وأقلها الوعي والوضوح والثقة. إن هذا الانتهاك هو انتهاك خطيرجداً، تماماً كما هو عليه الحال اليوم في الحزب. فنظام الديموقراطية التعبيرية جزء لا يتجزأ من نظرة الحزب الأساسية إلى الدولة وإلى المجتمع، إذا تم التلاعب به يكون التلاعب قد طال الأساس.

2 ـ إن ظاهرة “الزمرة” والعملية برمتها التي تم من خلالها اختطاف الحزب ـ بدءاً من الاستيلاء على السلطة بشكل غير قانوني والتواطؤ مع قوة خارجية لاستخدام تكتيكات ماكيافلية انتهازية للبقاء في السلطة – هي معادية لـ “نهج” سعاده الذي يستند إلى أعلى معايير الأخلاق والشفافية والوضوح. ولم يكن سعاده ليوافق أبداً على “نهج” ينتهك بشكل صريح الأسس التي يقوم عليها “نهجه”. ولا ينبغي لنا نحن أن نفعل ذلك. ثم هناك مسألة الشرعية، وعادة ما تأتي الشرعية من خلال الفوز في انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية. ولكن نادراً ما تأتي سلطة الزمرة نتيجة لمثل هذه الشرعية. وحتى عندما يحصل مثل هذا الشيء النادر، يكون اللجوء إلى تكتيكات غير قانونية للبقاء في السلطة هو في حد ذاته انتهاك لمبدأ الشرعية.

3 ـ الإصلاح تحت مظلة “زمرة” قد اختطفت الحزب يكاد يكون من المستحيل. وتظهر الدراسات العلمية للأحزاب السياسية التي سقطت ضحية الاختطاف أنه بمجرد أن تسيطر زمرة على مقاليد حزب، فإنها ستحاول منع أي تغيير أو إصلاح يمكن أن يقلل أو يقيد من سلطتها أو يمكن أن يؤدي إلى حالة قد تظهر للملأ التعديات التي يقوم بها أعضاؤها. وتشير الدراسات نفسها إلى أن أعلى مستوى من الإصلاح يمكن تحقيقه تحت ظل “الزمرة” هو التفاوض على التسويات أو الحلول الوسط التي تطيل فترة بقاء الزمرة في السلطة، وتؤخر الإصلاح الحقيقي، وتهضم المعارضة. ومن خلال التعاون، يصبح مصير الزمرة وأولئك الذين تم اختيارهم للتشارك متشابكاً. وحيث يكون عادة بإمكانك إلقاء اللوم على الزمرة وحدها، يصبح الأمر ليس فقط معها والخطأ ليس فقط خطأها، بل أيضاً مع شركائها والمتعاملين مع أخطائها وارتكاباتها، أولئك الذين تم اختيارهم والقبول بهم كشركاء. ولكي لا يفقدوا مزاياهم وامتيازاتهم، والسيارات الفاخرة، والشقق بدون إيجار، فإن أولئك الذين تم اختيارهم ليكونوا شركاء لا يرغبون في تفكيك النظام الذي اختارهم. وبناء على ذلك، فإن السعي إلى الإصلاح يُسحق بين المتعاونين والمتعاون معهم.

4 ـ يشكل حكم الزمرة هذا سابقة خطيرة. وهو يشوّه صورة الحزب ويحرف مساره ليضعه في اتجاهات خطرة. وكلما انزلق الحزب في مسار حكم الزمرة، كلما انحرف عن النهضة لأنه لا يمكن التوفيق بين تطلعات واحتياجات الزمرة وبين تطلعات واحتياجات النهضة. لذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار هذا التضارب في المصالح على محمل الجد وذلك بهدف وضع استراتيجيات مضادة من شأنها عكس مسار هذا الوضع وضمان عدم ظهوره مرة أخرى.

 5 ـ إن فكرة “الزمرة” مغايرة تماماً لثقافة الحزب وثقافة الأمة. وهي في الواقع فكرة من أصل يهودي، والنموذج المبدئي لما يسمى “كابال”، الذي يشير إلى مجموعة من الناس متحدين معاً لأمر وثيق، وعادة ما يكون لتعزيز وجهات نظرهم الخاصة من خلال المؤامرات. ويحمل هذا المصطلح عادة دلالات قوية من الصفقات الخفية التي تتم في الظل، وتسويات الغرفة الخلفية والممارسات الخبيثة.

إذا كنا جادين بشأن مستقبل نهضتنا، يجب أن نكون مستعدين للاعتراف: أولاً، أن الفيروس القاتل المعروف بـ “اختطاف الأحزاب” قد امتد إلى حزبنا. وثانياً، أننا لا نستطيع انقاذ الحزب من هذا الفيروس عبر أنصاف الحلول والمسكنات القصيرة الأجل، إذ لا شيء أقل من العمل الجراحي الجذري الذي من شأنه نفي الفيروس من جسد الحزب واستئصال الورم الذي سببه وأدى اليه.

إذا كان علينا أن نعمل، فيجب أن يكون ذلك الآن أو لا أبداً. وإذا لم نتصرف، سواء كان ذلك خوفاً أو جهلاً، سنكون بذلك قد اعترفنا بأننا غير قادرين على تخليص الأمة من الفيروسات العديدة التي تصيب جسمها الذي يتحلل بشدّة.